علي السيستاني آية الله العظمى والمرجع الأعلى للشيعة في العراق.
علي السيستاني آية الله العظمى والمرجع الأعلى للشيعة في العراق.

قبل أيام دخل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني على خط مكافحة المخدرات، مفتياً بأن "الإدمان يسقط حق الحضانة"، ومعيداً التأكيد على أن "المخدرات محرمة بجميع أنواعها"، وأن "الأموال المستحصلة عن طريقها سحت يحرم التصرف فيها". 

ورأت لجنة مكافحة المخدرات النيابية في فتاوى السيستاني "خارطة طريق لمواجهة آفة المخدرات"، وهو ما يدلّل على التأثير الكبير للمرجعية الدينية الشيعية على الكثير من العراقيين.

"إلى النجف تهوي أفئدة الساعين إلى سدّة الحكم منذ أن أسست الدولة العراقية الحديثة سنة 1920م، حتى آخر حكومة فيها". هذا ما يقوله علي يوسف الشكري في دراسته الصادرة عن جامعة الكوفة بعنوان "شيعة العراق: من المعارضة إلى السلطة"، للدلالة على دور المرجعية الدينية في النجف في التأثير على صناعة القرار السياسي في العراق، خصوصاً عبر الفتاوى.

هذه الفتاوى تشكّل نموذجاً لسوابق أخرى، كان  للمرجعية فيها دور حاسم في قضايا إشكالية أو حسّاسة. ومن الناحية العملية، بالمقدور رصد تدخلات المؤسسة الدينية الشيعية في التنظيم السياسي العراقي باستمرار، بحسب المؤرخ عادل بكوان في كتابه "العراق: قرن من الإفلاس".

يستعرض بكوان دور مؤسسة المرجعية، ودورها في التأثير بالمجتمع الشيعي، ليس في العراق فحسب بل بين أكثر من 200 مليون شيعي حول العالم. ويرى بكوان أن النجف للشيعة هي بمثابة الفاتيكان. وهي تتشكّل حتى وقت قريب من أربعة مراجع كبار هم: محمد اسحاق الفياض، بشير النجفي، محمد سعيد الحكيم (توفي عام 2021)، وعلي السيستاني. 

ويذكّر بكوان بالتنفاس الذي نشأ بين السيستاني وآية الله محمد محمد صادق الصدر على المرجعية، بعد وفاة أبي القاسم الخوئي. لكن اغتيال الصدر على يد صدام حسين في العام 1999، فتح الباب مشرّعاً لعلي السيستاني الذي بات يعتبر منذ تلك اللحظة المرجع الأول.

رجال دين شيعة في مدرسة السيد اليزدي التي تديرها الحوزة العلمية في النجف، 12 أغسطس 2017
فقهياً وسياسياً.. كيف أثرت حوزة النجف على شيعة لبنان؟
تأسست الحوزة العلمية في النجف على يد الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في نهاية العهد البويهي وبداية السلجوقي (1056 ميلادي)، وكان تدريس العلم فيها بحسب المؤرخ العربي ابن الأثير، بدأ منذ القرن الثالث الهجري وازدهر في عهد عضد الدولة البويهي، وعلا شأن الحوزة بعد هجرة الطوسي إليها.

مجموعة  المراجع الموجودة في النجف، وعلى رأسها السيستاني، هي التي تصيغ المرجعية، ولا تلتزم رسمياً بـ"نظرية ولاية الفقيه" التي تبنتها إيران بعد سقوط الشاه، بل "تلتزم مرجعية النجف بمبدأ الفصل الواضح بين السياسة والدين"، بحسب بكوان. لكن ذلك لم يمنع تدخل المرجعية في شؤون تتصل بالسياسة عندما ترى حاجة ملحّة إلى ذلك.

فقد لعبت المرجعية دوراً أساسياً في العراق عقب العام 2003، خاصة في مرحلة صياغة الدستور ، ثم كان لها دور حاسم في تشجيع العراقيين على الاحتكام لصناديق الاقتراع في أول انتخابات نيابية بعد سقوط نظام صدام حسين. 

وأصدر المرجع السيستاني حينها "فتاوى تدعو إلى الذهاب للاقتراع بوصفه واجباً مقدساً"، على ما يذكر عضيد داوشيه في كتابه "العراق: تاريخ سياسي من الاستقلال إلى الاحتلال".

