علاقة معقدة جمعت الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وحزب البعث بفرعيه في سوريا والعراق. ورغم أن الطرفين آمنا بالقومية العربية وضرورة العمل على اتحاد الدول العربية، بل وقادا سوياً أول تجربة لإقامة دولة عربية موحدة في العصر الحديث، الجمهورية العربية المتحدة، إلا أنهما لم يتفقا أبداً وتبادلا العداء لسنوات طويلة.
ما قبل الوحدة
في عام 1949 عرفت سوريا انقلابها العسكري الأول على يد حسني الزعيم قائد الجيش، كان فاتحة لانقلابات تتالت وخلقت حالة من الاضطراب السياسي عاشتها البلاد طيلة سنوات.
وحينما جرى الإعلان عن الانقلاب العسكري الذي أنهى الملكية في مصر، اعتبر حزب البعث السوري أنه لا يختلف كثيراً عن حركات حسني الزعيم وسامي الحناوي، فاتخذ منها موقفاً عدائياً مبدئياً. في فبراير 1952 أعلن البعث في بيان له أن هذه الحركة من صُنع "الاستعمار الغربي"، حسبما أورد مصطفى دندشلي في كتابه "حزب البعث الاشتراكي".
الرفض البعثي الحاد لحركة "الضباط الأحرار" لم يتغير حتى بعد اتخاذ مجلس قيادة الثورة عدداً من القرارات المتعاطفة مع الفقراء والمنسجمة مع أيدولوجيته الاشتراكية مثل إلغاء الألقاب الملكية وإصدار قانون الإصلاح الزراعي، فظلَّ البعثيون يصفون الحُكم في مصر بـ"الديكتاتورية العسكرية".
عزّزت العلاقة الطيبة التي جمعت بين اللواء محمد نجيب، قائد حركة "الضباط الأحرار"، وبين العقيد أديب الشيشكلي ثالث عسكري ترأّس سوريا في انقلاب عسكري خلال السنوات الأخيرة، من موقف البعث السلبي تجاه الحكم الجديد في مصر.
مع رحيل الشيشكلي وإزاحة نجيب من قبل جمال عبد الناصر، بدأ الأخير يُظهر بصمته في سياسات مصر الخارجية؛ فانحاز إلى التيار القومي العروبي ووثّق علاقته بالاتحاد السوفييتي بشكلٍ كبير، وعزّزها بعقد صفقة الأسلحة التشيكية التي لفتت أنظار العالم إلى مصر، بعدما كسرت احتكار الغرب لتوريد الأسلحة لجيوشها ومنحت المعسكر الشرقي قدماً في الشرق الأوسط لأول مرة.
هذه السياسات الجديدة، أدت إلى تراجع حزب البعث السوري بشدة عن مواقفه السلبية من مصر، حتى إن ميشيل عفلق مؤسس الحزب وصف النظام المصري بأنه "تقدمي إصلاحي".
بعدها، توجهت أنظار البعثيين إلى عبد الناصر كونه "القائد الذي انتظرته الأمة طويلاً لتوحيدها بعد عقود من التشتت والضياع" بحسب ما رأوه. ومع حلول العام 1956 تعددت دعوات البعثيين، وعلى رأسهم عفلق، إلى ضرورة إقامة وحدة مع مصر.
الإعجاب بناصر لم يتوقف على البعثيين وحدهم، وإنما انسحب إلى جزء كبير من الجماهير العربية التي حاز بينها الزعيم المصري شعبية كبيرة، بعد إعلانه تأميم قناة السويس وفشل الغرب في انتزاعها منه رغم شنِّ "العدوان الثلاثي" على مصر.
ارتباط البعث بعبد الناصر رفع من شعبية الأول في سوريا وبات إحدى القوى السياسية الرئيسية فيها، فتزايد عدد أنصاره من 6 آلاف إلى 30 ألفاً وأقام له فروعاً بالأردن ولبنان والعراق وحقق نتائج لافتة في الانتخابات بشكلٍ مكنه من المشاركة في الحكومة التي شكلها صبري العسلي في منتصف 1956.
