لبنان يعتبر أكثر تساهلاً مع المثليين مقارنة بدول عربية أخرى
لبنان يعتبر أكثر تساهلاً مع المثليين مقارنة بدول عربية أخرى

أوقف مجلس شورى الدولة في لبنان، العمل بقرار صادر عن وزير الداخلية، بسام المولوي، في يونيو الماضي، يطلب من قوى الأمن منع أي لقاء أو تجمع لأفراد مجتمع "الميم عين" في لبنان وكل ما يتصل بالمثلية الجنسية.

وهو تطور اعتبره حقوقيون ومتابعون للقضية انتصارا قضائيا للمثليين في لبنان 

قرار "شورى الدولة" جاء بشكل مؤقت، إلى حين البت النهائي بالطعن المقدم من منظمتي "المفكرة القانونية" و"حلم"، والذي أعاب على قرار الوزير تقييده حريات مضمونة دستوريا، وتهديده السلم الأهلي وتحريضه على العنف والكراهية ضد فئات هشّة يجدر بالدولة حمايتها وليس ترهيبها.

ورأت المنظمتان أن القرار القضائي الأخير، يمثل "خطوة إيجابية نحو حماية الفئات المهمشة في لبنان ويأتي استكمالاً للاجتهادات السابقة لمجلس شورى الدولة التي اتجهت نحو تعزيز الحريات الأساسية للفئات المهمشة، ومنها حرية التعبير والمشاركة في نقاشات عامّة حول المثلية الجنسية." 

منع تحت الترهيب الديني 

وكان قد طلب المولوي في كتاب أصدره في 24 يونيو الماضي من القوى الأمنية اللبنانية منع إقامة أنشطة قال إن هدفها "الترويج للشذوذ الجنسي"، على حد تعبيره.

وأضاف أنه "بعد انتشار دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي لإقامة حفلات وأمسيات للترويج للشذوذ الجنسي في لبنان، وبعد أن تلقت الوزارة اتصالات من المراجع الدينية الرافضة لانتشار هذه الظاهرة، يطلب إليكم فورا اتخاذ التدابير اللازمة لمنع إقامة أي احتفال أو لقاء أو تجمع يهدف إلى الترويج لهذه الظاهرة"، على حد تعبيره. 

وتزامن قرار المولوي مع اعتداءات تعرضت لها أنشطة لمجتمع الميم في بيروت وتهديدات صدرت عن جهات دينية مسيحية وإسلامية تتوعد بمواجهة أي تجمع يقام لمجتمع الميم في لبنان.

واعتبر الوزير حينها أنه "لا يمكن التذرع بالحرية الشخصية.. وأن الأمر مخالف للعادات والتقاليد في مجتمعنا ويتناقض مع مبادئ الأديان السماوية"، حسب تعبيره.

وأدى قرار المولوي آنذاك إلى إلغاء لقاءات وتجمعات دعي إليها في صيف 2022 تندد بسياسات التمييز ضد مجتمع "الميم-عين" في لبنان، إضافة إلى عروض مسرحية كان مقرر إقامتها، كما أعقب القرار تصاعد لخطاب الكراهية والتحريض على المثليين والمثليات في لبنان، صادر عن جهات دينية وسياسية في لبنان تتهم أفراد مجتمع "الميم عين" بالتآمر على المجتمع اللبناني و"نشر الانحلال والرذيلة فيه، استجابة لأجندة دولية." 

أبرز المواقف المسجلة في هذا السياق جاءت على لسان مفتي الجمهورية اللبنانية، عبد اللطيف دريان، الذي أكد في تصريحات له أن "دار الفتوى لن تسمح بتشريع المثلية الجنسية، ولا بتمرير مشروع الزواج المدني المخالف للدين الإسلامي ولكل الشرائع"، مشددا على "مواجهة كل الأفكار والطروحات المريبة والمشاريع المشبوهة التي تنال من الشريعة الإسلامية بقوة وحزم."  

موقف مشابه صدر عن زعيم حزب الله في لبنان، حسن نصرالله، الذي شن بدوره هجوما عنيفا على مجتمع "الميم عين"، واصفا المثلية بأنها "خلاف الطبيعة والفطرة الإنسانية"، على حد تعبيره، وأنها "بلاء يجب مواجهته قبل وقوعه، كالمخدرات التي يصعب الخروج منها بعد الإدمان عليها، كما حذر من مساعي إدراج المثلية في البرامج التعليمية في العالم العربي والإسلامي"، على حد تعبيره.