وينقل بكوان شهادة بول بريمر، الحاكم المدني ورئيس سلطة الائتلاف الحاكم المؤقت آنذاك، الذي يقول إن السيستاني شجع أتباعه على الانخراط في العملية السياسية عقب عام 2003.

 وأدى هذا إلى أن تصل نسب المشاركة في المناطق الشيعية في انتخابات العام 2005، إلى 70 في المئة.

كما كان للمرجعية دورها المركزي في إعلان الحرب ضد تنظيم "داعش" في عام 2014، عبر فتوى "الجهاد الكفائي" وهو ما سمح بتأسيس الحشد الشعبي، لاحقا.

ويذكر بكوان دور المرجعية أيضا في تعيين عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء ثم دورها في دفعه إلى الاستقالة بعد انتفاضة تشرين من العام 2019. 

وكان السيستاني قد حمّل الحكومة العراقية "مسؤولية مقتل العشرات من المحتجين في البلاد، داعيا السلطات إلى تحديد عناصر الأمن "غير المنضبطة"، ثم كان له موقف أكثر حزماً دعا فيه مجلس النواب إلى سحب الثقة من حكومة عبد المهدي، وهو ما كان مقدمة لاستقالته. 

هذه الأمور، بحسب بكوان، "ليست سوى أمثلة قليلة على تدخلات المرجعية في الإدارة السياسية للعراق". وتفسير ذلك، بحسبه أيضا، أن "الرموز السياسيين العراقيين يطلبون هذا التدخل من جانب المرجعية في كثير من الأحيان، لأنهم عالقون في شباك صراع محموم يحدث تشظيات واسعة عند نشوب أزمات". وبالتالي، يتابع بكوان، "هم غير قادرين على التوصل إلى تفاهمات وطيدة على إدارة اللعبة السياسية، الأمر الذي يدفعهم إلى مناشدة المرجعية بوصفها قطب الاستقرار لتقرير ما لا يسعهم تقريره بأنفسهم".

 

قبل 2003: محطات تاريخية

ليس جديداً دور المرجعية في المفاصل الحساسة في تاريخ العراق الحديث، وليس مقتصراً على فترة ما بعد عام 2003، بل إن المرجعية لعبت أدواراً مختلفة منذ تأسيس الدولة العراقية.

فعندما توفي المرجع الشيعي الأعلى كاظم اليزدي في الثلاثين من نيسان 1919، حلّ محله الميرزا محمد تقي الشيرازي مرجعاً للطائفة الشيعية، وكانت أول فتاويه في ذلك الوقت تحريم حكم غير المسلمين للمسلم، في استهداف للبريطانيين ومنعهم من حكم البلاد، كما جاء في دراسة يوسف الشكري  "شيعة العراق: من المعارضة إلى السلطة".

وقد أعقب الشيرازي هذه الفتوى بأخرى تجيز مجابهة الحاكم العام في بغداد والمطالبة بحكومة وطنية وحاكم إسلامي. وتعتبر هذه الفتوى، بحسب الشكري، "خطوة عملية ومقدمة حقيقية للثورة على الاحتلال". 

لاحقا، أصدر الشيرازي ما أطلق عليه "فتوى الدفاع"، وجاء فيها أن "المطالبة بالحقوق واجبة على العراقيين، ويجب عليهم- في أثناء ذلك- رعاية السلم والأمن، ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الإنجليز عن تلبية مطالبهم".

يرى الشكري أن ثورة العشرين كشفت للبريطانيين عن "الخطر الذي تشكله المرجعية على المصالح البريطانية في العراق.. وهذا يعني عدم اطمئنان البريطانيين على مصالحهم ما دام للمرجعية دور كبير في الحياة السياسية".

في العام 1964، وكان عبد السلام عارف في سدّة الرئاسة، شنت القوات العراقية هجوماً واسع النطاق على المناطق الكردية. وفي محاولة لاستمالة المرجعية الشيعية العليا، زار أحد القوميين المقربين من عارف المرجع الأعلى في داره طالباً منه إصدار فتوى بجواز قتال الأكراد، فما كان من المرجع الأعلى إلا أن طرده من منزله، بحسب الشكري. 

