في مشاهد مروعة نقلت بعضها كاميرات المراقبة، أقدم عراقيون على ارتكاب جرائم جنائية بعضها ذات طبيعة عائلية، ما شكل صدمة أطلقت صافرة إنذار مجتمعية ومطالبات بإيجاد حلول للسلاح المنفلت وانتشار المخدرات وتغليظ العقوبات القانونية.
أحدث تلك الجرائم وقعت أواخر يوليو الماضي وصورتها كاميرات المراقبة، في محافظة الأنبار ذات الطبيعة العشائرية المحافظة، عندما أقدم زوج على قتل زوجته (ابنة عمه) وعدد من أفراد أسرتها منهم والداها قبل أن يقتل ثلاثة أشخاص آخرين.
الأسباب التي أوردتها وسائل إعلام نقلاً عن مصادر أمنية وشهود عيان، أن الجريمة حصلت في أعقاب رغبة الزوجة وعائلتها بالانفصال عن الزوج لتعاطيه المخدرات والخمور.
قبلها بيومين فقط وفي محافظة النجف أطلق رجل النار على عائلة شقيقه ليبيدها بالكامل (زوجة الأخ وثلاثة أبناء أصغرهم بعمر 17 عاماً) بسبب خلافات عائلية. وفي الموصل (27 يونيو) قتل أب ابنه الذي لا يتجاوز عمره الـ13 عاماً، وألقى بجثته في مكب للنفايات.
هذه الجرائم ليست الأولى من نوعها خلال العام الحالي الذي فجع فيه المجتمع العراقي بعمليات قتل غير مسبوقة صورتها كاميرات المراقبة، من بينها حادثة سوق "مريدي" والطريقة السينمائية التي تم الاشتباك بها وانتهت بمقتل شخص.
إلى ذلك، حادثة تبادل إطلاق النار في سوق "بغداد الجديدة" التي أدت إلى مقتل شخصين وجرح آخرين خلال فبراير الماضي.
وفي البصرة أقدم أب خمسيني على قتل جميع أفراد عائلته (12 شخصاً بينهم أطفال) قبل أن ينتحر بإطلاقة نارية في وجهه، بعد تورطه بديون كبيرة رغم ثرائه، في مايو الماضي.
جميع هذه الأحداث لا تقل رعباً عن إحصائية لافتة للنظر أعلن عنها الطب العدلي العراقي في بيان، تحدثت عن تسجيل أكثر من 1900 إبلاغ عن مفقودين خلال الستة أشهر الأولى من العام الحالي فقط.
أرقام صادمة
يقول الخبير القانوني جمال الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن "هناك نحو ربع مليون جريمة ارتكبت في العراق العام الماضي 2023 احتلت فيها بغداد وبابل والموصل المراتب الأولى، وهي إحصائية لا تتضمن إقليم كردستان".
من تلك الجرائم، يشرح الأسدي "هناك ما يزيد عن 41 ألف دعوى جزائية محالة لمحاكم الجنايات، بمعدل 114 جريمة خطرة يومياً، بالإضافة إلى أكثر من 172 ألف دعوى جزائية محالة لمحاكم الجنح، وبمعدل 474 جريمة جنحة متوسطة الخطورة يومياً، وأكثر من تسعة آلاف دعوى جزائية محالة لمحاكم الأحداث وبمعدل 25 جريمة يرتكبها أطفال وأحداث بأعمار أقل من 18 سنة يومياً".
ويرى أن شيوع الجريمة واستمرار زيادة مؤشراتها "هو علامة خطرة على البلد، خاصة أن العراق شهد الكثير من الحروب والحصار الاقتصادي والعمليات الإرهابية التي ساعدت في تفاقم هذه المشكلة المعقدة".
ويطالب الأسدي المؤسسات الأمنية في العراق بـ"إعادة النظر في آليات وطريقة التحقيقات والاهتمام بمؤشر الجريمة العالمي كونه مرجعاً لقياس مستوى الجريمة والأمان في العراق".
ويعتقد أن الحلول تتعلق بـ"إيقاف اللجوء إلى عسكرة الأمن المجتمعي، لأن الأمن تأسيسه مدني لعلاقته بالمجتمع".
"وهذه المعدلات تتطلب دراسة الجريمة في مختلف أبعادها وعدم الاكتفاء بالبعد الأمني فقط والمعالجة العنفية، لأن الكثير من الدوافع لارتكاب الجرائم هي اجتماعية واقتصادية" يتابع الأسدي.
ويشدد على "ضرورة إيجاد المعالجات لها لتجنب وقوع الجريمة. وإعادة دراسة المدونة التشريعية الجزائية وتحديثها وفقاً لتطورات المجتمع".
مؤشر الجريمة العالمي
من جهته، يقول الباحث في الشؤون الأمنية أسعد العكيلي إن مؤشر الجريمة العالمي لسنة 2023 "وضع العراق ضمن الدول عالية الخطورة في مستويات الجريمة المنظمة وتحديدا ضمن المجموعة الثالثة (معدل إجرام مرتفع وقدرة منخفضة على الصمود)، وهي مجموعة الدول التي تعاني من النزاع والهشاشة وضعف الاستقرار، مما أضعف قدرتها على مواجهة الجرائم المنظمة".
