المريضات لا يحصلن على العلاج بسهولة - صورة تعبيرية.
المريضات لا يحصلن على العلاج بسهولة - صورة تعبيرية.

بينما يضج العالم مع بداية شهر أكتوبر بحملات التوعية والتثقيف بشأن سرطان الثدي وضرورة كشفه المبكر، من خلال التشديد على إجراء الفحوصات الدورية الضرورية، يغيب لبنان للعام الثالث عن أي فعالية رسمية بهذا الشأن، بعدما تخلفت وزارة الصحة اللبنانية منذ انتشار جائحة كورونا (2020) عن إطلاق أي حملة.

نسبة كبيرة من نساء لبنان، كن ينتظرن هذه الحملات لإجراء فحوصات سنوية بتكاليف رمزية وتسهيلات، لاسيما من الفئات الاجتماعية الأكثر حاجة وفقراً، والتي باتت تشمل النسبة الأكبر من الشعب اللبناني، نتيجة الانهيار الاقتصادي الواقع منذ العام 2019.

أدى ذلك إلى تراجع كبير في نسبة النساء اللواتي يقبلن على الفحوصات الدورية الوقائية، ما انعكس انخفاضاً في نسب الكشف المبكر، الذي يلعب الدور الأبرز في علاج سرطان الثدي، بعدما باتت الفحوصات ضرباً من الكماليات، تفوق تكلفتها قدرة الكثير من العائلات اللبنانية، التي تكافح بصورة يومية لتأمين معيشتها وحاجاتها الرئيسية.

ويأتي هذا الواقع فيما يسجل لبنان نحو 2500 إصابة جديدة بسرطان الثدي سنويا، على أقل تقدير، بحسب آخر إحصاء جرى عام 2016 في "السجل الوطني للسرطان"، بينما يرجح هاني نصار، رئيس جمعية "بربارة نصار" المعنية بدعم ومساعدة مرضى السرطان في لبنان، أن يكون العدد اليوم أعلى من ذلك بكثير، دون إمكانية لتحديده بدقة بفعل غياب الإحصاءات الرسمية التي يمكن الارتكاز عليها منذ 7 سنوات.

الأخطر اليوم أن معظم حالات سرطان الثدي التي تسجل يأتي اكتشافها متأخراً، بحسب تأكيد نصار لموقع "الحرة"، بحيث تتوجه السيدات للكشف بعد شعورهن بوجود المرض او الكتلة، وهي مرحلة متقدمة لسرطان الثدي، الذي بات أكثر السرطانات انتشاراً لدى النساء في لبنان.

لا يتميز لبنان في ذلك عن الواقع العالمي، بحيث بات سرطان الثدي منذ العام 2020 أكثر أنواع الأورام الخبيثة شيوعا في العالم، بحسب ما أعلنته منظمة الصحة العالمية.

لكن الفرادة في حالة لبنان تكمن في حجم المعاناة التي تتكبدها المريضات، والتي جعلت المرض "أكثر رحمة من رحلة علاجه"، بالنسبة لهن.

"قويات.. ولكن"

وتمتد معاناة مرضى السرطان عموماً في لبنان، على مستويات عدة، بدءاً من توفر الدواء في لبنان، حيث يشهد انقطاعاً حاداً في العلاجات والأدوية منذ العام 2019 ناجماً عن تأثيرات الأزمة الاقتصادية، وآلية استيراد الأدوية ودعمها من ناحية الحكومة اللبنانية، ما يؤدي باستمرار لتأخر تلقي المرضى لجرعاتهم، أو حرمانهم نهائياً منها.

مروراً بقدرتهم على تحمل تكلفة العلاج الباهظة، لاسيما مع رفع الحكومة اللبنانية لدعمها المالي عن معظم أدوية وعلاجات مرض السرطان، والتقشف في تقديم الدعم واعتماد آليات متشددة ومعايير تمييزية "غير عادلة" في توزيع الأدوية المدعومة، تركت المرضى وحيدين في المواجهة، يحملون ما لا يحتملونه من ضغوط مضافة على معاناتهم مع المرض ورحلة علاجه.