رداً على ذلك، زوّرت الحكومة بياناً باسم المرجعية تجيز فيه قتال الأكراد، فردت المرجعية  بزعامة محسن الحكيم سريعاً بإصدار بيان يكذب الخبر مستنكرة تزوير بيان باسمها، ودعت إلى عقد مؤتمر في كربلاء، صدرت عنه إدانات للحكومة وتأكيد على حرمة قتال الأكراد. ولم تكتف المرجعية بذلك، بل أصدر المرجع الأعلى فتوى صريحة بحرمة قتال الشعب الكردي. أدت إلى تخلف الكثير من الشيعة عن الالتحاق بوحداتهم العسكرية، مما شكّل خللاً في بنية المؤسسة العسكرية.

ويرى المؤرخ كمال ديب في كتابه "موجز تاريخ العراق" أن المرجعية لعبت دوراً كبيراً في اتجاه الكثير من الشباب الشيعة إلى حزب الدعوة الإسلامية، بعد تأسيسه في العام 1957، وخصوصاً بعدما أصدرت المرجعيات الشيعية فتاوى ضد العضوية في الحزب الشيوعي في العام 1960.

ويعد المرجع محمد باقر الصدر الأب الروحي لحزب الدعوة، قبل أن ينسحب من المجال السياسي. وما تزال صوره تتوسط مقرات مختلف التشكيلات المنبثقة من الحزب. 

وبعد وقت قليل من اندلاع الحرب الإيرانية العراقية، أرسل صدام حسين بعض قياداته إلى المرجع الأعلى  أبو القاسم الخوئي لاستصدار فتوى ضد حكام إيران، فرفض  المرجع إصدار مثل هذه الفتوى.

وقد حاول صدّام، كما يذكر الشكري في دراسته، عبر أكثر من وسيط أن يلجأ إلى المرجعية العليا في النجف، طلباً لفتوى تقلب الموازين وترجّع كفة الحرب لصالحه، إلا أن السيد الخوئي كان يرفض، بل ذهب الخوئي أبعد من ذلك عبر تحريمه العضوية في حزب البعث. وجاء رد النظام سريعاً عبر اغتيال صهر الخوئي نصر الله المستنبط بعد أشهر قليلة.

ومع احتلال العراق للكويت، وانتشار عمليات السلب والنهم واستباحة الأموال العامة والخاصة في الكويت، أصدر الخوئي فتوى تقضي بتحريم بيع البضاعة الكويتية وشرائها، وتحريم الصلاة في البيوت الكويتية بوصفها "أملاكا مغصوبة".

 

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

Iranian President Pezeshkian visits Erbil
من زيارة الرئيس الإيراني لكردستان العراق- رويترز

استخدم الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان خلال زيارته الحالية إلى العراق اللهجة الكردية ليقول إن بين طهران وكردستان "علاقات جيدة"، في مؤشر واضح على تحسّن روابط بلاده مع الإقليم العراقي الذي يتمتع بحكم ذاتي واستهدفته ضربات إيرانية مرّات عدّة في السنوات الأخيرة.

فكيف تمكّن الإيرانيون وأكراد العراق من تسوية خلافاتهم؟

 

تقارب حقيقي؟

شهدت العلاقات بين جمهورية إيران الإسلامية وإقليم كردستان العراق، وهو تقليدياً حليف لواشنطن والأوروبيين في الشرق الأوسط، تحسناً ملحوظاً في الأشهر الأخيرة.

وكثرت الزيارات التي أجراها مسؤولون من الجانبين والتصريحات الإيجابية.

وحضر كلّ من رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني وابن عمّه رئيس الوزراء مسرور بارزاني جنازة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي الذي قضى مع مسؤولين بينهم وزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان في تحطّم طائرتهم في 19 مايو الماضي.

كذلك زار القائم بأعمال الخارجية الإيرانية علي باقري أربيل عاصمة الإقليم في يونيو الفائت.

ولدى خروجه الأربعاء من القصر الرئاسي في بغداد حيث اجتمع بنظيره العراقي عبد اللطيف رشيد، قال بزشكيان بالكردية لقناة "رووداو" المحلية الكردية "لدينا علاقات جيدة مع كردستان وسنعمل على تحسينها أكثر".

وزار نيجيرفان طهران ثلاث مرات في غضون أربعة أشهر، والتقى بارزاني المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.

يقول مدير "المركز الفرنسي لأبحاث العراق" عادل بكوان لوكالة فرانس برس: "أصبحنا حالياً في مرحلة التطبيع" في العلاقات.

