عبور
الفيلم توعوي عن العنف الاقتصادي القائم على النوع الاجتماعي في لبنان

وصلت شظايا حملات التحريض ضد مجتمع الميم عين في لبنان، إلى فيلم "عبور"، الذي واجه حملة تجييش حالت دون تمكنه من العبور إلى المسرح الوطني اللبناني في طرابلس، رغم أن الجمعية المنتجة له تؤكد أن مضمونه بعيد عما يدّعي مهاجموه.

الفيلم الذي أثار بلبلة من إنتاج جمعية ورد للتنمية والتطوير، وقد روّجت له بأنه فيلم توعوي عن العنف الاقتصادي القائم على النوع الاجتماعي، وبعد أن كان مقررا عرضه في الثامن عشر من الشهر الجاري تم تأجيل ذلك نتيجة الحملة التي شنت ضده.

أول من أطلق الحملة على الفيلم هو الباحث في الفكر والسياسة، أحمد القصص، الذي تساءل في منشور على صفحته عبر موقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" فيما إن كان أهل "مدينة العلم والعلماء يسمحون باستباحة مدينتهم ويشرّعون أبوابهم لهؤلاء المفسدين في الأرض".

القصص اعتبر في منشوره أن "طرابلس مستهدفة مجدّداً بهجوم جندري... عبر سينما أمبير هذه المرّة"، شارحاً "ما يؤكّد التهمة على هذا الفيلم أنّ الجمعيات الداعمة للنشاط هي جمعيات نسوية أو جندرية، ومنها مؤسّسة Kvinna till Kvinna، بالعربية: المرأة للمرأة. إنّها مؤسّسة سويدية المنشأ، أهمّ ما يلفت النظر فيها أنّ استراتيجيتها للفترة 2023-2028 تتضمّن العمل على مكافحة العنف القائم على النوع الاجتماعي (الجندر)".

لكن رئيسة جمعية ورد للتنمية والتطوير، المعالجة النفسية والأسرية، مهى الأتاسي الجسر، تؤكد أن "من يقف خلف تجييش الشارع ضد الفيلم والجمعية هم أشخاص يستخدمون أسلوب الترهيب بهدف إحداث بلبلة ومن خلفها شهرة لهم، ادّعوا أننا نروّج للمثلية الجنسية قبل مشاهدتهم الفيلم، مع العلم أن محتواه مستوحى من قصص نساء طرابلسيات سبق أن خضعن للتدريب في جمعيتنا، اطلعنا على معاناتهن، فرغبنا بالإضاءة عليها كخطوة أولى لمعالجتها في المجتمع الذي تكثر فيه تلك المآسي ومحاكمنا المدنية والشرعية شاهدة على هذه الحالات".

وتشدد الأتاسي في حديث لموقع "الحرة" على أنه "كان يفترض بمن شنّوا الحملة على الفيلم تطبيق الآية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين. إلا أنهم هاجمونا من دون أن يتبيّنوا الحقيقة".

بين التوعية وعدم العبيثة

صوِّر "عبور"، وهو فيلم وثائقي مدته 12 دقيقة، في نوفمبر من العام الماضي، بما يتوافق كما تقول الأتاسي "مع البيئة الطرابلسية ومبادئها ومبادئ اللبنانيين، للمحافظة على الأسرة التي تعتبر أساس المجتمع، وهو يهدف إلى إيصال رسالة الباحثة النفسية ميلاني كلاين التي تؤكد أن وجه الأم مرآة لأطفالها، بمعنى أن حالتها النفسية تنعكس عليهم وكذلك على أسرتها وبالتالي المجتمع، فإما أن تكون رافعة أو مدمّرة لهم".

ومن أهداف الفيلم كذلك "الإضاءة على سلبيات العنف الاقتصادي المجتمعي وضرورة تمكين المرأة اقتصادياً كي تكون فعّالة ومنتجة ودعامة قوية لأسرتها وزوجها في ظل التحديات الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد، وتوعيتها قانونياً على حقوقها وواجباتها، ونفسياً كي تنشر الإيجابية في محيطها".