وصولاً إلى المعاناة النفسية الناجمة عن شعور المرضى بالتخلي من ناحية المسؤولين وفشل السياسات الصحية القائمة في مواكبة المشكلة على مدى السنوات الماضية، وانعدام الأمل في أي حلول قريبة للوضع القائم، في ظل ازدياد الضغط على عائلات ومحيط المرضى، الأمر الذي يترك لديهم شعوراً بالذنب واليأس وميل نحو الاستسلام.

يقول نصّار "هناك سيدات قويات إلى أقصى الحدود وعلى استعداد لمواجهة المرض، ولكن ما النفع إذا ما حجبنا عنهن العلاج والأدوية؟ ما نفع المعنويات القوية؟ أي قوة ستبقى وهي محرومة من دوائها؟".

ويلفت إلى أن الضغط النفسي الذي يعانيه مريض السرطان في لبنان مرتفع.

"أولادي أحق بالحياة"

روزيت، فاطمة، وروى، 3 نساء مصابات بسرطان الثدي، لكل منهن قصة مع المرض ورحلة علاجه في لبنان، تجمعهن الإصابة بالسرطان للمرة الثانية، ومعاناة متعددة الأوجه، دفعت بكل سيدة إلى اتجاه في رحلة علاجها، لكنها أوصلتهن إلى نتيجة واحدة، مفادها أن "حق المريض في العلاج في لبنان، رهن بما يملكه من أموال".

أمضت روى سنوات طويلة من حياتها في خدمة مؤسسات الدولة اللبنانية، من خلال وظيفتها العامة، إلى أن أصيبت عام 2021 بسرطان الثدي، فيما كان لبنان يتداعى على وقع الانهيار الاقتصادي، ما حرمها من التقديمات التي كانت من حقها الوظيفي، بتلقي علاجاتها على نفقة الضمان الاجتماعي، الذي فقد قدرته على التغطية الصحية مع فقدان العملة اللبنانية لأكثر من 90 في المئة من قدرتها.

وفي ظل انقطاع أدوية السرطان، اضطرت روى للحصول على أدويتها من خارج البلاد، بسعر السوق العالمي دون القدرة على الاستفادة من الدعم الحكومي على أسعارها في لبنان، الأمر الذي أدى إلى استنزاف العائلة مادياً.

إلا أنها وبعد رحلة علاج شاقة، أظهرت الفحوصات الدورية عودة المرض للظهور مجدداً في بقع مختلفة من محيط الثدي، ما عرضها لصدمة نفسية حادة، وأعادها "إلى نقطة الصفر" وفق ما تروي لموقع "الحرة".

الصدمة الأكبر كانت في عدم قدرتها على الحصول على أدويتها المقطوعة، رغم قبولها في برنامج وزارة الصحة اللبنانية الخاص بتوزيع أدوية مرضى السرطان المدعومة حكومياً، وتلقيها لجرعتين من علاجها، إلا أن تراكم ديون الدولة اللبنانية لدى شركات استيراد الأدوية، دفع بالشركات إلى عدم استيراد كميات إضافية لصالح وزارة الصحة، ما يحرم آلاف المرضى من علاجاتهم.

ولأن الوضع الصحي لروى ما كان يحتمل تأخيراً في حصولها على جرعاتها، اضطرت عائلتها للبحث عن الدواء في السوق اللبناني من خارج إطار الدعم الحكومي، وكانت المفاجأة بسعره الذي يبلغ 440 مليون ليرة (نحو 4000 دولار) لحقنتين تحتاجهما كجرعة واحدة كل 3 أسابيع على مدى 10 جلسات، أي بتكلفة شاملة تناهز الـ 40 ألف دولار.

"إحباط على إحباط، ويأس تام دفعني لملازمة غرفتي، والاستسلام الكامل للمرض"، تقول روى التي رفضت كلياً أن تتلقى العلاج بهذا الثمن، كونه سيضع أسرتها تحت ضغط الاستدانة لتأمين المبلغ المطلوب كل 3 أسابيع.

