في هذا الحوار مع "أصوات مغاربية"، يتحدث الروائي الليبي، محمد النعاس، عن فوزه، مؤخرا، بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الـ15 عن رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد"، لافتا إلى أن الفوز "سيُتيح الفرصة للأدب الليبي بأن يظهر بجدية ويفك أغلال الانعزال السياسية والاجتماعية التي تستمر في محاصرته لعقود".
وحاول النعاس أخذ مسافة من التأويلات التي صاحبت مضامين الرواية حول الجندر والعلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الليبي، قائلا إنها "لا تصوّر ليبيا بأكملها"، وأنها "لم تدع أنّها تصور مشكلة تواجه كل الرجال في ليبيا".
كما أبدى رأيه في دور الثقافة والأدب في بناء الجسور بين الشعوب المغاربية، مشيرا إلى أن "الثقافة لن تصلح ما خرّبته السياسة، ما لم يكن هدفنا الأول هو مهاجمة الانعزال الثقافي".
نص المقابلة
محمد النعاس، أول كاتب ليبي يفوز بأهم جائزة روائية عربية عن أول رواية له، ماذا يعني لك هذا الإنجاز؟
مبدئيا، لستُ من المعجبين بتوصيفات "أول" و"أصغر"، إذ أنّها لا تعني لي الكثير وأرى فيها نوعا من التحقير لأولئك الذين لم يحالفهم الحظ قبل ذاك "الأول" وتحقير لدور الأدب نفسه، إذ يُحصر في الجنسيات والقوميات والفئة العمرية. إلا أن فوز الرواية - وهذا ما أظنّه وآمله – سيُتيح الفرصة للأدب الليبي أن يظهر بجدية ويفك أغلال الانعزال السياسية والاجتماعية التي تستمر في محاصرته لعقود، هذا ما يعني لي الفوز.
ترصد رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" مجتمعا صغيرا حيث "يفشل" البطل في أن يكون رجلاً وفق التعريف القبَلي للرجل المثالي، إذ يتولى أمور البيت بينما تخرج زوجته للعمل في قلب للتقسيم الاجتماعي التقليدي للعمل، هل كنت تصور واقعا ليبيا آخذا في الصعود؟
بداية الرواية لا ترصد "الرجل" وفق التعريف القبلي للرجل المثالي، وهذا ما قلته في أكثر من مناسبة. ليبيا ليست تجمعا من القبائل، والرواية لا تصوّر ليبيا بأكملها. هي تتحدث عن حياة عائلة ليبية واحدة في قرية صغيرة. وهكذا يجب أن تُقرأ الرواية، ولم أتحدث أبدا عن القبيلة في الرواية.
ليس من الضروري أن يعمل الأدب على تصوير واقع آخذ في الصعود في البلد بالمعنى الحرفي. الرواية مستلهمة من المثل "عيلة وخالها ميلاد"، وهو مثل مشهور داخل البلد، ويُعد أكثر الأمثال استخداما في السنوات القليلة الماضية. هل يستخدم الليبيون المثل معرفين الرجل كما عرفته في ميلاد؟ يأخذ كل أوصافه ويمارس أعماله المنزلية؟ لا بالطبع.
عمل المرأة في ليبيا ليس أمراً جديداً، وكذلك بطالة الرجل. بطالة الرجل في العادة مقنّعة، بمعنى أنّه -وفي حالة ميلاد كذلك- يعمل في الدولة ولا يعمل، يملك رقما وظيفيا ويذهب بين الفينة والأخرى إلى عمله في مؤسسات الدولة، ولكنه لا ينجز أي عمل. وبهذا، يمكن القول إنّ هناك تقاطعات بين الخيال في الرواية والواقع داخل المجتمع الليبي، حيث تجد المرأة نفسها في وضع تحتاج فيه للعمل اليومي بينما يرتاح الرجل في المنزل، لا يعمل فيه مثلما يعمل ميلاد.
