أهملت الحكومات العراقية المتعاقبة ملف مسرح الطفل الذي بدأ من النشاط المدرسي في أربعينيات القرن الماضي وصولاً إلى وقتنا الحالي، حيث يحاول مسرحيون العمل بجهود فردية للنهوض بهذا الفن المعقد ومتداخل الاختصاصات.
وشهد مسرح الطفل نقصاً حاداً وخطيراً في ثقافة الطفل عامة، على الرغم من وجود بعض الأنشطة الفردية والإصدارات والبرامج المحدودة هنا وهناك، التي تفتقر في معظمها إلى تخطيط وأسس علمية مدروسة وموضوعية وفقاً لأهداف المجتمع والدولة.
لهذه الأسباب "تلكأت تجربة مسرح الطفل في العراق" بحسب بحث حمل عنوان "نظرة تاريخية في مراحل تطور تجربة مسرح الطفل في العراق" للدكتور حسين علي هارف.
وتعرض لتاريخ مسرح الطفل بالقول إن الرحلة بدأت خلال أربعينيات القرن الماضي من خلال النشاط المدرسي، ولم تبدأ المحاولات الأولى إلا مع مطلع العقد الخامس من القرن العشرين. حين ظهرت بوادر ومحاولات جادة لإخراج المسرح المدرسي من محيطها الضيق إلى الصالات العامة ومحاولة الاقتراب من مسرح الطفل وتلمس الطريق نحوه.
من هذه المبادرات ما قام به الفنان عبد القادر رحيم الذي استمد مواده الدرامية من قصص ألف ليلة وليلة وقصص التراث العربي وقدمها في عروض مسرحية موجهة للأطفال، التي اعتبرت مرحلة تمهيدية لمسرح الطفل في العراق.
ولم يشهد مسرح الطفل في العراق تطوراً خلال عقد الستينيات، إذ اقتصر الأمر على اجتهادات ومبادرات فردية شحيحة. ولم يسجل الباحثون سوى ثلاث محاولات مسرحية متباعدة ومتناثرة.
في نهاية الستينيات دعت وزارة الثقافة العراقية لتأسيس مسرح للأطفال.
الانطلاقة والانحسار
توافرت الأرضية المناسبة في عقد السبعينيات للشروع في تجربة التأسيس الحقيقي لمسرح الطفل وزيادة الوعي الثقافي والفني والتخطيطي لدى القائمين عليها والعاملين من كتاب ومخرجين وممثلين وفنيين.
وشرعت الفرقة القومية للتمثيل في ولوج ميدان مسرح الطفل، لتقدم عام 1970 مسرحية "طيور السعد" التي اعتُبرت الانطلاقة الحقيقية للمسرح.
وسرعان ما انتشر مسرح الطفل في المحافظات لتتكون فرق مسرحية تابعة لمجلتي "المزمار" و"مجلتي" وفرقة الإذاعة والتلفزيون، كما تأسست فرق في المحافظات منها فرقة النجف للتمثيل وفرقة كربلاء وفرقة ديالى وعدة فرق في البصرة.
وفي الثمانينيات، شهد مسرح الطفل انحساراً كبيراً بفعل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن اندلاع الحرب العراقية الإيرانية التي ألقت بظلالها على المشهد الثقافي عامة، فشحت العروض في بغداد وبقية المحافظات.
استمر هذا الانحسار في التسعينيات، فتراجعت عروض مسرح الطفل بمحافظة بغداد، لتشهد 30 عرضاً مسرحياً فقط، كان لدائرة السينما والمسرح والفرقة القومية للتمثيل الحصة الأكبر منها، أما نصيب المحافظات الأخرى فكان سبعة عروض.
غياب الدعم وابتعاد المسرحيين
تمتد تجربة الفنان المسرحي محمود أبو العباس في مسرح الطفل منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، حين بدأ بتقديم المسرحيات في المدارس الحكومية العراقية.
يقول لـ"ارفع صوتك": "كشباب يدرسون الفنون الجميلة كنا مهتمين جداً بمسرح الطفل، لأنه كان فناً مهمشاً ومجالاً من الصعب الخوض فيه".
ويُنظر لمسرح الطفل على أنه "سهل"، يضيف أبو العباس، مبيناً "في الحقيقة هو معقد جداً وفيه الكثير من الاختصاصات المتداخلة. تبدأ من علم النفس حتى علم الاجتماع، يتم من خلاله تقديم فن لأعمار بدأت للتو بإدراك ما حولها".
يتابع "سن الإدراك يعني تقديم أعمال لأطفال من بداية عمر الإدراك (عامين) من خلال مسرح الدمى، ثم نتطور بالتدريج لتقدم مسرحيات حياتية وتاريخية وفلكلورية، لنوصل أفكاراً ومفاهيم تتناسب مع قدرات الأطفال".
