عرف العراق العديد من الحركات الانقلابية في القرن العشرين، من أهمها ما أقدم عليه العقيد عبد الوهاب الشواف آمر لواء الموصل في مارس 1959.
تزامن انقلاب الشواف مع تزايد وتيرة الصراع بين القوميين والشيوعيين العراقيين في خمسينيات القرن الماضي. فماذا نعرف عن هذه الشخصية العراقية؟ وماذا كان مصير الانقلاب؟
الشواف
ولد عبد الوهاب الشواف في بغداد عام 1916، وتلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي في مدارسها، قبل أن يلتحق بالكلية العسكرية ويتخرج منها برتبة ملازم، ثم يتابع دراسته العسكرية في كلية "الأركان" العراقية.
في سنة 1953، انضم الشواف لحركة "الضباط الأحرار" العراقية التي استلهم مؤسسوها فكرتهم من الضباط المصريين الذين أسقطوا النظام الملكي في يوليو 1952.
وتمكنت الحركة العراقية عام 1958م من إسقاط النظام الملكي وإعلان تأسيس النظام الجمهوري. تم حينذاك توزيع العديد من المناصب القيادية على قادة الحركة، وعُين الشواف آمراً لحامية الموصل في شمالي غرب العراق.
في دراسته "حركة عبد الوهاب الشواف وأثرها على مستقبل القوميين في العراق"، يلقي الباحث سعد ناجي جواد الضوء على الظروف السياسية التي شهدها العراق في خمسينيات القرن الماضي.
بحسب جواد، فإن حركة "الضباط الأحرار" العراقية انقسمت بعد وصولها للسلطة إلى معسكرين متمايزين: الأول اعتمد الأيديولوجيا القومية وتبنى فكرة الانضمام الفوري للجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا). كان عبد السلام عارف أبرز وجوه هذا المعسكر، واصطف معه الضباط القوميون العرب وحزبا "الاستقلال" و"البعث".
وأما الثاني، فمال للمعسكر الشيوعي، ورفض فكرة الانضمام للجمهورية العربية المتحدة. كان عبد الكريم قاسم أبرز رموز هذا المعسكر، وانضم إليه الحزبان "الشيوعي" و"الديمقراطي الكردستاني".
بحسب ما يذكر اللواء المتقاعد حازم حسن العلي في كتابه "انتفاضة الموصل"، فإن القوميين -على رأسهم عبد الوهاب الشواف- قرروا الانقلاب على عبد الكريم قاسم في سنة 1959. وفي يناير من تلك السنة، قام بعض الضباط العراقيين المواليين للشواف بزيارة دمشق والتقوا بالقيادات السياسية السورية "وبينوا أن قيادة الثورة في العراق المتمثلة بالعميد الركن عبد الكريم قاسم قد انحرفت عن مبادى ثورة ١٤ تموز، وأن العراق يسير حثيثاً نحو الشيوعية بدعم وإسناد السلطة، وأن أغلبية الضباط والشعب العراقي متذمرون من الوضع الذي آل إليه العراق، وهناك عمل من قبل الضباط لتصحيح الوضع في البلد".
على إثر تلك المقابلة، اتفق الضباط العراقيون مع نظرائهم في سوريا ومصر على التخطيط للانقلاب، وأرسلت لهم القاهرة محطة إذاعة متنقلة وكميات من الأسلحة التي يمكن أن يحتاجها الثوار أثناء صراعهم العسكري مع القوات المؤيدة لعبد الكريم قاسم.
الانقلاب
في كتابه "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق"، سلط المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو الضوء على الأحداث التي سبقت وقوع الثورة في الموصل.
يذكر بطاطو أن التيار الشيوعي العراقي عزم على إقامة مهرجان كبير في الموصل بعنوان "حركة أنصار السلام"، وهو المهرجان الذي كان يُعقد في عدد من المدن العراقية بالتناوب.
حاول الشواف أن يمنع إقامة هذا المهرجان حتى يمنع وقوع المصادمات بين الشيوعيين من جهة، والقوميين والإسلاميين من جهة أخرى. لكن السلطة في بغداد رفضت طلبه وأصرت على إقامة المهرجان، كما قدمت تسهيلات كبيرة للتيار الشيوعي حتى يظهر المهرجان في أفضل صورة ممكنة.
بالفعل، أُقيم المهرجان في الخامس من شهر مارس، ولم تستمر فعالياته إلا بضع ساعات، قبل أن تُختتم أعماله لسوء الأحوال الجوية.
