بدأت فكرة توزيع المواد الغذائية الأساسية على شكل "حصة تموينية" في أيلول من العام 1990، في إطار خطة واسعة النطاق وضعها نظام صدام حسين للتخفيف من عواقب الحصار الذي فرض على العراق بعد غزو الكويت.
تم تقديم مقترح تنظيم توزيع المواد الغذائية المتبقية في المخازن العراقية من قبل وزير التجارة آنذاك محمد مهدي صالح. ولم تكن هذه المواد كافية لأكثر من ستة أشهر كحد أقصى وفق تصريحات للوزير الأسبق ذاته في مقابلة تلفزيونية.
الفكرة تبلورت كما رواها صالح، بعد عشرة أيام من فرض الحصار على العراق "بهدف التحوط للحفاظ على خزين البلد، وهو سلاح فعال للمساعدة على مواجهة الظرف الطارئ، وتهيئة الحدود الدنيا للحفاظ على حياة المواطنين، وتوفير سعرات حرارية تكفي لتجنب المجاعة الواسعة للمواطنين".
صالح شرح في المقابلة التلفزيونية أن العراق كان يعتبر "من الدول العالية بالسعرات الحرارية التي تصل إلى 3120 سعرة يومياً يتم تجهيزها في السوق العراقية". وعندما فُرض الحصار لم تكن الحكومة مهيأة لهذا الظرف ولم يكن ممكناً توفير مواد غذائية لمدة طويلة، ولذلك جرى جمع ما توفّر من الحنطة والشعير، وكان هناك مقترح لإضافة الذرة لتكثير الكمية قدر المستطاع.
وبحسب أستاذ الاقتصاد في جامعة بغداد خليل إسماعيل، فإن تسعينيات القرن الماضي لم تكن المرة الأولى التي لجأ فيها العراق لتوزيع المواد الغذائية. "ففي الأربعينيات أيضاً وبعد نقص الإمدادات بسبب الحرب العالمية الثانية، اضطرت الحكومة إلى توزيع المواد الغذائية لمن يمتلك هوية الأحوال المدنية وجرى تزويد المواطنين بالدفتر التمويني".
ومن خلال ذلك الدفتر، كما يقول إسماعيل لـ "ارفع صوتك"، "تم توزيع السكر والشاي والقهوة والأقمشة والطحين بأسعار مدعومة لسنوات".
من الرفاهية إلى الجوع
حتى العام 1990 كان متوسط السعرات الغذائية التي يتغذى بها الفرد العراقي يتراوح ما بين 3130 و3315 سعرة.
أما الحصة التموينية فلم تسدّ سوى 53% من السعرات الحرارية التي كان العراقيون يحصلون عليها بين سنتي 1987 و1989. وهي أرقام وثقها حيدر الغريباوي في بحث حمل عنوان "أثر البطاقة التموينية على الاستهلاك والفقر".
خلال السنوات الخمس الأولى من الحصار، اعتمد العراق بشكل كامل على ما يتم إنتاجه محلياً أو تهريبه، بسبب رفض الحكومة لمقترح "النفط مقابل الغذاء" الذي قدمته الأمم المتحدة بأكثر من صيغة. وفي ديسمبر 1994، طرأ تخفيض على الحصة فأصبحت لا تسد سوى 34% من الحاجة الغذائية. وفي سنة 1995 تدنت السعرات الحرارية المخصصة لكل عراقي إلى 1093 وظهرت أمراض سوء التغذية الحاد.
بعد موافقة الحكومة العراقية على مقترح "النفط مقابل الغذاء" وتنفيذه في العام 1996 تحسنت نوعية المواد التي تضمنتها السلّة الغذائية. مع ذلك تعرض البرنامج لنقد حاد بعد اكتشاف تلاعب كبير بالعقود المبرمة من قبل مسؤولين عراقيين وأمميين.
شملت البطاقة التموينية مجموعة من المواد الغذائية الأساسية، وهي الطحين والأرز والسكر بالإضافة إلى الشاي والزيت ومساحيق الغسيل والصابون والبقوليات والحليب. وكانت توزع بقيمة تصل إلى 5% من قيمتها في السوق العالمية.
ويقول أستاذ العلوم الاجتماعية فاهم نعمة لـ"ارفع صوتك" إن "تردي وعدم كفاية المواد الغذائية الموزعة ضمن الحصة التموينية، وغلاء أسعارها في السوق المحلية خلال تلك الفترة، أثرّا بشكل كبير على طبيعة حياة المجتمع الذي كان يتمتع بنوع من الرفاهية فيما يتعلق بالغذاء".
أكبر الشرائح المتأثرة كانت النساء والأطفال، "فقد تحملت المرأة أعباء إدارة المنزل بأقل قدر ممكن من المواد الغذائية، وحاولت سد رمق العائلة بالاقتصاد عبر صناعة الخبز وخياطة الملابس وغيرها".