وزعم نصرالله أن "أميركا وبعض القوى الغربية يعملون على مدى عشرات السنين على مشروع إفساد البشرية، سفارات أميركا، وفي أكثر من بلد ترفع علم المثليين، وتدير الدعوة إلى الشذوذ والإلحاد، وتسخِّر لهذا وسائل ضخمة جدًا. هم يخوضون ضدنا، بالإضافة للحرب العسكرية والاقتصادية حربًا دينية وثقافية"، حسب قوله. 

التجمع مسموح مجددا 

وبفعل القرار الصادر، لم يعد بإمكان الأجهزة الأمنية اللبنانية الاستناد إلى قرار وزير الداخلية من أجل منع تجمعات أو لقاءات أو ندوات عامة تتناول موضوع المثلية الجنسية أو حتّى من أجل التضييق على المؤسسات التي تُعنى بحقوق مجتمع "الميم-عين". 

وفي هذا السياق يؤكد المدير التنفيذي لجمعية "حلم"، طارق زيدان، أنه "عاد بإمكان أفراد مجتمع الميم في لبنان الالتقاء وتنظيم التجمعات بشكل قانوني، بغض النظر عن القرار السابق للوزير".

ويضيف أن من "الملفت فيما جرى أن القضاء لم ينصرنا وحسب، وهو عادة ما ينصف قضايانا خاصة عندما تكون القرارات مجحفة بهذه الطريقة وخارجة عن القانون، لكن القرار أيضا أوقف سريان كتاب الوزير إلى حين البت بالدعوى بشكل عام، وهذا صراحة لم نكن نتوقعه، وهذا ما يعطينا فكرة عن أهمية وجود قضاء مستقل في لبنان للمحافظة على ما تبقى من حريات وكرامة لدى المواطنين اللبنانيين". 

زيدان يرى في حديثه لموقع "الحرة" أن وزير الداخلية اللبناني "يستخدم معتقداته الشخصية كأساس لفرض سياسات عامة في لبنان، متخطيا صلاحياته، من دون أن يستند لأي مواد قانونية رغم أنه قاض سابق." مضيفا أن قرار مجلس شورى الدولة "هو انتصار لكل من لا يريد للذهنية الفاشية السيطرة على البلاد والتحكم بإدارتها."  

يعتبر المدير التنفيذي لجمعية "حلم" أن قرار المولوي كان محاولة ضمن الجهود التي بذلت لترهيب وإسكات مجتمع الميم عين في لبنان، بالتزامن مع التحريض والتعبئة على العنف ضدهم، "كان قرارا ساقطا أخلاقيا بسبب وضعه لقوى الأمن في وجه أفراد مجتمع الميم عين في لبنان بدل حمايتهم، واليوم بات ساقط قانونياً."  

موقع "الحرة" حاول التواصل مع المولوي مباشرةً وعبر مكتبه وفريقه الاستشاري، من أجل منحه حق الرد وتوضيح وجهة نظره، وموقفه من قرار مجلس شورى الدولة، دون ورود  أي رد حتى إعداد التقرير.

مخالف للدستور 

من ناحيتها تشرح مسؤولة قسم التقاضي الاستراتيجي في "المفكرة القانونية" المحامية غيدا فرنجية، أن الطعن المقدم إلى مجلس شورى الدولة يعتبر قرار الوزير "مخالفا للقانون والدستور فضلا عن تخطيه لصلاحياته بكونه يمس بحرية التجمع والتعبير المكفولة دستوريا، كذلك بكونه يمس بحق الخصوصية ومبدأي المساواة وعدم التمييز، دون مبررات مقبولة، فضلا عن كون المنع جاء مطلقا وغير محدد بأحداث معينة، متضمنا تفويضا واسعا للأجهزة الأمنية بالتدخل من تلقاء نفسها وتقدير مدى اشتمال أي تجمع بالمنع دون المرور بالنيابة العامة مما يشكل تعديا على صلاحيات السلطة القضائية." 