"أولادي أحق بهم، وأحق بالحياة، ابنتي تستعد لدخول الجامعة وابني في الثانوية، هم أولى بهذه الأموال،"، بحسب روى، التي خضعت قبل أيام لضغط العائلة وتلقت الجرعة في موعدها على أمل الاستحصال على باقي الجرعات عبر وزارة الصحة اللبنانية، وتضيف "بتنا نشحد للبقاء على قيد الحياة، الموت أفضل".

تعبّر بغصة عن شعورها بأن المال "سيذهب سداً" في ظل انقطاع الدواء، ويقينها بعدم قدرة العائلة على تأمين كامل تكاليف العلاج على مدى الجلسات المطلوبة، لكنها ترضخ "على مضض" لرغبة زوجها وأولادها.

يتكرر الموقف بحذافيره مع، فاطمة عقل، وروزيت حداد، اللتان عاشتا المفاضلة نفسها ما بين مستقبل عائلاتهما وبين بقائهما على قيد الحياة، نتيجة الضغط المادي الهائل الذي باتت تشكله رحلة العلاج في لبنان.

تتكرر مقولة "إبني أحق بهذا المال" على لسان روزيت التي لم يكن لديها القدرة على تأمين المال اللازم لأدويتها، بحيث تتأخر لليوم الحادي عشر عن موعد جرعتها بانتظار حصولها على الدواء عبر وزارة الصحة.

"لن أتعالج مجدداً"

عند إصابتها في المرة الأولى، كان بمقدور روزيت تأمين أدويتها من خارج لبنان خلال انقطاعها، دون أن تتمكن من المواظبة على الجرعات في موعدها، "كان سعرها ألف دولار ومطلوبة شهرياً".

إلّا أن رحلة علاج لخمس سنوات كانت كفيلة باستنزاف روزيت مادياً، اختبرت خلالها شتى أوجه المعاناة التي تواجه مرضى السرطان، بحيث ما عاد أمامها اليوم إلا انتظار وصول الدواء من وزارة الصحة.

سبق لروزيت أن عرضت معاناتها في تحقيق لموقع "الحرة" قبل عام، وفي إطلاع على المتغيرات التي طرأت على واقعها وبالتالي على واقع مرضى سرطان الثدي في لبنان تؤكد أن شيئاً لم يتغير، "اضطررت فقط لتغيير طبيبي بسبب ارتفاع كلفة الفحص لديه إلى 125 دولاراً، فاتجهت إلى طبيب يتقاضى أقل".

"ألم لا يمكن لقواميس العالم وصفه".. معاناة لبنانيات في مواجهة سرطان الثدي
"صدفة كشفت إصابتي بأخبث الأمراض، لأبدأ رحلة علاج في بلد الاستشفاء فيه بات حكرا على الأغنياء، الدواء مفقود ويباع في السوق السوداء، والمريض يترك لمصيره وهو يصارع الموت على حلبة الأوجاع".. كلمات قالتها ثريا حلبي تعكس ما يعانيه مرضى السرطان في لبنان.

وفيما كانت قد شارفت العام الماضي على إنهاء علاجها، إلا أن المعاناة النفسية وعدم انتظام تلقي الجرعات أدى إلى تراجع حالتها، ولا يزال أمامها اليوم 5 أشهر أخرى من العلاج، قبل أن تعيد فحوصاتها، "وإن شفيت سيتبقى فحوصات دورية وقائية، وأدوية هرمونية لمدى الحياة، وإبرة كل 22 يوماً كلفتها 6 ملايين ليرة مع دعم الوزارة، هذا عدا عن أدوية المناعة وإبر الحديد، آلاف الدولارات لا يزال علي دفعها، فيما راتبي 300 دولار فقط".

وتضيف "حتى لو أردت الشفاء هذه الأمور تعيدك إلى الخلف وتزيد الوضع سوءاً، هذا هو الضغط بحد ذاته، تكلفة البقاء على قيد الحياة".