يذكر العلي في كتابه أن الشواف تواصل قُبيل المهرجان مع بعض القيادات العسكرية في بغداد وأربيل بهدف تحديد موعد الثورة، واتفق الثوار على استغلال أحداث المهرجان لنزول القوات العسكرية إلى شوارع الموصل.
بحسب ما يذكر المؤرخ العراقي حامد الحمداني في كتابه "ثورة تموز في نهوضها وانتكاستها واغتيالها"، فإن الانقلاب بدأ في السابع من شهر مارس، عندما دعا الشواف قادة الأحزاب والمنظمات الديمقراطية والشيوعيين، للاجتماع معه من أجل دراسة الأوضاع السياسية المتدهورة، وسبل معالجتها. ثم ألقي القبض عليهم، وزج بهم في السجون.
وبعد وقوع بعض المشاجرات بين القوميين والشيوعيين، نزلت قوات الجيش إلى شوارع الموصل وأُعلنت حالة منع التجول.
في السابعة من صباح 8 مارس، أعلن بيان الانقلاب من راديو الموصل، وجاء فيه "إلى الشعب العراقي الأبي... عندما أعلن جيشكم الباسل ثورته الجبارة... لم يدر بخلده ولا بخلدكم أن يحل طاغية مجنون محل طاغية مستبد، وتزول طبقة استغلالية جشعه لتحل محلها فئة غوغائية تعبث بالبلاد وبالنظام وبالقانون فساداً، وليُستبدل مسؤولون وطنيون بآخرين يعتنقون مذهباً سياسياً لا يمت لهذه البلاد العربية الإسلامية العراقية بمصلحة...".
في اليوم التالي، طُبعت آلاف النسخ من هذا البيان، وتم توزيعها على المدنيين في الموصل والمدن القريبة منها.
مذبحة الموصل
على عكس المتوقع، لم يصل بيان ثورة الموصل إلى بغداد بسبب ضعف محطة الإذاعة التي استخدمها الشواف وأنصاره، بالتالي لم تقم الوحدات العسكرية في بغداد بدورها في خطة الانقلاب.
وسرعان ما افتضح أمر حركة الشواف وعرف بها عبد الكريم قاسم. فأمر بإذاعة خبر عزل الشواف في إذاعة بغداد، كما تم القبض على العديد من الضباط القوميين بهدف القضاء على الحركة الانقلابية في مهدها.
أصدرت الأوامر لعدد من الطائرات الحربية لضرب مقر قيادة الموصل، ونُفذت المهمة بنجاح في صباح التاسع من مارس، ما تسبب في إصابة الشواف بعدد من الجروح.
تيقن الشواف من فشل حركته فانسحب مع جزء من قواته من مبنى قيادة الموصل، وسمح ذلك للقوات العسكرية الموالية لعبد الكريم قاسم ومؤيديها من الشيوعيين بالاستيلاء على المقر، "فعملوا على القضاء على الفئات القومية والوطنية، واستباحوا المدينة لمدة ثلاثة أيام بإيعاز وتشجيع من عبد الكريم قاسم، حيث ضُربت البيوت الآمنة بالمدرعات، وروعت النساء والأطفال والشيوخ، ونُهبت الدور، واستخدموا أبشع الصور وتفننوا في قتل المواطنين الأبرياء وسحلهم في شوارع المدينة وهم أحياء حتى الموت، ثم تعليق جثثهم المشوهة على أعمدة الكهرباء زيادة في التنكيل والتشفي، ولم تنج من همجيتهم وحقدهم النساء والشيوخ..."، كما يؤرخ العلي في كتابه.
بشكل عام، عُرفت تلك الأحداث باسم مذبحة الموصل أو مجزرة "الدملماجة"، وراح ضحيتها العشرات من المثقفين والعسكريين والنقابيين.
من جهة أخرى، اختلفت الأقوال حول مصير عبد الوهاب الشواف. يذكر المؤرخ العراقي هادي حسن عليوي إن الشواف سحب مسدسه وانتحر عقب إصابته، فيما تذكر مصادر أخرى أن إصابته كانت خطيرة ومات بعد مدة قصيرة من تلقيه العلاج.
على مدار الشهور التالية التي أعقبت فشل الانقلاب، جرت وقائع عدد من المحاكمات العسكرية ضد الانقلابيين. ووجهت لهم اتهامات بالخيانة العظمى.
في شهر أغسطس 1959، تم إصدار الحكم بإعدام ستة من القيادات العسكرية التي شاركت في انقلاب الشواف، منهم النقيب الركن نافع داود أحمد والنقيب محمد أمين عبد القادر والملازم أول سالم حسين السراج. وفي 23 من الشهر ذاته نفذت أحكام الإعدام بحق المحكوم عليهم، ليُسدل الستار على حركة الشواف.