وعادة ما يعمد مجلس الشورى الدولة إلى وقف تنفيذ القرارات الإدارية لسببين، متوفرين في الدعوى المقدمة وفق فرنجية، وهما "وجود ضرر بليغ يلحق بالمستدعي، ولكون المراجعة ترتكز على أسباب جدية هامة" وذلك وفقاً للمادة 77 من نظام عمل مجلس شورى الدولة.  

قرار الوزير، بحسب فرنجية، لا يستند إلى أي مادة أو نص قانوني ليتم مناقشته قانونياً، "أما الاستناد به إلى التقاليد ومعتقدات الأديان السماوية، فإن دستور لبنان، يوجب على الدولة أن تكون في موقف حياد من كافة المعتقدات والآراء المختلفة والأديان، وهذا القرار يمس بمبدأ حياد الدولة، والمجلس الدستوري قد أصدر قرارا يقول فيه إن الدولة تتخذ موقفاً حياديا تجاه جميع الأديان والمعتقدات، وبالتالي لا يمكن فرض رأي من معتقد على آخر ودين على آخر وإنما واجب الدولة هي حماية حرية الاعتقاد المطلقة للجميع، حتى أن الدستور اللبناني يضمن حرية الإلحاد وهناك قرارات قضائية مختلفة تؤكد على حرية الالحاد في لبنان، وبالتالي النظام القانوني محايد تماماً، ولا يسمح لمعتقد أن يقصي أي معتقد آخر." 

وتوضح أن قرار المنع "جاء عاماً ومطلقاً وليس تجاه لقاء محدد أو مناسبة معينة، بل جاء شاملاً، حتى أنه استخدم عبارة شذوذ غير الموجودة في القانون اللبناني وهي كلمة مرفوضة لا أحد يستخدمها ولا أي محكمة تعتمدها، وبالتالي استخدامه لهذه التوصيفات والاسناد المعتمد في قراره بدا وكأنه يشيطن فئة من المجتمع، بناء لطلب مرجعيات دينية، وهذه ليس المرة الأولى التي تستجيب السلطات اللبنانية إلى مثل هذه الطلبات." 

وتضيف "كنا نتوقع من وزير الداخلية على هذا الصعيد أن يتصدى للمجموعات التي كانت تتهجم على نشاطات وأفراد مجتمع الميم عين، فواجب الدولة هو حماية الأشخاص الذين يتعرضون للتحريض وليس منعهم من الالتقاء والتجمع.  

وبحسب فرنجية من الممكن أن يكون وقف العمل بقرار الوزير هو تمهيد لإلغائه، "ولكن يجب إفساح المجال أمام مجلس شورى الدولة للاستماع إلى حجج الطرفين ليتخذ قراره، فالبت بالمراجعة ستتطلب تبادل لوائح بيننا وبين الدولة اللبنانية، التي لم تجب بشكل مفصل حتى الآن، سوى أنها طلبت رد الدعوى لعدم توافر الشروط المنصوص عليها في المادة 77 من نظام مجلس شورى الدولة، ونتأمل بالنتيجة أن يتم إبطال القرار نهائياً." 

وعن إمكانية اتجاه وزير الداخلية لاتخاذ قرار آخر مشابه، تقول فرنجية "حينها يتم التعامل مع القرار الجديد بالطريقة نفسها أيضاً، ولكن عادة قرارات مجلس الشورى تلزم الإدارة أن تأخذ بعين الاعتبار الأوضاع القانونية التي يرصدها القرار ويفترض أن تلتزم بروحية قرارات مجلس الشورى في كل أدائها." 

يذكر أن لبنان وافق عام 2021، خلال الاستعراض الدوري الشامل في "مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة"، على التوصيات المقترحة لضمان الحق في التجمع السلمي والتعبير لأفراد مجتمع الميم، فيما "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، الذي صادق عليه لبنان عام 1972، ينص على أن لكل فرد الحق في حرية التعبير وحرية التجمع وتكوين الجمعيات. "لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة"، التي تفسر العهد، أعلنت بوضوح أنه يحظر التمييز على أساس التوجه الجنسي والهوية الجندرية في تطبيق أي من الحقوق التي تحميها المعاهدة، بما فيها حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات. 