وبحسب المؤشر يقع العراق في المركز الثامن بدرجة 13.7 عالية الخطورة. أما أخطر الأسواق الإجرامية الرائجة في العراق فهي الجرائم المالية وتجارة الأسلحة وبدرجة (0.9).
كما وضع المؤشر الجهات الفاعلة الأجنبية على رأس الجهات الإجرامية، معتبراً أن قدرة العراق على الصمود منخفضة جداً بعد شغله المركز 163 من المجموع الكلي البالغ 193 دولة.
هذا التصنيف كما، يبين العكيلي لـ"ارفع صوتك"، يعطي مؤشراً واضحاً حول "ضعف المؤسسات الأمنية والرقابة المالية وعدم فاعلية سياساتها للحد من تنامي الأنشطة غير المشروعة"، الأمر الذي ينذر بـ"تدهور الوضع المالي والاقتصادي مستقبلاً في حال استمر الوضع على ما هو عليه، خاصة في ظل اعتماد العراق على الاقتصاد الأحادي الجانب وعدم التوجه نحو التنوع في إيرادات الدولة".
الأسباب
في السياق نفسه، يُعدّد الباحث الاجتماعي محسن صالح أسباب ارتفاع معدلات الجريمة في العراق، أهمها "الحروب وآثارها المدمرة، والحصار الاقتصادي وضنك العيش الذي عانى منه الشعب وأدى إلى تفشي الجريمة بسبب الفقر المدقع".
"بالإضافة إلى سياسات النظام السابق من تضييق على الحريات وحالات القمع التي تعرض لها الشعب العراقي بوجهٍ عام. ثم الغزو الأميركي وما تلاه من انتشار السلاح بيد المدنيين جراء نهب المعسكرات التي هرب منها الجنود، وتركوا فيها السلاح حتى أصبح موجوداً في كل بيت"، بحسب وصف صالح لـ"ارفع صوتك".
ولم يشهد المجتمع العراقي تراجعاً للعنف والحروب، كما يقول صالح، إنما "زاد الأمر قسوة عندما ظهرت الجماعات المسلحة المتطرفة كتنظيم القاعدة، ثم تشكلت المليشيات، وأصبح هناك عنف وعنف مقابل، حتى وصلنا إلى تنظيم داعش والعنف لذي رافقه وتهجير ملايين العراقيين ليتفاقم الفقر في البلد".
يتابع: "هذا كلّه تسبب بضربات قوية لبنية المجتمع، حيث تفشى الفقر والبطالة والجهل وانتشرت المخدرات على نحو غير طبيعي مما أثر في بنيته، وأصبح المواطن ميّالاً للعنف".
ويرى صالح أن "عدم وجود سياسة حكومية حقيقة لتقليل الفقر والبطالة التي رافقها ازدياد كبير بعدد السكان و زيادة معدلات الفقر والتسرب من المدارس"، عززت مستويات العُنف في العراق.
أما الحل برأيه، فيتطلب سنوات من العمل على تقليص فجوة الفقر والتوزيع العادل للثروات، وتطوير التعليم وفرضه لتفادي تسرب الأطفال من المدارس، ومعالجة السلاح المنفلت وتوعية المجتمع لمخاطر تعاطي المخدرات والاتجار بها.
خطر المخدرات
أستاذ العلوم السياسية خالد العرداوي يتحدث عن واحد من أهم أسباب انتشار الجريمة في العراق وهو "المخدرات".
ويقول لـ"ارفع صوتك" إنه اطلع على الأرقام الني أصدرتها المديرية العامة لشؤون المخدرات التي تحدثت عن إلقاء القبض على أكثر من 16 ألف تاجر وحائز للمخدرات، وضبط 12 طناً من المخدرات بجميع أنواعها، وهي أرقام الستة أشهر الأولى من العام الحالي فقط.
ويرى العرداوي أن هناك خطورة كبيرة على المجتمع العراقي "خصوصاً أن الأرقام تكشف استفحال وتغول هذه الآفة في المجتمع" على حد تعبيره.
يقول "المخدرات تشكل عاملاً مهماً في تدمير الشباب، وإبعادهم عن القيم والتقاليد التي تحافظ على المجتمع، وتؤدي إلى ازدياد الجريمة والأفكار المنحرفة".
وتفشيها بهذه الطريقة، بحسب العرداوي، يشير إلى "وجود جهات نافذة محلية متعاونة مع جهات إقليمية ودولية تعمل على كبح إرادة الدولة العراقية في مكافحتها".
وللتخلص من "آفة المخدرات" يؤكد على أهمية "بذل الجهات الدينية والحكومية والاجتماعية كافة الجهود وتوعية المجتمع بخطورة الإدمان والاتجار بالمخدرات"، مبيّناً "لا أقصد إنشاء المزيد من مراكز الإيواء لعلاج المدمنين، بل تجفيف منابع إنتاج وتوريد وحيازة المخدرات، ومنع الإفلات من العقاب لجميع الجهات المتورطة مهما كانت صفتها، ومن لا يقوم بذلك يكون شريكاً في الجريمة وإن لم يفعلها بنفسه".