تجزم روزيت بغصّة أنها لن تتعالج "لو عاد المرض مجدداً"، مشددة على أن المعاناة الصحية مع المرض "أرحم بكثير" من الضغط النفسي والمادي للعلاج في لبنان، "علبة الدواء بـ 3200 دولار، إن جمعتها لولدي سيعيش حياةً أفضل مما لو صرفتهم على العلاج، بكل ما تحمله هذه المفاضلة من ألم، خاصة أن ابني سبق أن فقد والده بسبب السرطان".

"ليست مشكلتنا وحدنا"

تروي مروى عليق، إبنة فاطمة عقل، كيف حاولت والدتها أن تتحمل المسؤولية لوحدها عندما جرى تشخيصها بسرطان الثدي في المرة الثانية، "كان الأمر قاسياً جداً عليها، أصيبت باكتئاب حاد وما عادت تغادر غرفتها".

سبق لعائلة فاطمة أن اضطرت لبيع ممتلكاتها ومنزلها، كي تتمكن من تأمين كلفة علاجها عند إصابتها في المرة الأولى، كذلك تلقت مساعدة من الأقارب والأصدقاء، إلا أن ذلك ما عاد ممكناً في المرة الثانية، في ظل تدهور الأحوال المعيشية في لبنان، واحتجاز أموال الناس في المصارف.

كل الأمور تغيرت في المرة الثانية، فراتب زوج فاطمة التقاعدي والذي كان يساوي 1600 دولار، باتت قيمته اليوم 160 دولاراً، كذلك خسر امتيازات صحية وتقديمات كان يحصل عليها من الضمان الصحي لمتقاعدي قوى الأمن الداخلي، بعدما بات علاج مرضى السرطان حصراً على نفقة وزارة الصحة، ما زاد الآلية صعوبةً، وبدل المعايير جذرياً عما سبق واختبرته العائلة.

حصلت فاطمة على دواء واحد من أصل 4 من وزارة الصحة اللبنانية، وتركت لمصيرها في تأمين باقي الأدوية باهظة الثمن.

بحسب مروى، كانت العائلة مضطرة للتفتيش عن أساليب جديدة أكثر فعالية، وفي ظل غياب الدولة والجهات الضامنة والمنظمات الداعمة عن واجبها، "كان علينا البحث عن جو من التكافل والتضامن ووجدناه في المواقع المخصصة لهذا النوع من الدعم والتمويل".

لجأت عائلة فاطمة إلى موقع "غو فاند مي" لجمع تبرعات لرحلة علاجها، بعدما باتت على قناعة بأن المشكلة ليست ذو طابع شخصي، وفق مروى.

وتشير مروى إلى أن هذا الخيار كان محاولة لنقل الأمر من الحيز الخاص إلى الحيز العام، "لأنها في الحقيقة مشكلة عامة، ولو بدت بالشكل شخصية، يتقاطع بها أكثر من عامل متعلق بالوضع العام، ما جعل حجم المشكلة أكبر من أن يحمل وزرها فرد أو عائلة من 4 أفراد، بات الأمر مستحيلاً، مادياً ومعنوياً".

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Marwa Olleik (@marwa.olleik)

وتضيف أن العبء الملقى على عاتق مريض السرطان في لبنان، هو مسؤولية دولة تعجز بنفسها عن القيام بها، فترميها على المرضى.

وفي ظروف كالتي يعيشها لبنان، ترى مروى أن التكافل والتضامن هو ما يبقي الناس على قيد الحياة، "ويعيدهم من مراحل اليأس التي يبلغونها وجلد الذات والتخلي والاستسلام، هذا ما جرى مع والدتي".

استعادت فاطمة معنوياتها ونشاطها بعدما لمست حجم التفاعل على رابط الدعم، حيث عادت خطوة العائلة بنتيجة إيجابية وانتشرت الدعوة لدعم فاطمة على نطاق أوسع مما كان متوقعاً، "ما أعاد إليها أملاً بوجود اشخاص إلى جانبها ربما لا تعرفهم، لكنهم مستعدون لدعمها ومساعدتها، وليست وحيدة"، بحسب مروى.

