بعد أكثر من ثمانية أشهر من الخلافات، حَسمت صفقةٌ بين "الإطار التنسيقي" و "الاتحاد الوطني الكردستاني" عملية انتخاب محافظ لكركوك التي تتصارع فيها المكونات العرقية والأحزاب السياسية وتتداخل فيها تركيا وإيران من وراء الحدود.
لكن هذا الحسم، الذي كان يتطلع إليه أبناء كركوك من أجل إنهاء الصراع المستمر، أجج صراعاً جديداً بين بعض مكونات المدينة الرئيسية الثلاثة وحكومة المركز التي يتهمها المبعدون عن المناصب الرئيسية بالتآمر والانقلاب على العملية الانتخابية.
الاتهامات جاءت على خلفية عقد جلسة انتخاب ريبوار طه عن "الاتحاد الوطني الكردستاني" محافظاً لكركوك، وإبرراهيم الحافظ من حزب "السيادة" عن العرب رئيساً لمجلس محافظة كركوك في "فندق الرشيد" بقلب العاصمة بغداد.
هذه الجلسة عُقدت وسط تشظي مكوناتي وحزبي غير مسبوق في كركوك، ودون دعوة رئيس السن راكان الجبوري وبغياب ممثلين عن المكون التركماني الذي حضر نيابة عنهم أحد أعضاء مجلس النواب.
هذه الخلافات ليست وليدة الجلسة الحالية، بل منذ انتهاء انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في نوفمبر 2023 والتي تضمنت 16 مقعداً لمحافظة كركوك. وأفرزت نتائجها تقارباً واضحاً بين الكتل العربية التي حصدت ستة مقاعد، والحزبين الكرديين (سبعة مقاعد)، فيما حصل التركمان على مقعدين والمسيحيون على مقعد واحد ضمن كوتا الأقليات.
أزمة معقدة
يقول الصحفي والكاتب سامان نوح إن ملف كركوك "معقد جداً، فهناك صراع بين المكونات من جهة، وهناك انقسامات داخل المكونات ذاتها من جهة أخرى".
يشرح نوح لـ"ارفع صوتك" أن هناك أطرافا رئيسية ثلاثة، وهم "التركمان الذين ينقسمون إلى سنة وشيعة داخل كركوك، ولكل منهم ولاء خارجي. فالشيعة أقرب إلى الإطار التنسيقي وبالتالي إلى إيران، والتركمان السنة وهم أقرب إلى تركيا".
ويضيف: "الأمر مقارب مع الأحزاب الكردية، فالحزب الديمقراطي الكردستاني كان دائماً يطمح للوصول إلى إدارة كركوك عن طريق الاستفادة من الضغط التركي على التركمان باتجاه التحالف مع الديمقراطي، وفي النهاية فشلت الصفقة".
كان منصب المحافظ في كركوك بعد العام 2003 وحتى العام 2016 محتكراً من قبل الاتحاد الوطني الكردستاني قبل أن يفقده بدخول الجيش العراقي على عهد رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي وسيطرته على المدينة ويتسلم المنصب قياديون من العرب.
لكن العرب بدورهم، كما يشير نوح، "منقسمون. فجزء منهم حلفاء مقربون إلى أنقرة بحكم وجود جزء من قياداتهم وإعلامهم في تركيا". وبالتالي، فإن كل المكونات "منقسمة"، إلا أنها في الوقت ذاته "في كل واحد منها هناك شخص قوي يمكن أن يحسم الصفقة عن طريق الأصوات والمقاعد وبالتالي وصلنا إلى هذه المرحلة حيث تم عقد صفقة سياسية بين الأطراف الأكثر قوة".
قانونية الجلسة
الخلاف الأساسي والطرح الذي يراهن عليه الرافضون لجلسة فندق الرشيد يتعلق بمدى قانونية الجلسة التي أقيمت في بغداد وليس في كركوك.
نوح يقول إنه تمت "إقامة جلسة مشابهة من أجل قضية مجلس محافظة ديالى دون أي مشاكل قانونية بسببها"، وهي الجلسة التي "أعطى رئيس الجمهورية بموجبها مرسوماً للمحافظ الجديد. وحسب القانون يمكن عقد الجلسة خارج المحافظة إذا كانت نسبة النصف زائد واحد متوفرة".
أسباب عقد الجلسة في بغداد، بحسب نوح، "تتعلق بعدم القدرة على الوصول إلى نتيجة من خلال الجلسات التي تعقد داخل المحافظة. ولذلك اضطرت رئاسة الوزراء لحسم الموضوع عبر القيادات الرئيسية للأحزاب التي قادت الصفقة ومنهم خالد شواني (وزير العدل المنتمي للاتحاد الوطني الكردستاني) وهو شخصية مهمة في الجلسة".