ازدواجية قانونية 

ويسجل ازدواجية في تعامل القانون اللبناني مع القضايا المتعلقة بالمثلية الجنسية، حيث يركن إلى المادة 534 من قانون العقوبات اللبناني من أجل ملاحقة المثليين/ات والعابرين/ات، والتي تنص على أن "كل مجامعة على خلاف الطبيعة يعاقب عليها بالحبس حتى سنة واحدة"، في حين سجل سوابق عدة لقضاة لبنانيين عمدوا إلى نفي اشتمال هذه المادة على المثليين جنسياً، اعتماداً على كون كلمة "خلاف الطبيعة" فضفاضة فيما "لم يحدد القانون مفهوم معيّن للطبيعة أو معيار يجري على أساسه تحديد مدى تطابق أو مخالفة الفعل للطبيعة ولقوانينها، وأن مفهوم الطبيعة يتبدّل بحسب المنظار المتّخذ لتفسيره، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الإنسانيّة الخاضعة لتطوّر المفاهيم والأعراف والمعتقدات"، وفق نصوص الاجتهادات القانونية للقضاة في تلك القضايا.  

وفي هذا السياق تؤكد فرنجية أن القانون اللبناني "لا يجرّم تقنياً المثلية الجنسية، وإنما يتحدث عن المجامعة المخالفة للطبيعة، وكثير من المحاكم اتجهت لتفسير هذه المادة بكونها لا تجرم العلاقات المثلية، ومجلس شورى الدولة في السابق، أصدر قرارا سابقاً اعتبر فيه أن المشاركة في مؤتمر يتناول المثلية الجنسية يندرج في إطار حرية التعبير، وبالتالي هذا الأمر محمي قانونياً، حيث لا يمكن معاقبة الأفراد ومنعهم من الكلام عن الأمر ومناقشته." 

وتضيف "وقد شرحنا في الطعن المقدم أن المثلية الجنسية هي أمر قيد النقاش اليوم في لبنان، على الصعيد القانوني والحقوقي والصحي والاجتماعي، وهناك نقاش دائم حوله على مختلف الصعد، وبالتالي لا يمكن منع النقاش والندوات والحوارات والتجمعات التي تتخذ من مجتمع "الميم عين" موضوعاً لها، لاسيما وأن هذه الفئات هي الأضعف والأكثر تهميشاً في المجتمع والأكثر حاجة بالتالي لمناقشة أوضاعها القانونية والاجتماعية والصحية، بسبب الإقصاء والتهميش والتمييز الذي تعاني منه، وهذا التوجه الذي يتخذه مجلس شورى الدولة منذ سنوات عدة." 

وبرغم أن لبنان يعتبر أكثر تساهلاً مع المثليين مقارنة بدول عربية أخرى، إلا أنه ألغيت مراراً خلال السنوات الماضية أنشطة وتجمعات لمجتمع "الميم عين"، بينها الـ"غاي برايد" أو "فخر المثليين"، بضغط من السلطات الدينية بشكل خاص، في حين تنفذ قوى الأمن بانتظام مداهمات في ملاه ليلية وأماكن أخرى يرتادها المثليون، حيث يتم اعتقالهم وفرض فحوص طبية مذلة خلال توقيفهم، وغالباً ما يتعرضون للتنمر في المجتمع والبرامج التلفزيونية.  

قضية سياسية 

ولعب مجتمع "الميم عين" في لبنان دوراً كبيراً في الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد منذ العام 2019، حيث قاد أفراده ونظموا عددا من التحركات على الأرض، وأعلنوا بشكل أوضح عن وجودهم في المجتمع ومطالبهم الحقوقية المنسجمة مع مطالب كافة اللبنانيين.  

وفي هذا الإطار يشدد زيدان على أن قضية مجتمع "الميم عين" في لبنان "ليست قضية اجتماعية وحسب وإنما قضية سياسية، بسبب الأبعاد الموجودة لهذه القضية والمرتبطة بالدولة اللبنانية وبقانونها وبالخدمات المقدمة منها، وبتمييز واقصاء وعنف مزمن ضد فئة اجتماعية معينة." 

ويتابع "بغض النظر عن رأي الدين أو الأشخاص بالمثلية الجنسية أو بالعبور الجندري، من غير المقبول أن يتم طرد مواطن توجه إلى وزارة الصحة للاستفادة من تقديماتها بسبب هويته الجندرية أو الجنسية، وليس مقبولاً أن يتم طرد شخص من المدرسة ومنعه من متابعة تعليمه لكونه عابر جنسياً." 