تشابه الأسماء بين الفيلم اللبناني وفيلم تونسي يتحدث عن المثلية الجنسية هو الذي أدى إلى شن الحملة ضده، كما تقول الأتاسي، شارحة "أنهينا تصوير الفيلم (الذي تأخر عرضه لأسباب لوجستية)، قبل عرض الفيلم التونسي على يوتيوب، ولم نسمع بالأخير إلا حين شنّت الحملة ضدنا"، مشددة " تشابه الأسماء لا يعني تشابه المحتوى، كما أن وجود داعم سويدي مشترك لا يعني أننا انصعنا الى أجندات غربية لمجرد وجود تمويل، ولا يعني أننا تخلينا عن حضورنا المحافظ، فالجمعية والقيّمون عليها يلتزمون بمبادئهم ولهم القدرة على فرض شروطهم لتحقيق غاياتهم وغاية المجتمع الطرابلسي على خلاف الكثيرين".

وشددت "بعد الذي حصل سنبقي على اسم الفيلم مع إضافة كلمة ثانية له، أي عبور إلى... تلافياً لأي لغط مستقبلي، مع العلم أن خصّ كلمة عبور بمجتمع الميم عين أمر ظالم بحق لغتنا العربية الواسعة وتجهيلٌ للمعنى الأصلي للكلمة التي تعني الاجتياز، كما أننا بدأنا بتصوير جزء ثان للفيلم".

لكن القصص يرى في حديث لموقع "الحرة" أن "لا مسوغاً لاسم الفيلم ولم يقع الاختيار عليه عبثاً، بل لأن محركات البحث عنه عبر الإنترنت تؤدي إلى مصطلح العبور الذي يدل على التحوّل الجنسي، عدا عن وجود فيلم تونسي عن المثلية الجنسية يحمل ذات الاسم".

كما أن الترويج للفيلم استند كما يقول القصص على مصطلحات معادية للشريعة الإسلامية وعناوين مشبوهة لا بل مدانة، منها "النوع الاجتماعي الذي يعني الجندر، ويفيد بوجود أكثر من جنسين للإنسان، أي مجتمع الميم عين، كذلك مصطلح العنف الاقتصادي الذي يعني عدم المساواة بين الذكر والأنثى، ويقوم على رفض أن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين في الإرث ورفض ولاية الأب على ابنته في التزويج وفكرة القوامة وغيرها"، ويشدد "أياً يكن مضمون الفيلم يكفي اسمه والشرح الذي روّج له للهجوم عليه".

من جانبه يرى مسؤول التواصل في منظمة حلم، ضوميط قزي، أن "الهجوم على الفيلم، هو نتيجة مباشرة لحملات التحريض ضد أفراد مجتمع الميم عين، هذه الحملات أصبحت عشوائية لذلك طالت الجمعيات النسوية المدافعة عن المرأة"، ويشرح "للأسف نحن نشهد قمعاً وحالات عنف غير مبررة تخرج أحياناً عن إطار المنطق كما حصل من خلال ربط فيلم عبور بالمثلية الجنسية، ما يعني أنه تمت شيطنته ليسحب بعدها من التداول إلى حين استبدال اسمه إرضاء لمن قادوا الحملة ضده".

تراجع تحت الضغط  

بعد الهجوم الذي شنّه القصص على الفيلم، وصلته رسالة من المسرح الوطني اللبناني، أفيد من خلالها أنه "ألغى عرض الفيلم إلى أن يتم التوضيح من الجهة المنظمة له للجهات التي اعترضت عليه".