إلا أنه ورغم تأمين قسم من المبلغ المطلوب للعلاج، تواجه عائلة فاطمة نوعاً آخرا من المعاناة مع المستشفيات في لبنان، التي ورغم انقطاع الدواء وعدم دعمه أو توفره في الصيدليات، لا زالت تعترض على استخدام أدوية مستوردة من الخارج، وتلزم المرضى بشراء الأدوية منها مباشرةً بأسعار أعلى من السوق العالمي.

وتؤكد مروى في هذا السياق أن الأدوية نفسها بالإسم والعيارات ذاتها في دول أخرى كمصر وتركيا، ينخفض سعرها عن مستشفيات لبنان بنسب تتجاوز الـ 50 في المئة وأحياناً تصل إلى 70 في المئة".

وبالتالي "رحلة العلاج التي يمكن أن تكلف في الخارج 8000 دولار، تتراوح كلفتها في لبنان بين 25 و35 ألف دولار بحسب المستشفيات، وعليه يستمر بحث العائلة عن عن مستشفى يقبل باستخدام الأدوية نفسها من خارج لبنان"، بحسب مروى.

وفي هذا الشأن يوضح نصار أن بعض المستشفيات ما عادت ترضى بالأدوية التي يعود مصدرها إلى بعض الدول مثل تركيا، بسبب ارتفاع نسبة الأدوية المزورة "لذا لا يتحملون مسؤولية إجراء العلاج، وهناك مستشفيات أخرى ترفض مطلقاً أن يتم شراء الدواء من الخارج لأنها تريد التربح من أسعارها غير المدعومة".

"يقررون من يعيش ومن يموت"

ويذكر أن مريضان سرطان الثدي يخضعن لمراحل علاج عدة ومختلفة، منها العلاج الكيميائي والعلاج بالأشعة، والعمليات الجراحية (الاستئصال).

وتمتد المعاناة على مختلف تلك المراحل بعدما اعتمدت وزارة الصحة سياسات صحية غير محسوبة الأثر في رفعها للدعم عن الأدوية وعدم تغطيتها لباقي العلاجات.

ويلفت نصار إلى أن وزارة الصحة رفعت الدعم عن أدوية العلاج الكيميائي التي تمتد على جلسات طويلة باتت تكلف الواحدة منها ما بين 700 و1200 دولار.

قلة من المرضى يستطيعون تدبر تلك التكاليف، لكن النسبة الأكبر عاجزة عن ذلك بحسب نصار، ما أدى إلى خسارة عدد كبير من النساء ممن لم يحصلن على العلاج وكان إنقاذهن ممكناً.

وبينما تبدأ كلفة العلاج بالأشعة من 2500 دولار وتصل إلى 8 آلاف، لا تغطي وزارة الصحة هذه العلاجات، فيما تتوفر ثلاث آلات تستخدم لهذه العلاجات في المستشفيات الحكومية، اثنتان منها معطلة في بيروت والنبطية، وواحدة منها تعمل في طرابلس، وعلى نفقة المريض حيث تغطي الوزارة جزءاً لا يذكر من التكلفة، بحسب نصار.

أما كلفة عملية استئصال الثدي فلا تقل عن 2000 دولار، وهو مبلغ "ليس بمتناول قسم كبير من سيدات لبنان ليخضعن للعملية"، وفق تأكيدات رئيس جمعية "بربارة نصار".

ولفت إلى أن وزارة الصحة والهيئات الضامنة وشركات التأمين الصحي تنظر لعملية ترميم الثدي بعد الاستئصال كعملية تجميلية لا يجري تغطيتها، "وهذا أمر خاطئ جداً بكون الترميم جزء رئيسي من علاج السيدات لاستعادة ثقتهن بأنفسهن وشكل أجسادهن".

