الروائي الليبي محمد النعاس. مصدر الصورة: صفحة الجائزة على فيسبوك
الروائي الليبي محمد النعاس. مصدر الصورة: صفحة الجائزة على فيسبوك

في هذا الحوار مع "أصوات مغاربية"، يتحدث الروائي الليبي، محمد النعاس، عن فوزه، مؤخرا، بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الـ15 عن رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد"، لافتا إلى أن الفوز "سيُتيح الفرصة للأدب الليبي بأن يظهر بجدية ويفك أغلال الانعزال السياسية والاجتماعية التي تستمر في محاصرته لعقود".

وحاول النعاس أخذ مسافة من التأويلات التي صاحبت مضامين الرواية حول الجندر والعلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الليبي، قائلا إنها "لا تصوّر ليبيا بأكملها"، وأنها "لم تدع أنّها تصور مشكلة تواجه كل الرجال في ليبيا".

كما أبدى رأيه في دور الثقافة والأدب في بناء الجسور بين الشعوب المغاربية، مشيرا إلى أن "الثقافة لن تصلح ما خرّبته السياسة، ما لم يكن هدفنا الأول هو مهاجمة الانعزال الثقافي". 

نص المقابلة 

محمد النعاس، أول كاتب ليبي يفوز بأهم جائزة روائية عربية عن أول رواية له، ماذا يعني لك هذا الإنجاز؟

مبدئيا، لستُ من المعجبين بتوصيفات "أول" و"أصغر"، إذ أنّها لا تعني لي الكثير وأرى فيها نوعا من التحقير لأولئك الذين لم يحالفهم الحظ قبل ذاك "الأول" وتحقير لدور الأدب نفسه، إذ يُحصر في الجنسيات والقوميات والفئة العمرية. إلا أن فوز الرواية - وهذا ما أظنّه وآمله – سيُتيح الفرصة للأدب الليبي أن يظهر بجدية ويفك أغلال الانعزال السياسية والاجتماعية التي تستمر في محاصرته لعقود، هذا ما يعني لي الفوز.

 ترصد رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" مجتمعا صغيرا حيث "يفشل" البطل في أن يكون رجلاً وفق التعريف القبَلي للرجل المثالي، إذ يتولى أمور البيت بينما تخرج زوجته للعمل في قلب للتقسيم الاجتماعي التقليدي للعمل، هل كنت تصور واقعا ليبيا آخذا في الصعود؟ 

بداية الرواية لا ترصد "الرجل" وفق التعريف القبلي للرجل المثالي، وهذا ما قلته في أكثر من مناسبة. ليبيا ليست تجمعا من القبائل، والرواية لا تصوّر ليبيا بأكملها. هي تتحدث عن حياة عائلة ليبية واحدة في قرية صغيرة. وهكذا يجب أن تُقرأ الرواية، ولم أتحدث أبدا عن القبيلة في الرواية.

ليس من الضروري أن يعمل الأدب على تصوير واقع آخذ في الصعود في البلد بالمعنى الحرفي. الرواية مستلهمة من المثل "عيلة وخالها ميلاد"، وهو مثل مشهور داخل البلد، ويُعد أكثر الأمثال استخداما في السنوات القليلة الماضية. هل يستخدم الليبيون المثل معرفين الرجل كما عرفته في ميلاد؟ يأخذ كل أوصافه ويمارس أعماله المنزلية؟ لا بالطبع.

عمل المرأة في ليبيا ليس أمراً جديداً، وكذلك بطالة الرجل. بطالة الرجل في العادة مقنّعة، بمعنى أنّه -وفي حالة ميلاد كذلك- يعمل في الدولة ولا يعمل، يملك رقما وظيفيا ويذهب بين الفينة والأخرى إلى عمله في مؤسسات الدولة، ولكنه لا ينجز أي عمل. وبهذا، يمكن القول إنّ هناك تقاطعات بين الخيال في الرواية والواقع داخل المجتمع الليبي، حيث تجد المرأة نفسها في وضع تحتاج فيه للعمل اليومي بينما يرتاح الرجل في المنزل، لا يعمل فيه مثلما يعمل ميلاد.