ومثّل البعث في هذه الحكومة كل من صلاح البيطار، وزيراً للخارجية، وخليل الكلاس، وزيراً للاقتصاد، بعدما اشترط البعث أن يكون العمل على تحقيق الوحدة مع مصر جزءاً من برنامج الحكومة، بحسب رايموند هينبوش في كتابه "تشكيل الدولة الشمولية في سورية البعث".
إلى جانب البعث تصاعدت شعبية الشيوعيين، الذين اعتنقوا النهج العروبي أيضاً كجزءٍ من عقيدتهم السياسية، فلم تتآكل شعبيتهم مثل بقية القوى الكلاسيكية كالإخوان المسلمين والتيار اليميني المُنادِي بأمة سورية منعزلة عن محيطها العربي.
على أثر تزايد قوة الشيوعيين وصل خالد بكداش إلى البرلمان السوري ليكون أول نائب شيوعي في تاريخ البلاد العربية، كما أصبح الضابط الشيوعي عفيف البزري رئيساً لأركان الجيش، بحسب حازم صاغية في كتابه "البعث السوري: تاريخ موجز".
في الوقت نفسه تزايدت الضغوط الغربية على سوريا لإجبارها على الانضمام إلى حلف بغداد المناهض لمصر، ضغوط وصلت إلى حدِّ التهديد بغزو سوريا عسكرياً مثلما فعلت تركيا سنة 1957.
لم يجد البعث وسيلة للتخلُّص من هذه الأوضاع المعقدة إلا بتنفيذ آماله القديمة بإقامة وحدة فورية مع مصر، وهو ما علّق عليه هينبوش في كتابه بالقول:"رأى البعث في الوحدة فرصة لاستخدام شعبية ناصر الكبيرة لهزيمة منافسيه من اليمين واليسار وتنصيب نفسه كقوة مهيمنة في سوريا".
لاحقاً، سافر 22 ضابطاً بعثياً إلى مصر وقابلوا عبد الناصر وبذلوا جهوداً كبيرة لإقناعه بالموافقة على الوحدة الفورية بين البلدين تحت رئاسته.
رغم تخوفات ناصر من هذه الخطوة السابقة لأوانها إلا أنه استجاب لهم في نهاية المطاف، وكان حدثاً كبيراً لقي حفاوة كبيرة بين الكثير من الجمهور العربي.
البعث في زمن الوحدة
حتى يوافق على اتحاد مصر مع سوريا، اشترط عبد الناصر تعهّد ضباط الجيش بالابتعاد عن السياسة وحل جميع التنظيمات السياسية بما فيها حزب البعث. شرط صعب، ولكن وافق عليه قادة الحزب في ظل رغبتهم المحمومة في تنفيذ الوحدة تحت أي ثمن.
اعتقد البعثيون أن حل الحزب سيكون شكلياً وأنهم سيكونون القوة السياسية الأهم في عهد ناصر بسبب علاقتهم الوثيقة به وبسبب الدور المحوري الذي لعبوه في إقامة الجمهورية العربية المتحدة، إلا أن ما حدث هو العكس تماماً.
صحيح أن ناصر بدأ حُكمه عبر الاعتماد على عددٍ من البعثيين في مراكز قيادية متقدمة؛ فعيّن أكرم الحوراني نائباً وصلاح الدين البيطار وزيراً في الحكومة المركزية، إلى جانب اختياره أربعة بعثيين ليكونوا أعضاءً في المجلس التنفيذي لإدارة الإقليم السوري، إلا أن هذه المناصب بقيت حبراً على ورق بعدما بقي أغلبها بلا صلاحيات تُذكر.
يقول صاغية "في هذه الفترة كان ما وسّع شهية ناصر لاحتقار البعث أن كل واحدٍ من قادتهم راح يوغر صدره على رفاقه ويقنعه بأنه الأكثر ولاءً له"، فيما يضيف دندشلي "كان عبد الناصر حذراً من الأحزاب السياسية، ولا يرى الأشياء بهذا المنظار المثالي، ولم يكن لديه أدنى استعداد للتخلي عن السلطة لأي جهة مهما طبّلت له وزمرت" على حدّ تعبيره.