الرئيس التنفيذي لجمعية حلم يضيف "لنعتبر أن القانون يمنع إقامة علاقات جنسية بين أبناء الجنس الواحد، ولكن ما هو غير مفهوم انسحاب هذا المنع على الحقوق الأساسية للمواطن كحق التعليم والاستشفاء والعمل، وكأن المثلية الجنسية باتت وسيلة لتجريد الناس من حقوقها واستخدامها لأغراض سياسية."  

وكانت منظمة أوكسفام قد حذرت من أن مجتمع المثليين في لبنان يواجه تحديات هائلة، إذ حرمتهم الأزمة الاقتصادية وجائحة كوفيد-19 وانفجار مرفأ بيروت في صيف 2020، من مساحاتهم "الآمنة" ومصادر دخلهم. 

بالنسبة إلى زيدان "هناك صحوة عالمية على حقوق أفراد مجتمع الميم عين، الذين بدورهم ما عادوا يسكتون على القهر والعنف والاقصاء الذي يتعرضون له، وهذا ما لن يعجب المضطهِدين بطبيعة الحال، هذه الظاهرة باتت إقليمية ودولية، كثير من الأنظمة تستغل المثليين لمصالحها الداخلية، كما هو الحال في مصر وإيران وروسيا وغيرها لإثارة ذعر أخلاقي وهمي يسمح بإحكام قبضتهم الداخلية، ويبرر العنف والسياسات والقرارات الهادفة للسيطرة على الناس." 

ويختم  "في لبنان يحصل الأمر نفسه عبر المنظومتين الدينية والسياسية لحماية مصالحهم وتثبيت سيطرتهم."  

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية
الحرب أدت إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية في قطاع غزة بما في ذلك المراكز التعليمية

مع بدء السنة الدراسية الجديدة في معظم أنحاء الشرق الأوسط، يجد تلاميذ قطاع غزة أنفسهم للعام الثاني على التوالي دون مدارس ينهلون منها العلم والمعرفة، مما حدا برهط من المسؤولين والأهالي إلى إيجاد بعض الحلول الفردية، وفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية.

وكان من المفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد رسميا هذا الأسبوع، في القطاع الذي يشهد حربا شرسة منذ أكثر من أحد 11 شهرا بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، المصنفة "منظمة إرهابية" في الولايات المتحدة ودول أخرى.

وأدى القصف إلى تدمير جزء كبير من البنية الأساسية الحيوية في القطاع الفلسطيني، بما في ذلك المراكز التعليمية، التي كانت تستوعب نحو مليون تلميذ تحت سن 18 عاماً، وفقاً للأمم المتحدة.

وفي ظل صعوبة تأمين مساحة آمنة لتدريس الأطفال، قررت وفاء علي، التي كانت تدير مدرسة بمدينة غزة قبل الحرب، فتح فصلين دراسيين في منزلها شمالي القطاع، حيث يتجمع العشرات من الأطفال لتعلم العربية والإنكليزية بالإضافة إلى مادة الرياضيات.

وقالت علي: "أرادت الأسر أن يتعلم أطفالها القراءة والكتابة بدلاً من إضاعة الوقت في المنزل، خاصة أن الحرب لن تنتهي قريبا".

ولا يستطيع المعلمون الوصول إلا إلى نسبة صغيرة من الأطفال الذين حرموا من التعليم بسبب الحرب، التي بدأت بعد أن هاجمت حركة حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وبينهم نساء وأطفال، حسب بيانات رسمية.

وردًا على ذلك، شنت إسرائيل عملية عسكري أدت إلى مقتل أكثر من 41 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، وفقًا لوزارة الصحة في القطاع.

"نبذل قصارى جهدنا"

من جانبها، أوضحت آلاء جنينة، التي تعيش حاليا في خيمة بوسط قطاع غزة، أن طفلها البالغ من العمر 4 سنوات وابنتها ذات السبع سنوات، يتلقيان دروسًا في خيمة قريبة.

وقالت المراة البالغة من العمر 33 عاما، إنها زارت مؤخرا "مدرسة الخيام"، مضيفة: "لقد أحزنني ذلك. ليس لديهم ملابس أو حقائب أو أحذية. لكننا نبذل قصارى جهدنا".

وتقول وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، التي تدير عشرات المدارس بالقطاع، إن أكثر من ثلثي مدارسها دُمرت أو تضررت منذ بدء الحرب.