ومما جاء في الرسالة أن "المسرح الوطني اللبناني هو مسرح مجاني مفتوح للجميع لعرض أعمالهم الفنية" وفيما يتعلق بفيلم عبور "ليس من إنتاج أو تنظيم المسرح"، وبناء لطلب الجهة المنتجة له "قدمنا لهم المسرح مجان لعرضه وإذا كان هناك أي اعتراض على ذلك يمكنكم توجيه اعتراضكم إلى الجهة المنتجة والمنظمة للفيلم فهي من يحق لها الرد". 

الأتاسي عبّرت عن استغرابها من موقف القيميين على المسرح الوطني اللبناني، لاسيما "لجهة نفيهم علمهم بالفيلم بعد تهديدهم من قبل مسلحين كما أطلعونا، رغم أن كل مشاهده صوّرت مدفوعة وليس مجاناً على مسرحه وبمشاهدة حيّة له وبمشاركة ممثلين الفيلم وهم أبناء المسرح الوطني، وقد برروا ذلك بخوفهم من التعرض لأي مكروه".

الخوف الأساسي كما تقول الأتاسي يجب أن يكون من المشاكل التي تعاني منها المرأة اللبنانية بشكل عام والطرابلسية بشكل خاص، ومنها "عدم الالتزام بما نصت عليه الأديان السماوية التي كرّمت المرأة وانصفتها، لذلك نجد أنها تحرم من الميراث وتعجز عن الحصول على طلاقها لعدم امتلاكها المال لدفع بدل أتعاب المحامي، ومنهن من لا يُسجَّل زواجهن في المحاكم الشرعية لأسباب مادية، وهناك من يُحرمن من اكمال تعليمهن أو يتعرضن للتنمر والتحرش والابتزاز في عملهن، أو يُستحوذ على ما ينتجنه من قبل والدهن أو زوجهن".

أما القصص فيعتبر أن "وضع المرأة في العالم الإسلامي بما فيه طرابلس ولبنان أفضل بكثير من وضعها في الحضارة والثقافة الغربية، والمشاكل التي أصابتها في بلادنا هي نتاج عدم تطبيق الشريعة الإسلامية بشكل كاف، وحل ذلك يكون عبر هذه الأحكام وليس الانتقال إلى الثقافة الغربية".

يذكر أن الشهر الماضي تعرّض فيلم "باربي" لهجوم ترأسه وزير الثقافة اللبناني محمد وسام المرتضى، حيث طالب بمنع عرضه في البلاد بحجة ترويجه "للشذوذ والتحول الجنسي، وتعارضه مع القيم الأخلاقية والإيمانية"، حسب تعبيره، وبعد تأجيل عرضه وافقت اللجنة المكلفة بالرقابة على أفلام السينما في لبنان على طرحه في جميع دور العرض.

حملات ترهيبية

الحملات ضد مجتمع الميم عين في مدينة طرابلس شمال لبنان لم تقتصر على الفيلم، فقبل أيام اقتحم أفراد بتغطية إعلامية مركزاً للتوعية على الصحة الجنسية في مجمع الرحمة الطبي تديره جمعية مرسى، وذلك بذريعة الترويج للمثلية الجنسية، حيث قاموا بتفتيش محتوياته واستجواب الطبيبة المسؤولة عنه.

"الهجوم على مركز طبي يقدم خدمات الصحة الإنجابية والجنسية لكل أفراد المجتمع بغض النظر عن انتمائهم الديني وجنسيتهم وهويتهم وميولهم الجنسية، وذلك بعد الحديث عن ترويجه للمثلية ومن ثم الزنى، هو مؤشر لمنحى خطير" كما يشدد قزي، ويتساءل "ما الذي يمنع من تهجّموا على هذا المركز من الهجوم على صيدليات وعيادات طبية أخرى لمنع تقديم خدمات مشابهة"؟

المستغرب بحسب قزي أن "المركز مرخص ومدعوم من وزارة الصحة ومع ذلك لم يعلّق الوزير فراس أبيض على الحادثة، كذلك حال نقابة الأطباء والجسم الطبي، رغم أن السكوت عن ذلك يعني شرعنة الاعتداء على مراكز مشابهة في مناطق أخرى".