بجمع هذه التكاليف، يمكن بحسب نصار فهم لماذا تفضل سيدات اتخاذ خيار الاستسلام على تحمل كلفة العلاج، "كي لا تجبر عائلتها على بيع المنزل الذي يقطنون فيه".

في ظل كل تلك المعاناة، يزداد تشدد وزارة الصحة اللبنانية في شروط قبولها منح الدواء للمرضى، بسبب تراجع إمكاناتها المالية، فتضع مواصفات للاستفادة، تصل إلى حد التمييز بين المرضى المستحقين، إما على أساس تكرار الإصابة أو نوعها أو بحسب الفئات العمرية، حيث تعطى الأفضلية للأصغر سناً، وتصل المفاضلة حتى إلى نسبة الأمل بالشفاء، ما يظلم بحسب نصار عددا كبيرا من المرضى الذين يحرمون حتى الأمل بالعلاج أو الشفاء.

بهذه الإجراءات إنما تحدد وزارة الصحة "من يستحق الحياة ومن لا يستحقها، للأسف"، وفق نصار، فيما يترك غير المستفيدين لمصيرهم دون حتى علاجات بديلة، واصفاً الأمر بأنه "عملية قتل لهم".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية من المركز الكاريبي لذكرى تجارة العبودية في فرنسا
صورة تعبيرية من المركز الكاريبي لذكرى تجارة العبودية في فرنسا

عرف العالم القديم العديد من المحاولات الفردية لإلغاء العبودية والرق. وإن لم تنجح في تحقيق الأهداف المرجوة، إلا أنها عبرت عن بعض النزعات التحررية التي ظهرت بأشكال متفاوتة في أنحاء العالم.

على سبيل المثال، قام الإمبراطور البوذي أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد بإلغاء تجارة العبيد في شبه القارة الهندية، وشجع على معاملة العبيد بشكل طيب.

وفي القرن التاسع الميلادي، ظهرت النزعة التحررية في أوروبا عندما أصدر البابا الكاثوليكي يوحنا الثامن مرسوماً بإلغاء الرق، ومنع المسيحيين من شراء العبيد.

وفي مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، نشر لويس العاشر ملك فرنسا، مرسوماً يعلن أن "فرنسا تعبر عن الحرية"، وأن أي عبد تطأ قدماه التراب الفرنسي لا بد أن يُحرر.

كما منح لويس العاشر، الأقنان (عبيد الأرض) الحق في التخلص من الرق. وأصدرت الملكة إيزابيلا ملكة قشتالة في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، مرسوماً، بمنع استرقاق السكان الأصليين في القارتين الأميركيتين.

تأثر العثمانيون أيضاً بتلك النزعة، ففي الأيام الأولى من عهد السلطان أحمد الثالث (سنة 1703)، قامت الإمبراطورية العثمانية بإلغاء نظام "الدفشرمة"، وهو النظام الذي أُسر بموجبه مئات الآلاف من الأطفال المسيحيين في شرقي أوروبا ليتم تجنيدهم في الجيش "الإنكشاري" لقرون متتالية.

الجدير ذكره، أن الكثير من المفكرين والفلاسفة في العصر الحديث كتبوا مهاجمين نظام الرق، الأمر الذي شكّل الإطار النظري لحركة القضاء على العبودية في ما بعد. من أبرزهم: دنيس ديدور وجان جاك روسو والماركيز دو كوندورسيه وميرابو والأب غرينوار.

وفي اليوم الدولي لإلغاء الرق، الذي تقرر الاحتفاء به في 2 ديسمبر من كل عام، الموافق السبت، نستعرض محطات إلغاء العبودية في دول أوروبا والعالم العربي. 

أوروبا

يمكن القول إن إلغاء الرق والعبودية في العصر الحديث وقع نتيجة لمجموعة من الجهود المتضافرة في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، ابتداء من القرن الثامن عشر، حتى إصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارات إلزامية للدول الأعضاء في منتصف القرن العشرين.