الخال ميلاد الذي يقضي صباحاته في إعداد الرغيف الساخن بالشاي على رنين موسيقى المغني الجزائري، الشاب خالد، يبدو سعيدا في حياته، لكن النمائم التي تأتيه من محيطه الذكوري تنغّص عليه هذه السعادة البسيطة، هل هذا يعني أن الرجل في المجتمع الليبي والمغاربي يواجه صعوبة كبيرة في الانفكاك من أغلال الضغط الجندري؟
لا أعرف وضع الرجل المغاربي حتى أتحدث عنه، ووضع الرجل الليبي متشابك ومعقد، هناك من هم سعيدون بوضعهم ولا يجدون فيه أية مشكلة، وهناك من لا يعي بالمآزق الاجتماعية التي يعيشها، ولكنه يجد نفسه داخل منظومة لا تتيح له نقدها. فعلى سبيل المثال، عادات الخطوبة وتقاليد الزواج في ليبيا تبدو أحياناً مجحفة وتعمل على إرضاء المجتمع المحيط أكثر من كونها تصبّ في مصلحة الزوجيْن، إذ يتعيّن على الرجل أن ينفق أموالاً طائلة في أمور لا فائدة منها سوى الإبهار، وهذه العادات والتقاليد ترسّخ لمجتمع مادّي وتضع الرجال -والنساء أيضاً- في موضع رؤية مؤسسة الزواج كمؤسسة ماديّة لا روحية وفكرية يبحث فيها الزوجان عن السعادة بما يتفقان عليه. وهذا ما لا يعيه الكثير من الرجال المقدمين على الزواج، والذين يتماهون مع المجتمع في عادة التبذير.
وهناك من هم مثل ميلاد، يظنّون أنفسهم سعداء بحياتهم الزوجية حتى تبدأ النمائم في التناقل حول علاقتهم مع زوجاتهم. ويجدون أنفسهم غير قادرين على التماهي مع النماذج الاجتماعية المختلفة للرجل، ولهذا يصطدمون بين رغبتهم في الوصول إلى المثل الأعلى وبين ضعفهم وعدم امتلاكهم للقدرة النقدية.
وهناك أيضاً أولئك الذين لا يجدون في العادات والتقاليد الاجتماعية سوى خرافات لا يأبهون لها، ويتحدونها بأفكارهم وبأسلوب حياتهم المختلف عن بقية المجتمع، والمختلف عن أسلوب حياة ميلاد نفسه.
ولهذا كما ترى، ليس هناك "هُم عام" أو مشكلة عامة تجمع الرجال. وهذا ما بحثت فيه الرواية، إذ إنّها لم تدّع أنها تملك الحل ولم تدّع أنها تصور مشكلة تواجه كل الرجال في ليبيا. ولا يجوز لأي عمل إبداعي ادعاء ذلك.
عرفنا كيف وجد "ميلاد الأسطي" نفسه عاشقا للخبز- أي عبر والده الذي تعلّم أسرار الصنعة من خبّاز إيطالي - لكن ما قصتك شخصيا مع الخبز، فالوصف السردي الدقيق يشي بأنك تملك معرفة دقيقة بما تَعتبره "المكون الرئيس على سفرة الغذاء الليبية"؟
هذا أمر ذكرته أكثر من مرة في حوارات سابقة، وهو أنني قبل العمل على الرواية، كنت جاهلا بتقنيات وأساليب صناعة الخبز؛ ولهذا قرأت عن الخبز وبدأت فعلا بخبز كل أنواع الخبز والخبيز المذكورة في الرواية. كما قرأت عن تاريخ القمح وعلاقتنا نحن البشر معه.
ترصد الرواية اصطدام قناعات الشخصية المحورية مع باقي الشخوص فيما يشبه تمزقا يذكّر البعض بالواقع الليبي الحالي، هل كنت تكتب أيضا عن ليبيا ما بعد القذافي؟
كل أحداث الرواية تحدث في الجماهيرية الليبية، نعم كتبت قصصا ومقالات قبلها وبعدها عن ليبيا ما بعد العقيد الراحل معمر القذافي. ولكن في هذه الرواية لا. لأنّ المجتمع الليبي في "تمزّق" حتى قبل القذافي.
البعض يقول إن العمل الأول الناجح للكاتب بمثابة "هدية مسمومة"، إذ يتحمل عبئا كبيرا لكتابة رواية أفضل أو على الأقل في مستوى العمل الأول، ما رأيك؟
لا أؤمن بذلك. لأنّ الرواية ليست عملي الأول المكتوب، هي عملي الروائي الأول المنشور فقط لا غير. ولكن هل فعلاً نجحت الرواية – بعيدا عن فوزها بالجائزة-؟ لا أعرف، الزمن كفيل بمعرفة ما إذا كانت رواية ناجحة أم لا.