وبعد الهجوم على المركز، نفى مجمع الرحمة الطبي التابع لجمعية الشباب الإسلامي "بشكل قاطع تقديم خدمات لدعم المثلية أو التشجيع عليها" مشدداً في بيان على أن "تلك الأخبار ملفقة وغير صحيحة ولا تمت للواقع بأي صلة"، ومعتبراً أن "الصحة حق أساسي للإنسان، ومهمة مجمعنا الطبي تقديم الرعاية الصحية بأعلى مستوى من الجودة، ونحرص كل الحرص على الحفاظ على ثقافة مدينتنا مدينة العلم والعلماء وقيمها".

وشرح البيان أن المجمع يقدّم "خدمات طبية وتأهيلية بالشراكة مع وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية ودائرة الرعاية الصحية الأولية في وزارة الصحة" لافتاً إلى أن "مركز الرعاية الصحية الأولية يقدم كافة الخدمات الصحية ومن ضمنها خدمات الصحة الانجابية مثل متابعة المرأة الحامل وخدمات تنظيم الأسرة والكشف عن أمراض وسرطانات الجهاز التناسلي على يد نخبة من الأطباء الاختصاصيين بهدف تحسين صحة الأسرة".

خطورة.. رسمية

الأخطر أن مسؤولين لبنانيين مشاركون كما يقول قزي في "شيطنة المثلية الجنسية والتحريض عليها وتأجيج العنف ضدها"، آخرهم وزير الاعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد المكاري، الذي استقبل قبل أيام في مكتبه في الوزارة، وفداً ممن يطلقون على أنفسهم "إعلاميون وإعلاميات ضد الشذوذ الجنسي".

وبحسب الوكالة الوطنية للإعلام، ذكر المكاري أمام الوفد أن "موضوع الشذوذ اليوم هو هاجس كل البيوت والعائلات. ونحن في لبنان متمسكون بالقيم العائلية وبتراث اجتماعي معين، ولكن المشكلة ليست بسيطة ولا تعالج بسرعة ربما بمشاركة الجميع والوزارات المعنية لاسيما التربية والشؤون الاجتماعية ويجب أن يدرس في اتجاهات عدة والاتجاه الأساس، هو التربية من الأجيال الصغيرة وصعوداً".
 
أضاف المكاري "هناك أمر يتعلق بالتكنولوجيا لا أحد يستطيع ايقافه، كما أن هناك مسائل ايجابية وسلبية دخلت كل بيت. الاعلام عموماً ملتزم بالثوابت المتعلقة بهذا الموضوع وهناك ما هو متعلق بالإنترنت حيث إننا نفتقد القدرة على ضبط هذا الأمر"، لافتاً إلى أنه "نحن على استعداد في مؤسساتنا لنشر الوعي، فالموضوع ليس بصغير ولبنان يتعرض كباقي البلدان لهذه الأمور، ونحن مستعدون بالشراكة مع وزارات ومؤسسات اخرى للقيام بكل ما من شأنه حماية مجتمعنا وأسرنا وقيمنا الاجتماعية".

اعتبار وزير الإعلام أن "المثلية ضد قيم العائلة والأخلاق، أمر مخز ومخجل" كما يقول قزي "لاسيما وأنه يمثل جهة رسمية يفترض أن تساوي بين جميع المواطنين، وهذا التصويب على فئة من المجتمع يؤكد عجز الحكومة اللبنانية ووزرائها عن تحقيق أي إنجاز، لا بل على العكس هم يساهمون في تدهور البلد أكثر".

وتوجه قزي إلى من يطلقون على أنفسهم "اعلاميون واعلاميات ضد الشذوذ الجنسي" بالقول "عليكم معرفة أن الانقضاض على أفراد مجتمع الميم عين هو فتح باب الانقضاض على أي إنسان لمجرد ابداء رأيه، وأول من سيطالهم ذلك هم الصحفيين والإعلاميين".