وأثر شحّ المواد الغذائية على الأطفال بشكل كبير، بحسب نعمة، "فبرزت حالات السرقة بين أطفال المدارس فيما يتعلق بالنقود والمستلزمات الدراسية والمأكولات بسبب الحرمان المادي والغذائي"، بالإضافة إلى ظهور "تناول الأطعمة غير الصحية، منها المواد غير الناضجة أو المتعفنة بسبب نقص الغذاء وحاجة الجسم للأملاح والكالسيوم والفيتامينات، وقلة النشاط والاكتئاب ناهيك عن عمالة الأطفال والتسرب من المدارس".
خلل مزمن
في بحث حمل عنوان "الفقر ونظام البطاقة التموينية: دراسة تحليلية قياسية"، يقول أستاذ الاقتصاد حسن لطيف كاظم إن نظام البطاقة التموينية "أريد له أن يكون وسيلة آنية لحالة طارئة، ولم يدر في خلد صناع القرار آنذاك أنه سيستمر حتى اليوم".
ويعاني نظام البطاقة التموينية من "خلل مزمن" بحسب الدراسة. فرغم المزايا العديدة التي يقدمها "إلا أنه يتميز بنظام العدالة المطلقة بالتوزيع". وهو ما يعني "التساوي بين جميع العراقيين وهو ما يعتبر واحدة من نقاط ضعف النظام". فالمطلوب هنا "وصول المساعدات إلى من يحتاجها فعلاً، وأن يستثني النظام غير المحتاجين".
وبحسب الدراسة، فإن طول المدة التي طبق فيها نظام البطاقة التموينية "رسخ الاعتقاد لدى الأسر العراقية بأهمية النظام، وخلق اعتماداً لدى الأسر المتوسطة والفقيرة على البطاقة".
ويشير البحث إلى أن الحكومات التي أعقبت العام 2003 لم تكن تفضل الاستمرار بالحصة التموينية، بل إنها حاولت التحرر من جزء كبير مما خلفه النظام السابق من تركة كان عليها التعامل معها. وأعلنت الحكومات المتعاقبة عن برنامج لإلغاء الحصة التموينية عبر تحويلها إلى البدل النقدي، أو قطعها عن الأغنياء، إلا أن ذلك لم يتحقق.
أسباب ذلك، كما يقول كاظم في بحثه، تعود إلى أن "القادة الحاليين يدركون الأهمية السياسية لنظام البطاقة التموينية ، ولذلك فإنه من الصعب تصور القيام بتغيير جذري فيها رغم صعوبة إدامة عمل النظام بهذه الطريقة".
أمن غذائي
يشير الخبير الاقتصادي كمال الحسني، في حديث مع "ارفع صوتك"، إلى أن نظام التموين الغذائي في العراق "مر بمرحلتين: الأولى منذ أغسطس 1990 ومن ضمنها فترة برنامج الأمم المتحدة للنفط مقابل الغذاء. والثانية ما بعد العام 2003 ولغاية الآن".
تخلل هاتين المرحلتين "العديد من الأخطاء، أبرزها الفساد الكبير في العقود النفطية وعقود وزارة التجارة على السواء، وخلق تشوها في هيكلية الطلب المحلي".
ورغم كل المساوئ المرتبطة بملف البطاقة التموينية، فإن التزام الدولة بتوفير مفردات البطاقة التموينية "يعتبر أمراً في غاية الحساسية، لارتباطه الوثيق بالأمن الغذائي". هذا الارتباط، كما يوضح، "ينطلق من أن البطاقة التموينية أصبحت جزءاً من الأمن الغذائي للمواطن العراقي في ظل وجود نسبة غير قليلة تقدر بربع عدد السكان، دون خط الفقر".
ويشير الحسني إلى أن البطاقة التموينية "على علاتها الكثيرة تحقق الاستقرار بأسعار المواد الغذائية الأساسية، وتشكل ملاذاً من تعاظم مستويات الفقر والجريمة والعنف، خصوصاً وأن البلد ما يزال غير مستقر أمنياً، وإذا حصلت أي مشكلة في تدفق تمويل الحكومة لهذا البرنامج فسوف تتأثر كل الحالة الاقتصادية وبسرعة".
يعطي الحسني مثالاً على ذلك. "القصور في توزيع أي من مواد البطاقة التموينية اليوم، سينعكس في صورة ارتفاع في أسعار تلك السلعة بالسوق المحلية فيما يسهم توفيرها ضمن البطاقة، في خفض الأسعار داخل العراق عن المستوى العام للأسعار في دول الجوار".
أما البديل الأفضل للبطاقة التموينية، فيكون عبر "تخيير المواطن بين البدل النقدي أو الاستمرار باستلام المواد الغذائية، ليحصل من السوق المحلية على الأغذية الأساسية بالنوعيات التي يفضلها، والحد من التلاعب بالمواد وأسعارها ونوعياتها".
إعادة النظر بنظام البطاقة التموينية على هذا الأساس، يساهم، بحسب الحسني، في "خلق فرص عمل أكبر في القطاع الخاص، ويساعد على قيام صناعة غذائية داخل البلد. وصولاً إلى إعادة الاقتصاد العراقي إلى السكة الصحيحة بصورة تدريجية ودون إلحاق ضرر بالمواطن".