في فرنسا مثلاً، أُلغي الرق للمرة الأولى عام 1794 بالتزامن مع اندلاع الثورة الفرنسية، وتأسيس الجمهورية. ففي تلك الأجواء الثورية انتشرت مبادئ "العدالة والمساواة والحرية"، وسارع الثوار بتحرير العبيد.

ولكن، بعد أقل من عشر سنوات فقط، قام الإمبراطور نابليون بونابرت بإعادة الرق إلى فرنسا مجدداً، قبل أن يتم إلغاؤه نهائياً عام 1848.

وفي إنجلترا، تم إصدار قانون إلغاء العبودية عام 1833 بمعرفة برلمان المملكة المتحدة، وقضى بإلغاء الرق في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية، وبناء عليه نال مئات الآلاف من العبيد في كل من مستعمرات بريطانيا في أفريقيا والكاريبي وكندا، حريتهم.

في عام 1919، تأسست عصبة الأمم "لتعزيز التعاون الدولي وتحقيق السلام والأمن". وبعد سبع سنوات فقط من تأسيسها، تم طرح موضوع إلغاء العبودية على جدول أعمالها. وفي سبتمبر 1926 تم توقيع "معاهدة الرق"، التي أكدت على قمع الرق وتجارة الرقيق.

وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، جاء في المادة الأولى: "يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء".

كما نصت المادة الرابعة على الإلغاء الكامل لكل معاني العبودية: "لا يجوز استرقاقُ أحد أو استعبادُه، ويُحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما".

وفي الثاني من ديسمبر 1949، تم التأكيد على مناهضة جميع الأعمال المرتبطة بالعبودية بعد إصدار الأمم المتحدة القرار رقم (317) بخصوص "اتفاقية حظر الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير".

وفي ديسمبر 2007، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 25 مارس يوماً دولياً لإحياء ذكرى ضحايا الرق وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، ودعا القرار إلى "وضع برنامج للتوعية التثقيفية من أجل حشد جهات منها المؤسسات التعليمية والمجتمع الدولي، بشأن موضوع إحياء ذكرى تجارة الرقيق والرق عبر المحيط الأطلسي؛ لكي تترسخ في أذهان الأجيال المقبلة أسباب تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي ونتائجها والدروس المستخلصة منها والتعريف بالأخطار المترتبة على العنصرية والتحامل".

في اليوم الدولي لإلغاء الرقّ.. كيف تخلصت أميركا من العبودية؟
في العام 2014 أثيرت في أميركا قضية التعويضات والديون المالية المترتبة على الخزانة الأميركية لتغطية 250 عاماً من العبودية التي عانى منها السود. يعتبر المطالبون بتسوية مالية لـ"أحفاد العبيد" انها يمكن ان تعالج ما يعتبرونه "عدم المساواة العرقية" التي لا تزال متواجدة حتى اليوم في أميركا.

العالم العربي

تُعدّ تونس من أوائل دول العالم التي أُلغي فيها الرق بوثيقة رسمية من حاكم البلاد، وحدث ذلك عام 1841، عندما أصدر حاكم تونس، أحمد باي الأول أمراً يقضي بمنع الاتجار في الرقيق وبيعهم في أسواق المملكة، كما أمر بهدم الدكاكين التي كانت مُعدة في ذلك الوقت لجلوس العبيد. أتبع ذلك بإصدار أمر آخر في ديسمبر 1842 يَعتبر من يولد على التراب التونسي حراً ولا يُباع ولا يُشترى.

في مصر، مرت عملية إلغاء تجارة الرقيق بالعديد من المحطات المهمة، حيث بدأ تجريمها في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، عندما أرسل والي مصر محمد علي باشا برسالة إلى حاكم السودان يأمره فيها بإبطال تجارة الرقيق، لأن السودان كانت واحدة من أهم الأقاليم المصدرة للرقيق القادم إلى مصر.

وفي ستينيات القرن التاسع عشر، حاول محمد سعيد باشا أن يمضي قدماً لإلغاء العبودية، فأصدر أوامر بإبطال بيع وشراء العبيد بعد شهر سبتمبر سنة 1856، وألقى القبض على المخالفين ومنع إعطاء تراخيص للجلابة (الذين يجلبون الرقيق، كما منح الحرية الكاملة للرقيق في مصر، مع توفير العمل لمن يترك خدمة أسياده.