"عندما يتبنى أمثال هؤلاء من الاعلاميين ما يتداوله البعض حول وجود حملات تروّج للمثلية أو ما يسمونه الشذوذ الجنسي"، يعني كما يقول قزي "أنهم يطلبون من السلطات ضبط الخطاب العام وبالتالي قمع الصحفيين ووسائل الاعلام، وهذا يتنافى مع دورهم المهني ويدفع إلى التساؤل فيما إن كانوا أبواقاً لأنظمة عسكرية أو ميليشيات دينية أو فعلاً أنهم إعلاميون هدفهم تغطية المسائل التي تعني جميع المواطنين ومن ضمنهم أفراد المجتمع الميم عين".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية من المركز الكاريبي لذكرى تجارة العبودية في فرنسا
صورة تعبيرية من المركز الكاريبي لذكرى تجارة العبودية في فرنسا

عرف العالم القديم العديد من المحاولات الفردية لإلغاء العبودية والرق. وإن لم تنجح في تحقيق الأهداف المرجوة، إلا أنها عبرت عن بعض النزعات التحررية التي ظهرت بأشكال متفاوتة في أنحاء العالم.

على سبيل المثال، قام الإمبراطور البوذي أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد بإلغاء تجارة العبيد في شبه القارة الهندية، وشجع على معاملة العبيد بشكل طيب.

وفي القرن التاسع الميلادي، ظهرت النزعة التحررية في أوروبا عندما أصدر البابا الكاثوليكي يوحنا الثامن مرسوماً بإلغاء الرق، ومنع المسيحيين من شراء العبيد.

وفي مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، نشر لويس العاشر ملك فرنسا، مرسوماً يعلن أن "فرنسا تعبر عن الحرية"، وأن أي عبد تطأ قدماه التراب الفرنسي لا بد أن يُحرر.

كما منح لويس العاشر، الأقنان (عبيد الأرض) الحق في التخلص من الرق. وأصدرت الملكة إيزابيلا ملكة قشتالة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، مرسوماً، بمنع استرقاق السكان الأصليين في القارتين الأميركيتين.

تأثر العثمانيون أيضاً بتلك النزعة، ففي الأيام الأولى من عهد السلطان أحمد الثالث (سنة 1703)، قامت الإمبراطورية العثمانية بإلغاء نظام "الدفشرمة"، وهو النظام الذي أُسر بموجبه مئات الآلاف من الأطفال المسيحيين في شرقي أوروبا ليتم تجنيدهم في الجيش "الإنكشاري" لقرون متتالية.

الجدير ذكره، أن الكثير من المفكرين والفلاسفة في العصر الحديث كتبوا مهاجمين نظام الرق، الأمر الذي شكّل الإطار النظري لحركة القضاء على العبودية في ما بعد. من أبرزهم: دنيس ديدور وجان جاك روسو والماركيز دو كوندورسيه وميرابو والأب غرينوار.

وفي اليوم الدولي لإلغاء الرق، الذي تقرر الاحتفاء به في 2 ديسمبر من كل عام، الموافق السبت، نستعرض محطات إلغاء العبودية في دول أوروبا والعالم العربي. 

أوروبا

يمكن القول إن إلغاء الرق والعبودية في العصر الحديث وقع نتيجة لمجموعة من الجهود المتضافرة في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، ابتداء من القرن الثامن عشر، حتى إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارات إلزامية للدول الأعضاء في منتصف القرن العشرين.

في فرنسا مثلاً، أُلغي الرق للمرة الأولى عام 1794 بالتزامن مع اندلاع الثورة الفرنسية، وتأسيس الجمهورية. ففي تلك الأجواء الثورية انتشرت مبادئ "العدالة والمساواة والحرية"، وسارع الثوار بتحرير العبيد.