في المقابل، يرى المحلل السياسي عبد الغني الأسدي أن ما حصل في جلسة فندق الرشيد يمثل انقلابا على التوافقات السياسية، "لأن الحكومات المحلية حين تتشكل لا يتم الأخذ بنظر الاعتبار عدد المقاعد أو الأصوات فقط، إنما تؤخذ التوافقات السياسية المبرمة بين الأطراف المختلفة بنظر الاعتبار".
ويقول الأسدي إن جلسة انتخاب محافظ ورئيس مجلس محافظة كركوك "فيها ثلاث مخالفات، وهي أن الجلسة كان يجب أن تقام في كركوك، وبدلاً عن ذلك عقدت في فندق الرشيد" في بغداد. أما من يشيرون إلى جلسة محافظة ديالى في فندق الرشيد "فالأمر مختلف اختلافاً جذرياً. فديالى، كانت محتقنة أمنيا وكانت هناك مظاهرات عشائرية وإغلاق لدوائر حكومية وتدخل لقوى الأمن لفض الاشتباكات". أما "كركوك فهي آمنة، ولم تحصل فيها أحداث شبيهة بما حصل في محافظة ديالى"، يوضح الأسدي.
الأمر الثاني هو الدعوة التي تم تقديمها إلى الأعضاء للحضور، فهي كما يقول الأسدي، "لا بد أن تكون رسمية تقدم إلى رئيس السن وهو المحافظ السابق راكان الجبوري، الذي يقوم بدوره بدعوة كافة الأعضاء الفائزين للحضور إلى الاجتماع". لكن هذا لم يحصل.
أما الأمر الثالث، فيتمثل في "وجود إقصاء لمكون رئيسي في كركوك وهو التركمان. ولهذه الأسباب هناك سعي لتقديم دعاوي قضائية إلى المحكمة الاتحادية للبت بالجلسة".
بدوره، يقول الخبير الدستوري والقانوني مصدق عادل لـ"ارفع صوتك" إنه "في الأصل أي جلسة لمجلس المحافظة يفترض أن تعقد بمقر مجلس المحافظة. مع ذلك، بإمكان المجلس أن ينعقد في أي مكان آخر".
وبالنسبة إلى جلسة فندق الرشيد، يقول: "طالما استوفت الأغلبية المطلقة لعدد الحضور النصف زائد واحد، وطالماً تم الانتخاب للمحافظ بالأغلبية المطلقة، فإن الجلسة لا شائبة عليها ويستطيع أن يباشر المحافظ مهامه الدستورية".
ويدلل على ذلك بـ"صدور المرسوم الجمهوري بتكليفه، وبالتالي لو كانت هناك مشاكل دستورية لما صدر المرسوم".
ومع هذا، يستدرك عادل: "من يرى عكس هذا الرأي، أي هناك عدم صحة بالانتخاب بإمكانه اللجوء إلى محكمة القضاء الإداري، باعتبار أن المادة السابعة من قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم قد حددت الجهة التي يحق لها الطعن، بالتالي بالإمكان الطعن بصحة الانتخاب".
من الذي يحكم المدينة؟
يرى الصحفي سامان نوح أن الجهة الحاكمة الفعلية في كركوك اليوم وبعد اتفاق فندق الرشيد هي "الإطار التنسيقي".
ويتابع: "هناك رضا من الإطار التنسيقي عن الصفقة التي حسمت مع الاتحاد الوطني الكردستاني وجزء من العرب السنة، كما أن حسم موضوع رئاسة البرلمان المتوقع قريباً سينهي أي محاولة لإعادة رسم خارطة كركوك عبر تحالف جديد وسيكون من الصعب تغيير الوضع الحالي".
على المستوى الشعبي، يقول نوح، "الناس غير مهتمة داخل كركوك بمن سيحكم المدينة، لأنهم يريدون خدمات واقتصادا، كما أن الجماهير كانت تتطلع لنوع من التغيير في الوجوه التي حكمت ولم تنجح في إدارة المدينة بشكل جيد، رغم بعض التطور الذي حصل في البنية التحتية وفي بعض المسائل الأخرى".
أما تطور المظاهرات التي خرجت يوم أمس وسيطرت عليها القوات الأمنية، "فليس من المتوقع حصول أعمال عنف أو شغب، ولا أن تتوسع التظاهرات فالأمور ستجري وفق ما هو مخطط له من قبل الإطار التنسيقي والاتحاد الوطني. أما الأطراف المتضررة فهناك مناصب عديدة شاغرة ولن يكون هناك شيء خارج عن المألوف".
يتفق المحلل السياسي عبد الغني الأسدي مع نوح فهو يرى أن موضوع كركوك "سوف يمضي. ولكن، لن يكون هناك استقرار سياسي".
ويوضح: "بمعنى أن مجلس المحافظة فيه عدد متساو تقريباً من الموافقين والرافضين للمحافظ الجديد، ولذلك يمكن أن يكون هناك تعطيل للقرارات". أما من الناحية الأمنية "فالوضع مستقر والقوات الأمنية مسيطرة، ولن يكون هناك تدهور أمني ولكن من المرجح وجود عدم استقرار سياسي".