ووفقا للوكالة، فقد قُتل "مئات" الفلسطينيين الذين نزحوا إلى مرافق الأونروا، ومعظمها مدارس، بينما تؤكد إسرائيل
أن ضرباتها على المدارس وملاجئ الأونروا "تستهدف المسلحين الذين يستخدمون تلك المرافق"، وهو أمر تنفيه حركة حماس.

ورفضت هيئة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق، وهي الهيئة العسكرية الإسرائيلية المسؤولة عن التنسيق مع جماعات الإغاثة، التعليق، كما لم يستجب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي لطلب التعليق من الصحيفة الأميركية.

"بقع لليأس والجوع"

وقالت "الأونروا" إنها أطلقت برنامج العودة إلى التعلم، الذي سيجلب حوالي 28 ألف طفل إلى عشرات المدارس، لافتة إلى أن ذلك البرنامج سيركز على "الدعم النفسي والفنون والرياضة ومخاطر الذخائر المتفجرة، ثم سيتعمق أكثر في مواد القراءة والكتابة والرياضيات".

وفي هذا الصدد، قال المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، الأربعاء، على وسائل التواصل الاجتماعي: "الكثير من المدارس لم تعد مكانًا للتعلم. لقد أصبحت بقعا لليأس والجوع والمرض والموت".

وتابع: "كلما طالت فترة بقاء الأطفال خارج المدرسة.. كلما زاد خطر تحولهم إلى جيل ضائع. وهذه وصفة للاستياء والتطرف في المستقبل".

من جانبه، أوضح الباحث في مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني بقطر، معين رباني، أن قطاع غزة "كان لديه معدلات تعليم عالية نسبيًا، على الرغم من نسب الفقر الكبيرة التي تسوده".

وأضاف رباني أن الفلسطينيين "سعوا منذ فترة طويلة إلى التعليم للتقدم وسط ظروف اقتصادية صعبة، حيث وقد وفرت لهم الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية مختلفة فرصًا تعليمية جيدة".

ولفت في حديثه للصحيفة الأميركية، إلى أن العديد من الفلسطينيين في غزة "اعتادوا على فقدان أراضيهم ومنازلهم وممتلكاتهم، وبالتالي اهتموا بالتعليم، لأنه أمر يمكنك أن تأخذه معك أينما ذهبت".

وهناك ثمن نفسي للابتعاد عن المدرسة على الأطفال أيضًا، إذ قالت ليزلي أركامبولت، المديرة الإدارية للسياسة الإنسانية في منظمة إنقاذ الطفولة الأميركية، إن قضاء عام بعيدًا عن المدرسة والأصدقاء والملاعب والمنازل خلال صراع مسلح عنيف، "يمثل إزالة للركائز الأساسية للاستقرار والسلامة للأطفال".

وشددت على أن "عدم اليقين والتوتر وفقدان المجتمع، يمكن أن يؤدي إلى تحفيز أنظمة الاستجابة الطبيعية للتوتر في الجسم، والتي يمكن أن تكون ضارة بمرور الوقت".

واستطردت حديثها بالتأكيد على أن "تكرار هذه الأعراض أو استمرارها لفترات طويلة، قد يؤدي إلى مجموعة من النتائج السلبية على الصحة العقلية، التي لا يتعافى منها الأطفال بسهولة".

وكانت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، قد كشفت في وقت سابق هذا الشهر، أن الأطفال في قطاع غزة "هم الفئة الأكثر تضررًا" مما يحدث هناك، وهم بحاجة ماسة لدعم نفسي وتعليمي بشكل عاجل.

وقال الناطق باسم المنظمة، كاظم أبو خلف، في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا)، إن الوضع الحالي في غزة "يتطلب استجابة عاجلة لمساعدة الأطفال الذين يعانون من فقدان التعليم والأضرار النفسية الجسيمة التي يتعرضون لها".

وشدد على أن "جميع الأطفال في القطاع يحتاجون إلى دعم نفسي، حيث فقد ما لا يقل عن 625 ألف طفل عامًا دراسيًا منذ بدء الحرب.. وبعض الأطفال تعرضوا لبتر أطرافهم وهم بحاجة إلى الخروج من القطاع لتلقي العلاج، فيما يعاني العديد من الأطفال من الخوف والقلق بسبب الحرب".