ولكن، بعد أقل من عشر سنوات فقط، قام الإمبراطور نابليون بونابرت بإعادة الرق إلى فرنسا مجدداً، قبل أن يتم إلغاؤه نهائياً عام 1848.

وفي إنجلترا، تم إصدار قانون إلغاء العبودية عام 1833 بمعرفة برلمان المملكة المتحدة، وقضى بإلغاء الرق في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية، وبناء عليه نال مئات الآلاف من العبيد في كل من مستعمرات بريطانيا في أفريقيا والكاريبي وكندا، حريتهم.

في عام 1919، تأسست عصبة الأمم "لتعزيز التعاون الدولي وتحقيق السلام والأمن". وبعد سبع سنوات فقط من تأسيسها، تم طرح موضوع إلغاء العبودية على جدول أعمالها. وفي سبتمبر 1926 تم توقيع "معاهدة الرق"، التي أكدت على قمع الرق وتجارة الرقيق.

وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، جاء في المادة الأولى: "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء".

كما نصت المادة الرابعة على الإلغاء الكامل لكل معاني العبودية: "لا يجوز استرقاقُ أحد أو استعبادُه، ويُحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما".

وفي الثاني من ديسمبر 1949، تم التأكيد على مناهضة جميع الأعمال المرتبطة بالعبودية بعد إصدار الأمم المتحدة القرار رقم (317) بخصوص "اتفاقية حظر الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير".

وفي ديسمبر 2007، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 25 مارس يوماً دولياً لإحياء ذكرى ضحايا الرق وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، ودعا القرار إلى "وضع برنامج للتوعية التثقيفية من أجل حشد جهات منها المؤسسات التعليمية والمجتمع الدولي، بشأن موضوع إحياء ذكرى تجارة الرقيق والرق عبر المحيط الأطلسي؛ لكي تترسخ في أذهان الأجيال المقبلة أسباب تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي ونتائجها والدروس المستخلصة منها والتعريف بالأخطار المترتبة على العنصرية والتحامل".

في اليوم الدولي لإلغاء الرقّ.. كيف تخلصت أميركا من العبودية؟
في العام 2014 أثيرت في أميركا قضية التعويضات والديون المالية المترتبة على الخزانة الأميركية لتغطية 250 عاماً من العبودية التي عانى منها السود. يعتبر المطالبون بتسوية مالية لـ"أحفاد العبيد" انها يمكن ان تعالج ما يعتبرونه "عدم المساواة العرقية" التي لا تزال متواجدة حتى اليوم في أميركا.

العالم العربي

تُعدّ تونس من أوائل دول العالم التي أُلغي فيها الرق بوثيقة رسمية من حاكم البلاد، وحدث ذلك عام 1841، عندما أصدر حاكم تونس، أحمد باي الأول أمراً يقضي بمنع الاتجار في الرقيق وبيعهم في أسواق المملكة، كما أمر بهدم الدكاكين التي كانت مُعدة في ذلك الوقت لجلوس العبيد. أتبع ذلك بإصدار أمر آخر في ديسمبر 1842 يَعتبر من يولد على التراب التونسي حراً ولا يُباع ولا يُشترى.

في مصر، مرت عملية إلغاء تجارة الرقيق بالعديد من المحطات المهمة، حيث بدأ تجريمها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما أرسل والي مصر محمد علي باشا برسالة إلى حاكم السودان يأمره فيها بإبطال تجارة الرقيق، لأن السودان كانت واحدة من أهم الأقاليم المصدرة للرقيق القادم إلى مصر.

وفي ستينيات القرن التاسع عشر، حاول محمد سعيد باشا أن يمضي قدماً لإلغاء العبودية، فأصدر أوامر بإبطال بيع وشراء العبيد بعد شهر سبتمبر سنة 1856، وألقى القبض على المخالفين ومنع إعطاء تراخيص للجلابة (الذين يجلبون الرقيق، كما منح الحرية الكاملة للرقيق في مصر، مع توفير العمل لمن يترك خدمة أسياده.