سار الخديوي إسماعيل على درب سلفه فحارب تجارة العبيد، ووقع مع بريطانيا عام 1877 على معاهدة لمنع تجارة الرقيق في أفريقيا، نصت على "منع دخول الرقيق من السودانيين أو الحبشيين إلى أراضي القطر المصري وملحقاته سواء عن طريق البر أو البحر، واعتبار بائعي الرقيق بمنزلة السارقين القتلة".

مع دخول المعاهدة حيز التنفيذ، ظهرت الوثيقة المعروفة باسم "تذاكر الحرية"، وهي وثيقة قانونية تمنحها الحكومة المصرية للعبد الذي تم تحريره إثباتاً لحريته، ويُثبت فيها البيانات الخاصة بكل فرد، مثل "الاسم، والجنسية، والجنس، والبلد، والعمر، والأوصاف، واسم السيد السابق".

تأخرت مناقشة قضية العبودية والرق في منطقة الخليج العربي إلى ثلاثينيات القرن العشرين، حيث بدأ التضييق على تجارة الرقيق في المملكة العربية السعودية عام 1936، عندما تم إصدار مرسوم ملكي يقضي بتنظيم شؤون العبيد وإعطائهم الفرصة ليصبحوا مواطنين أحرار.

بموجب هذا المرسوم، تم حظر تجارة الرقيق عن طريق البحر، وتم تفويض وزير الداخلية لإصدار رخص محدودة للسماح بذلك النوع من التجارة.

وفي نوفمبر 1962، تم إلغاء الرق في السعودية بشكل كامل ونهائي، بعد صدور بيان وزاري نص على تجريم احتفاظ أي مواطن سعودي بأي عبد. وتم تشكيل لجنة خاصة للإشراف على التطبيق الصارم للمرسوم مع فرض عقوبات تتراوح بين السجن والغرامة على أي شخص يثبت احتفاظه بعبيد أو ممارسته للرق.

من جهة أخرى، أُلغي الرقيق في العراق في عشرينيات القرن العشرين بضغط من الجانب البريطاني الحاكم حينذاك، كما أقر الدستور العراقي الصادر عام 1925 بالمساواة التامة بين جميع العراقيين وبحقهم في الحياة بحرية.

في 2014، عادت أعمال الرق والعبودية مرة أخرى إلى بلاد الرافدين بالتزامن مع استيلاء تنظيم داعش على مساحات واسعة من الأراضي العراقية، للمناطق، الذي اختطف الآلاف من الأيزيديين بعد ارتكاب إبادة جماعية بحق هذه الأقلية التي يقطن أغلب أفرادها في قضاء سنجار شمال العراق، وباع النساء بشكل علني في ما عرف بـ"أسواق النخاسة". 

يُشار إلى أن موريتانيا كانت آخر دول العالم التي ألغت الرق بشكل رسمي، حين أصدرت قانون إلغاء العبودية عام 1981، ولكن لم يتم تجريم الرق في القانون المحلي إلا عام 2007.

رغم ذلك، تشتكي العديد من المنظمات الحقوقية باستمرارية تجارة الرق والعبودية في موريتانيا حتى الآن.

'بارقة أمل'.. إدانة ثلاثة أشخاص بممارسة العبودية في موريتانيا
قضت محكمة موريتانية بسجن ثلاثة أشخاص بين 10 و 20 عاما إثر إدانتهم بممارسة العبودية، وهي جريمة يقول حقوقيون إن مرتكبيها يفلتون عادة من العقاب.

وأفاد مصدر قضائي لوكالة الصحافة الفرنسية بأن محكمة خاصة في مدينة نواذيبو في شمال غرب البلاد قضت هذا الأسبوع بسجن رجل يدعى ساليق ولد عمر (توفي قبل صدور الحكم) وابنه 20 عاما لكل منهما.