ويعود ذلك بالنفع على أربيل من ناحية "حماية أمنها واستقرارها ونموها الاقتصادي، ما يجعل تطبيع العلاقات مع جمهورية إيران الإسلامية ضروريا للغاية"، بحسب بكوان.

 

لماذا قصفت طهران إقليم كردستان؟

في السنوات الأخيرة، تعثّرت العلاقات بين أربيل وطهران بسبب الخلاف حول مجموعات مسلحة من المعارضة الكردية الإيرانية تتمركز في كردستان العراق منذ ثمانينيات القرن المنصرم بعد اندلاع حرب استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران.

على جانبي الحدود، كان الأكراد العراقيون والإيرانيون يتكلّمون اللهجة نفسها ويتشاركون روابط عائلية.

واستمرت المجموعات الإيرانية المعارضة وغالبيتها يسارية الميول وتندّد بالتمييز الذي يعاني منه الأكراد في إيران، في جذب الفارّين من القمع السياسي في الجمهورية الإسلامية. من هذه المجموعات حزب "كومله" الكردي والحزب الديموقراطي الكردستاني الإيراني اللذان تعتبرهما طهران منظمتين "إرهابيتين".

وكان لهذه المجموعات مقاتلون مسلحون، إلا أنهم كانوا ينفون تنفيذ أي عمليات ضد إيران عبر الحدود.

واتّهمت طهران هذه المجموعات بتهريب أسلحة بالتسلّل إلى أراضيها انطلاقاً من العراق وبتأجيج التظاهرات التي هزت إيران في أعقاب وفاة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 سبتمبر 2022 بعدما أوقفتها شرطة الأخلاق لعدم امتثالها لقواعد اللباس الصارمة في الجمهورية الإسلامية.

في نهاية عام 2023، وبعد ضربات عدّة نفذتها إيران في العراق، تعهدت السلطات العراقية بنزع سلاح هذه الفصائل وإخلاء قواعدها ونقلها إلى معسكرات.

وقال مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي للتلفزيون الإيراني الرسمي، الثلاثاء الماضي، إن الحكومة العراقية أغلقت 77 من قواعد هذه المجموعات قرب الحدود مع إيران ونقلت المجموعات إلى ست معسكرات في أربيل والسليمانية.

وأكّد أن استعدادات تجري لمغادرتها العراق إلى بلد ثالث.

 

ما التحديات التي لا تزال قائمة؟

في ظلّ اضطرابات جيوسياسية في الشرق الأوسط، استهدفت طهران كردستان مرّات أخرى، متهمة الإقليم بإيواء مواقع للاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (موساد).

في يناير 2024 ووسط توترات إقليمية على خلفية الحرب في قطاع غزة بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية، شنّت القوات الإيرانية هجوما على مواقع في إقليم كردستان العراق، مشيرة إلى أنّها استهدفت "مقرا لجهاز الموساد". 

من جانبها، نفت الحكومة المركزية في بغداد وحكومة كردستان أن يكون "الموساد" متواجدا في الإقليم.

ويمكن كذلك قراءة التقارب الذي بدأته أربيل مع طهران في ضوء "الانسحاب" الأميركي المحتمل من العراق، بحسب عادل بكوان.

وتجري بغداد وواشنطن منذ أشهر مفاوضات بشأن التقليص التدريجي لعديد قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن في العراق.

وتطالب فصائل عراقية مسلحة موالية لإيران بانسحاب هذه القوات.

وقال وزير الدفاع العراقي ثابت العباسي في مقابلة تلفزيونية، الأحد الماضي، إن العاصمتين توصلتا إلى تفاهم حول جدول زمني لانسحاب قوات التحالف الدولي من العراق "على مرحلتين".

وأوضح أن التفاهم يتضمّن مرحلة أولى تمتدّ من سبتمبر الجاري حتى سبتمبر 2025 وتشمل "بغداد والقواعد العسكرية للمستشارين"، يليها انسحاب "في المرحلة الثانية من سبتمبر 2025 حتى سبتمبر 2026 من كردستان العراق".

ولم تعد أربيل في السنوات الأخيرة في موقع قوة أمام الحكومة المركزية في بغداد التي تربطها بها علاقات متوترة.

يقول بكوان "كلما انسحبت الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، بالتالي من العراق بالتالي من كردستان العراق، أصبحت أربيل أضعف في مواجهة بغداد (...) المدعومة بقوة من جمهورية إيران الإسلامية" المعادية لواشنطن.