اهتمام أبو العباس بمسرح الطفل قاده إلى تأسيس "رابطة فنون مسرح الطفل" لإنشاء فرق مسرحية في جميع المحافظات تحمل أسماء الأخيرة لتقديم عروضها. يقول "نتمنى أن نتمكن عبر هذه الرابطة التي يتعلق هدفها بتقديم أعمال مسرحية للأطفال، دافعها رفع الظلم والتهميش عن الطفولة".
ويوضح أن أهم أسباب عدم النهوض بمسرح الطفل بعد عام 2003 كان "عدم وجود اهتمام من قبل الحكومات المتعاقبة بتثقيف الأطفال، وشحّة التمويل اللازم لتصوير فنون الطفل، بالإضافة إلى ابتعاد بعض الفنانين الذين قلبوا المعادلة إلى جانب مادي بحت، وابتعد المسرحيون أنفسهم عن تقديم العروض بسبب عدم توفر الدعم الحكومي".
ما الذي يحتاجه مسرح الطفل اليوم؟ يقول أبو العباس "تقديم الدعم الكافي لتكوين بنية تحتية مناسبة لإعادة الروح إلى النص المسرحي، وأن تكون هناك صناعة حقيقية لمسرح الطفل تواكب التقنيات الحديثة، فقد غادرنا مرحلة استخدام الأخشاب فقط، ووصلنا إلى تقديم صورة بالغرافيكس والصور المركبة وغيرها".
كل ذلك "يحتاج إلى أن تضع مديريات النشاط المدرسي يدها بيد الفنانين المسرحيين الجادّين لتقديم العروض في المدارس، وبأسعار رمزية بمتناول الجميع بعيداً عن الأهداف المادية البحتة"، يضيف أبو العباس.
أزمة النصوص
مستمداً خبرته من مسرحيتين قام بتأليفها وإخراجها، يرى المخرج المسرحي جوزيف الفارس أن مسرح الطفل العراقي "بحاجة لدعم المعنيين به كالإشراف التربوي أو الفرقة القومية للتمثيل".
يقول لـ"ارفع صوتك" إن معيقات العمل في العراق "بالإضافة إلى التمويل تتعلق بإنتاج النصوص الجيدة والمحبوكة، التي تتضمن عناصر التشويق والإبهار"، إضافة إلى "الفكرة التي يستوعبها الأطفال، وإلى كادر من الممثلين الجيدين، ودعم إعلامي، وغيرها من عناصر الإنتاج المسرحي المخصص للأطفال".
والمسرح العراقي اليوم عموماً، وفق الفارس "يشهد رواجاً للمسرح الجماهيري ذي الواقع"، وهو "رديء" على حدّ تعبيره.
ويضيف "الطرح بحد ذاته حساس ورغم عدم رغبتي بتثبيط العزيمة في ما يتعلق بمسرح الطفل، إلا أن ما نراه هو شحة النصوص المسرحية الجيدة اللائقة بمستوى الأطفال".
تعرّفوا على صاحب "القلم الذهبي" الذي يقف خلفها
مسرح جوّال
قبل نحو عشر سنوات بدأ المخرج حسين علي صالح بإنشاء "المسرح الجوال"، الذي يذهب للطفل أينما تواجد بدلا من أن يأتي الطفل إلى المسرح.
هذه الفكرة كما يقول عنها المخرج لـ"ارفع صوتك" جاءت في محاولة لتعويض الطفل العراقي المحروم من ملذات الحياة لتقديم رسالة تربوية هادفة.
المسرح الذي يتم استخدامه "هو عبارة عن سيارة تم تصميم حوضها الخلفي بطريقة معينة ليتحول إلى منصة مسرح لتقديم العروض، ويحمل في داخله كل متطلبات العرض من ديكورات وملابس وأنظمة صوت"، يوضح صالح.
ويعتبر أن مسرح الطفل "مغيّب تماماً في العراق" وأن والجهات الرسمية المعنية "لا تعير اهتماماً لذلك" مضيفاً "حاولتُ التعاون مع الجهات المختصة، إلا أنني لم أجد اليد التي تساعد في هذا المشروع".
ويشير صالح إلى أن المسرح الجوال قام بتقديم العروض في المدارس الأهلية ودور الأيتام ومراكز ذوي الاحتياجات الخاصة وفي مخيمات النزوح، مبيناً "أشعر بالفرح حين أتوجه إلى تلك الأماكن وأقدم عرضاً مسرحياً وأرى البهجة على وجوه الأطفال، خصوصا حين يتفاعلون معنا بطريقة لا نتوقعها أحياناً".
ويختم حديثه بالقول إن "الغرض من المسرح الجوال إنساني بحت، فالمسرح مدرسة بحد ذاته وهو مربٍ كبير. ونحاول إحياء مسرح الطفل عبر تأليف المسرحيات وكتابة الأغاني والاستعراضات التي تجذب الطفل وتنمي قدراته".