والأكثر خطورة من ذلك أن ناصر اعتبر أن شعبية البعث "ستكون أكبر خطرٍ على دولته الوليدة" خاصةً بعدما أظهروا تبرّماً من بعض سياساته الخارجية كتحسن علاقته بأميركا وفشله في منع إسرائيل من تحويل مجرى نهر الأردن.
هاجس ناصر الأكبر لم يكن المدنيون، وإنما الجيش السوري، لذا سعَى للسيطرة عليه. فأمر بنقل المئات من الضباط البعثيين إلى القاهرة، وتعمّد تعيين قادة مصريين لأغلب الوحدات العسكرية الرئيسة.
يقول جلال السيد في كتابه "حزب البعث العربي": "أصيب كثير من ضباط الحزب بخيبة أمل عندما لمسوا أن زملاءهم في الجيش من ضباط الكُتل السياسية الأخرى يتمتعون بمكانة أعلى من مكانتهم لدى الرئيس جمال عبد الناصر".
"القشة التي قسمت ظهر البعير" بين الطرفين هي انتخابات الاتحاد الوطني، التنظيم السياسي الوحيد في الجمهورية العربية المتحدة. لعب أنصار ناصر دوراً كبيراً في الهجوم على البعثيين الذين لم يحصلوا إلا على 2.6% فقط من المقاعد، يقول دندشلي "خلّفت الانتخابات قطيعة كاملة مع نظام عبد الناصر الذي كافأهم بطعنة في الظهر بعدما بذلوا من أجله كل غالٍ ونفيس".
وعن ذلك يكتب حازم صاغية "أحسّ البعثيون، مدنيين وعسكريين، أنهم باتوا في الزمن الوحدوي الذي ناضلوا لأجل قدومه، بلا قيمة، وأن حزبهم المنحل بات أكبر ضحايا الوحدة".
في نهاية عام 1959، استقال الحوراني والبيطار وجميع الوزراء البعثيين في المجلس الإقليمي، فشنَّ عبد الناصر هجوماً عنيفاً عليهم في أحد خطاباته واصفاً إياهم بأنهم "أقلية وُصولية انتهازية".
ومع بداية 1960 عقد البعث مؤتمراً سرياً في بيروت انتهى بطرد جميع المتعاطفين مع عبدالناصر داخل الحزب، وعلى رأسهم فؤاد الركابي قائد فرع حزب البعث في العراق والذي نفّذ محاولة فاشلة لاغتيال عبدالكريم قاسم زعيم العراق آنذاك، وقيل إن الركابي تلقى دعماً من عبدالمجيد فريد الملحق العسكري المصري في بغداد وقتها، بحسب دندشلي.
بعد خسارته تأييد البعث، فقدَ الزعيم المصري قاعدة جماهيرية متماسكة كان يمكنها تعطيل مشاعر العداء المتزايدة ضد سياساته القمعية في سوريا. وأفسح غياب الضباط البعثيين عن سوريا المجال لمجموعة أخرى من الضباط للسيطرة على الجيش وتدبير انقلاب الانفصال في العام 1961، بحسب هينبوش.
حينما قاد عبد الكريم النحلاوي الانفصال، لم يكن البعث من المشاركين فيه لكنه لم يمنع قيامه، ورحّب الحوراني والبيطار به فور وقوعه، بينما تحفظ عفلق على هذه القطيعة.
ما بعد الانفصال: كراهية مستمرة
اعتبر عبد الناصر أن حزب البعث هو المسؤول الأول عن فشل الوحدة وهو ما لم يغفره له أبداً. يقول دندشلي "عبد الناصر وصل في كرهه لحزب البعث وحقده عليه ما يتجاوز كل مقياس".
على الجانب الآخر، أحدث فشل دولة الوحدة شقاقاً كبيراً بين قادة البعث بعدما عارض عفلق الانفصال ورحّب به الحوراني والبيطار، أما أكبر النتائج التي ألمّت بالبعث بسبب هذه الأحداث، ظهور قوة صغيرة من الضباط الشباب الذين نفاهم ناصر إلى مصر، هناك اجتمعوا كثيراً واتفقوا على أن قيادة البعث التاريخية الحالية لم تعد تصلح لقيادتهم، فشكلوا تنظيماً مصغراً عُرف بِاسم "اللجنة العسكرية" بقيادة الضباط محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد.