كنتَ مؤخرا ضيفا على بيت الرواية في تونس وقلتَ إن هذا البلد المغاربي أول من يحتفي بك. برأيك، كيف يمكن للعمل الثقافي أن يبني جسورا مغاربية يقول البعض إن السياسة دمّرتها؟
علاقتي مع تونس قديمة، أقدم من وعيي بالكتابة، ولا أظن كونها البلد الأول الذي يحتفي بالرواية -حتى قبل ليبيا- أم لا، سيغيّر أي شيء في علاقتي الوطيدة معها، إذ تحمل البلاد بأكملها جميلا لا يمكننا أن نردّه لها نحن الليبيون، فهي البلاد الوحيدة على مرّ التاريخ الليبي الحديث التي لم تغلق أبوابها علينا.
كانت تونس حاضرة دائما في خيالنا ووجداننا، حاضرة كملاذ من الاستعمار الإيطالي وسياسات دولة الجماهيرية، بل والحصار العالمي علينا في تسعينيات القرن الماضي، بالإضافة لبقائها البلد الوحيد الذي لم يغلق حدوده ولم يغيّر سياساته معنا في العشرية الماضية، ولا أظنّها ستفعل. وهذا طبعا يعود للعلاقات المتشابكة والكثيرة بين الشعبيْن الليبي والتونسي؛ ويعود للتجارة والمصالح وللثقافة المشتركة بيننا حتّى إن هنالك مصطلحات وتسميات يتشارك فيها الشرق الليبي والشمال التونسي ولا يشاركهما فيها الغرب والجنوب الليبييْن.
موسيقى المرسكاوي، على سبيل المثال، وهي موسيقى الشرق الليبي قبل أن تكون موسيقى ليبية، هي موسيقى مشهورة في الجنوب التونسي. الشعر الشعبي الذي ينتجه أبناء الغرب الليبي يُسمع ويُتداول في تونس، أحياناً أكثر من الغرب الليبي نفسه. سيدي عبد السلام الأسمر، العَلَم الصوفي والثقافي في ليبيا، هو عَلَم ثقافي وديني في تونس له مزارات منتشرة في تونس العاصمة وقليبية والجنوب التونسي. محمد حسن، الموسيقار الليبي الراحل، له جمهوره في تونس كما له جمهوره في ليبيا. الفن التونسي في النّحت والموسيقى والرسم يؤثر في الفن الليبي.
يمتد التاريخ الليبي والتونسي المشترك إلى قرطاجة. هذا التقارب الثقافي والتاريخي بين الشعبيْن طبعاً عززته الجغرافيا، فتونس مفتوحة بالكامل على الغرب الليبي، لا وجود لصحاري ولا جبال تفصل الشعبيْن. وهذا ما يجعل تونس حاضرة دائما في الوجدان الليبي.
إذن ما الذي يمكن أن نتعلمه نحن، كليبيين ومغاربيين، أولاً، وكعرب، ثانياً، وكبشر، ثالثاً، من هذه العلاقة؟ أنّ الثقافة لن تصلح ما خرّبته السياسة، ما لم يكن هدفنا الأول هو مهاجمة الانعزال الثقافي. وهذا ما يعرفه سائقو حافلات الإيفكو في طرابلس أكثر من غيرهم، هم يعشقون الفن المغربي أكثر من أي فن آخر، وإذا سألتهم عن المغرب، ستجد منهم حبا عظيما لا يملكه غيرهم لهذا البلد، بل ستجدهم يتحدثون المغربية رغم أنّهم لم يسافروا للرباط ولا للدار البيضاء يوماً. هم يملكون المعرفة الثقافية بالمغرب وبناسها. وهذا ما تعلّمتُه منهم أنا، أنا لم أزر الجزائر ولا موريتانيا ولا المغرب يوماً، ولكنني منفتح لتشبّع ثقافتهم، وأظنني سأرى وطني في تلك البلاد عندما أزورها، لأنني جئتها محملاً بتصوّر ثقافي ما – أيا كان صوابا أم خطأ- نهلته من أدب واسيني الأعرج ومحمد شكري والطاهر بن جلّون وموسيقى الشاب خالد وناس الغيوان ورسومات الكهوف في صحراء الجزائر وليبيا.
- المصدر: أصوات مغاربية