سار الخديوي إسماعيل على درب سلفه فحارب تجارة العبيد، ووقع مع بريطانيا عام 1877 على معاهدة لمنع تجارة الرقيق في أفريقيا، نصت على "منع دخول الرقيق من السودانيين أو الحبشيين إلى أراضي القطر المصري وملحقاته سواء عن طريق البر أو البحر، واعتبار بائعي الرقيق بمنزلة السارقين القتلة".

مع دخول المعاهدة حيز التنفيذ، ظهرت الوثيقة المعروفة باسم "تذاكر الحرية"، وهي وثيقة قانونية تمنحها الحكومة المصرية للعبد الذي تم تحريره إثباتاً لحريته، ويُثبت فيها البيانات الخاصة بكل فرد، مثل "الاسم، والجنسية، والجنس، والبلد، والعمر، والأوصاف، واسم السيد السابق".

تأخرت مناقشة قضية العبودية والرق في منطقة الخليج العربي إلى ثلاثينيات القرن العشرين، حيث بدأ التضييق على تجارة الرقيق في المملكة العربية السعودية عام 1936، عندما تم إصدار مرسوم ملكي يقضي بتنظيم شؤون العبيد وإعطائهم الفرصة ليصبحوا مواطنين أحرار.

بموجب هذا المرسوم، تم حظر تجارة الرقيق عن طريق البحر، وتم تفويض وزير الداخلية لإصدار رخص محدودة للسماح بذلك النوع من التجارة.

وفي نوفمبر 1962، تم إلغاء الرق في السعودية بشكل كامل ونهائي، بعد صدور بيان وزاري نص على تجريم احتفاظ أي مواطن سعودي بأي عبد. وتم تشكيل لجنة خاصة للإشراف على التطبيق الصارم للمرسوم مع فرض عقوبات تتراوح بين السجن والغرامة على أي شخص يثبت احتفاظه بعبيد أو ممارسته للرق.

من جهة أخرى، أُلغي الرقيق في العراق في عشرينيات القرن العشرين بضغط من الجانب البريطاني الحاكم حينذاك، كما أقر الدستور العراقي الصادر عام 1925 بالمساواة التامة بين جميع العراقيين وبحقهم في الحياة بحرية.

في 2014، عادت أعمال الرق والعبودية مرة أخرى إلى بلاد الرافدين بالتزامن مع استيلاء تنظيم داعش على مساحات واسعة من الأراضي العراقية، للمناطق، الذي اختطف الآلاف من الأيزيديين بعد ارتكاب إبادة جماعية بحق هذه الأقلية التي يقطن أغلب أفرادها في قضاء سنجار شمال العراق، وباع النساء بشكل علني في ما عرف بـ"أسواق النخاسة". 

يُشار إلى أن موريتانيا كانت آخر دول العالم التي ألغت الرق بشكل رسمي، حين أصدرت قانون إلغاء العبودية عام 1981، ولكن لم يتم تجريم الرق في القانون المحلي إلا عام 2007.

رغم ذلك، تشتكي العديد من المنظمات الحقوقية باستمرارية تجارة الرق والعبودية في موريتانيا حتى الآن.

'بارقة أمل'.. إدانة ثلاثة أشخاص بممارسة العبودية في موريتانيا
قضت محكمة موريتانية بسجن ثلاثة أشخاص بين 10 و 20 عاما إثر إدانتهم بممارسة العبودية، وهي جريمة يقول حقوقيون إن مرتكبيها يفلتون عادة من العقاب.

وأفاد مصدر قضائي لوكالة الصحافة الفرنسية بأن محكمة خاصة في مدينة نواذيبو في شمال غرب البلاد قضت هذا الأسبوع بسجن رجل يدعى ساليق ولد عمر (توفي قبل صدور الحكم) وابنه 20 عاما لكل منهما.