حتى بعد نحو عشرين عاماً على اختفائه، لا يزال هيلان عيدان يتذكر تفاصيل "اليوم المشؤوم" وفق تعبيره، حين اختفى شقيقه خلال الحرب الطائفية (2006-2007) التي اشتعلت في مناطق واسعة من العراق.
"كأنهم أخذوه للتو" يقول هيلان باكياً وهو يروي قصة اختفاء جبار لـ"ارفع صوتك": "قبل سنتين فقط توفيت والدتي، التي أمضت كل تلك المدة في حال من القهر والبحث المستمر عن ابنها الذي لم تعرف مصيره حتى آخر يوم من حياتها".
تشبه قصة جبار عيدان قصص مئات الرجال الذين اختفوا خلال الحرب الطائفية، عامل بسيط وأب لستة أطفال يبحث عن قوت عائلته عبر شراء الخضار من مزارع منطقة التاجي ليبيعها في الأسواق المحلية.
"اتصل بنا أحد الخاطفين من هاتف شقيقي، وأبلغنا أن أخي بحوزتهم وهو في أمان وأنهم سيطلقونه مقابل خمسين ألف دولار. تمكنّا عبر العشيرة من جمع ثلاثين ألف دولار، لكن الخاطفين لم يعطونا دليلاً على حياته"، يبين هيلان.
طالبت العائلة الحديث مع ابنها المختطف دون جدوى، كما لم يتمكن الخاطفون من الإجابة عن أسئلتهم، يتابع هيلان "حينها عرفنا أننا نتعرض لعملية احتيال، وتأكد الخاطفون أننا لن نسلم المبلغ إلا بدليل، فتوقفوا عن التواصل معنا، وأغلقوا هاتفهم".
وفقاً لتقرير نشره المرصد العراقي لحقوق الإنسان، فإن نحو 12 ألف عائلة عراقية أبلغت عن مفقودين بين عامي (2017 – 2023)، فيما تتحدث الأمم المتحدة عن أرقام تتراوح بين 250 ألفاً ومليون عراقي اختفوا بدءاً من عام 1968 بسبب النزاع والعنف السياسي.
حددت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري خمس موجات من الاختفاء مرت على العراقيين، بدأت في ستينيّات القرن الماضي بسبب النزاع والعنف السياسي، وأدت لاختفاء ما بين 250 ألفاً ومليون شخص في العراق، وقالت إنه من المستحيل تقديم أرقام أكثر دقة.
الموجة الأولى بحسب اللجنة بدأت بين الأعوام 1968 و2003 خلال حكم حزب البعث وحملة إبادة الأكراد. تلتها موجة أعقبت الغزو الأميركي عام 2003. الموجة الرابعة بين 2014 و2017، أي بعد سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من الأراضي العراقية.
أما الموجة الرابعة، فكانت خلال العمليات العسكرية التي قامت بها قوات الحشد الشعبي لاستعادة المدن الرئيسة من داعش، فيما سجلت الموجة الخامسة خلال احتجاجات 2018-2020 التي جمعت أشخاصاً من جميع الخلفيات الدينية والعرقية.
شددت اللجنة الأممية شددت على أن الاختفاء القسري في العراق بكافة أنواعه ونطاقاته، يتطلب تدخلاً عاجلاً ومتضافراً من جانب الدولة والبلدان المجاورة لها والمجتمع الدولي بأجمعه.
كما دعت إلى اتخاذ تدابير تشريعية وقضائية لضمان اعتبار أي فرد تعرض لضرر كنتيجة مباشرة للاختفاء، ضحية، على النحو الرسمي، يحق له التمتع بالحقوق الواردة في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري.
مثل عائلة جبار عيدان تدور أم أحمد في فلك الاختفاء القسري لزوجها الصحافي توفيق التميمي منذ أكثر من أربعة أعوام "لم يبق باب إلا وطرقته لكن دون نتيجة" تقول لـ"ارفع صوتك".
يعمل التميمي في جريدة "الصباح" الرسمية وكان كاتباً ومعداً للبرامج، كما أصدر عدة كتب عن تاريخ العراق الحديث. وحين بدأت "احتجاجات تشرين" 2019 كان واحداً من آلاف العراقيين المشاركين، وأحد المتواجدين ضمن خيام الاعتصام.