عام 1963، وصل حزب البعث العراقي إلى السُلطة، بعدما شارك في انقلابٍ عسكري أطاح بعبد الكريم قاسم وعيّن عبد السلام عارف رئيساً بدلاً منه، فيما أسندت رئاسة الحكومة إلى القيادي البعثي أحمد حسن البكر.
بعد شهرٍ واحد من الانقلاب العراقي، لحق بهم ضباط "اللجنة العسكرية" فقضوا على "النظام الانفصالي" دون أن يشركوا عفلق في مخططاتهم إلا في اللحظات الأخيرة.
وعقب ستة أيامٍ من الانقلاب السوري، خاضت مصر وسوريا والعراق مباحثات شاقة لتشكيل دولة اتحادية، ليوقع قادة الدول الثلاثة في أبريل 1963 اتفاقاً لتأسيس دولة عربية كونفدرالية جديدة.
فرحت الكثير من الجماهير العربية بهذا القرار وتظاهرت في الشوارع دعماً له لكن لم يُكتب له التنفيذ أبداً.
مرت ثلاثة أشهر على توقيع الاتفاقية، ليقود بعدها الضابط السوري الناصري جاسم علوان محاولة لإسقاط النظام في سوريا، فشل فيها، وتم اعتقاله.
استغلت سلطة دمشق هذه الواقعة للتخلص من جميع الضباط الناصريين في الجيش، الأمر الذي أغضب الزعيم المصري، معتبراً أنه موجّه ضده شخصياً، فأعلن إلغاء اتفاق الوحدة الثلاثي.
في نوفمبر من العام نفسه، أقصى عبد السلام عارف البعثيين عن السُلطة وانفرد بالحكم، ما اعتبره البعثيون "نقطة سوداء" في تاريخ العراق وأطلقوا عليها "الردة التشرينية" وكانوا على يقين من تورط عبد الناصر بها.
بعدها وقع الشقاق التاريخي بين البعثيين سنة 1966 إثر احتدام الخلافات بين عفلق وضباط "اللجنة العسكرية"، فأقالوه من قيادة الحزب، ليهرب إلى العراق الذي احتضنه ونصّبه رئيساً للفرع العراقي من الحزب.
اختلف بعثيو سوريا والعراق في كل شيء إلا عداوتهم لعبد الناصر، بحسب محمد حافظ إسماعيل في كتابه "أمن مصر القومي في عصر التحديات". يقول اسماعيل إن ناصر لم يكن يثق بحافظ الأسد أبداً لذا ما إن أٌعلن تعيينه وزيراً للدفاع حتى أمر بسحب الضباط المصريين من القواعد السورية وتجميد التعاون العسكري مع دمشق.
وفي 1968 عاد البعث إلى السُلطة في العراق عبر انقلاب قاده أحمد حسن البكر وصدام حسين، وهي خطوة لم تقابلها القاهرة بحماس كبير، وسادت الريبة علاقة البلدين منذ اللحظة الأولى.
يحكي جواد هاشم في كتابه "مذكرات وزير عراقي"، أن البكر قال له عن ناصر إنه "رجل كذاب ولا يهدأ له بال إلا بالتآمر"، وأمر البكر بإخضاع السفارة المصرية لرقابة محكمة.
وفي القاهرة كان الشعور متبادلاً. بحسب ما ذكره إسماعيل في كتابه فإن ناصر قضى عامه الأخير في الحُكم يسيطر عليه القلق من أي أنشطة للبعث في مصر حتى أنه أمر المخابرات المصرية بفرض رقابة لصيقة على الدبلوماسيين العراقيين وأي وفود رسمية قادمة من العراق، فضلاً عن ذلك أمرت القاهرة بإغلاق بيت الطلبة العراقيين.
وفي سبتمبر 1970 تُوفي عبد الناصر فرفض البكر الذهاب إلى السفارة المصرية للتعزية. يقول جواد هاشم إن البكر لم يذهب إلا في اليوم التالي استجابةً لضغط مساعديه عليه.