اختُطف التميمي كما تقول زوجته "دون أن يتلقى أي تهديد، وفي وضح النهار في مكان قريب جداً من منزله حين كان متوجها إلى مقر عمله بجريدة الصباح الرسمية".
العملية تمت "عبر ملثمين بسيارات مظللة ودون أرقام، وهو ما تمكنت كاميرات المراقبة من رصده لكن دون معرفة هوية الأشخاص أو إلى أي جهة تم اقتياده" بحسب أم أحمد.
بعد اختطاف زوجها وغيابه دون أثر، تمكنت أم أحمد من التواصل مع عائلات المغيبين العراقيين. تقول إن جميع من التقت بهم "لديهم المعاناة والألم ذاته، وجميعنا نحمل الشعار ذاته وهو نريده حياً أو ميتاً. فالمصير المجهول أمر مرير جداً، وهو حالة من الألم والمعاناة المستمرة لا يشعر بها إلا من فقد أحد أفراد عائلته".
من جانبها، تقول الأكاديمية والناشطة في حقوق الإنسان وجدان عبد الأمير، إن حالة الاختفاء القسري تسبب لعوائل الضحايا "مشاكل وأزمات نفسية، لأن الفقدان ليس كالموت، فهم لا يعلمون إن كان حياً يرزق أم قد مات حتى يقطعوا الأمل".
فضلاً عن مشكلات اجتماعية، تضيف عبد الأمير لـ"ارفع صوتك": "فالزوجة لا تعلم إن كانت قد أصبحت أرملة أم لا، وما هو مصير أطفالها. كما تتعرض لصعوبات كبيرة بإعالة الأبناء، ولا تتمكن من التعامل مع الأوراق الرسمية والمعاملات الخاصة بهم، فلا يمكنها حتى استخراج بطاقات هوية لهم، وتتعرقل عمليات تسجيلهم في المدارس".
ولا يعتبر المفقود متوفياً إلا بعد مرور أربعة أعوام على اختفائه، بحسب عبد الأمير، مشيرة إلى أن ذوي المغيبين على موعد للتظاهر تحت نصب الحرية في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد لتسليط الضوء على معاناتهم والمطالبة بتشريع قانون التغييب القسري والسعي من خلاله إلى محاسبة مجرمي التغييب القسري، والكشف عن المفقودين والمغيبين قسرياً، فضلاً عن تعويض ذوي الضحايا بما يليق وكرامتهم الإنسانية، وتسهيل الإجراءات القانونية المتعلقة بهم.
وتعتبر عبد الأمير أن الاختفاء القسري "جريمة لا تسقط بالتقادم"، لذا "ينبغي جبر الضرر وإنصاف الضحايا ولو بعد مرور سنوات".
قانون الاختفاء القسري
يخلو قانون العقوبات العراقي من أي نص واضح وصريح يتعلق بالاختفاء القسري كما عرفته الاتفاقيات الدولية، وفق المحامي أنس الجبوري.
يقول لـ"ارفع صوتك" إن هناك أفعالاً تندرج تحت وصف الاختفاء القسري، كالخطف والاعتقال دون أوامر قضائية، بالإضافة لنصوص قانونية عدة تحاسب اعتقال أو تقييد حرية الأشخاص دون مذكرة قبض صادرة من جهة قضائية مختصة.
أما في ما يتعلق بإقرار قانون الاختفاء القسري، يوضح الجبوري، فإن "الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتمدت الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، وصادق العراق عام 2010 عليها، ومن المفترض أن يلتزم بتشريع قانون تتطابق مواده مع هذه الاتفاقية".
والإجراءات التي اتخذها العراق في هذا الصدد لغاية اليوم، هي "قرار مجلس القضاء الأعلى عام 2019 بتشكيل هيئات تحقيقية في كل محافظة تعرض مواطنوها إلى الخطف أو التغييب، ومعرفة مصيرهم. وفي 2023 أقرت الحكومة العراقية قانون مكافحة الاختفاء القسري وأحالته إلى البرلمان للتصويت عليه".
كما يحث المحامي العراقي السلطة التشريعية على اعتبار مشروع قانون الاختفاء القسري من القوانين "المستعجلة"، ذلك لأن إنجازه "ضروري" خلال الفصل التشريعي الحالي،
ويدعو الجبوري إلى "عدم شمول جريمة الاختفاء القسري بأي عفو عام أو خاص أو تخفيف الإجراءات الخاصة سواء في مرحلة التحقيق أو المحاكمة".