الخال ميلاد الذي يقضي صباحاته في إعداد الرغيف الساخن بالشاي على رنين موسيقى المغني الجزائري، الشاب خالد، يبدو سعيدا في حياته، لكن النمائم التي تأتيه من محيطه الذكوري تنغّص عليه هذه السعادة البسيطة، هل هذا يعني أن الرجل في المجتمع الليبي والمغاربي يواجه صعوبة كبيرة في الانفكاك من أغلال الضغط الجندري؟

لا أعرف وضع الرجل المغاربي حتى أتحدث عنه، ووضع الرجل الليبي متشابك ومعقد، هناك من هم سعيدون بوضعهم ولا يجدون فيه أية مشكلة، وهناك من لا يعي بالمآزق الاجتماعية التي يعيشها، ولكنه يجد نفسه داخل منظومة لا تتيح له نقدها. فعلى سبيل المثال، عادات الخطوبة وتقاليد الزواج في ليبيا تبدو أحياناً مجحفة وتعمل على إرضاء المجتمع المحيط أكثر من كونها تصبّ في مصلحة الزوجيْن، إذ يتعيّن على الرجل أن ينفق أموالاً طائلة في أمور لا فائدة منها سوى الإبهار، وهذه العادات والتقاليد ترسّخ لمجتمع مادّي وتضع الرجال -والنساء أيضاً- في موضع رؤية مؤسسة الزواج كمؤسسة ماديّة لا روحية وفكرية يبحث فيها الزوجان عن السعادة بما يتفقان عليه. وهذا ما لا يعيه الكثير من الرجال المقدمين على الزواج، والذين يتماهون مع المجتمع في عادة التبذير.

وهناك من هم مثل ميلاد، يظنّون أنفسهم سعداء بحياتهم الزوجية حتى تبدأ النمائم في التناقل حول علاقتهم مع زوجاتهم. ويجدون أنفسهم غير قادرين على التماهي مع النماذج الاجتماعية المختلفة للرجل، ولهذا يصطدمون بين رغبتهم في الوصول إلى المثل الأعلى وبين ضعفهم وعدم امتلاكهم للقدرة النقدية.

وهناك أيضاً أولئك الذين لا يجدون في العادات والتقاليد الاجتماعية سوى خرافات لا يأبهون لها، ويتحدونها بأفكارهم وبأسلوب حياتهم المختلف عن بقية المجتمع، والمختلف عن أسلوب حياة ميلاد نفسه.

ولهذا كما ترى، ليس هناك "هُم عام" أو مشكلة عامة تجمع الرجال. وهذا ما بحثت فيه الرواية، إذ إنّها لم تدّع أنها تملك الحل ولم تدّع أنها تصور مشكلة تواجه كل الرجال في ليبيا. ولا يجوز لأي عمل إبداعي ادعاء ذلك.

عرفنا كيف وجد "ميلاد الأسطي" نفسه عاشقا للخبز- أي عبر والده الذي تعلّم أسرار الصنعة من خبّاز إيطالي - لكن ما قصتك شخصيا مع الخبز، فالوصف السردي الدقيق يشي بأنك تملك معرفة دقيقة بما تَعتبره "المكون الرئيس على سفرة الغذاء الليبية"؟ 

هذا أمر ذكرته أكثر من مرة في حوارات سابقة، وهو أنني قبل العمل على الرواية، كنت جاهلا بتقنيات وأساليب صناعة الخبز؛ ولهذا قرأت عن الخبز وبدأت فعلا بخبز كل أنواع الخبز والخبيز المذكورة في الرواية. كما قرأت عن تاريخ القمح وعلاقتنا نحن البشر معه.

ترصد الرواية اصطدام قناعات الشخصية المحورية مع باقي الشخوص فيما يشبه تمزقا يذكّر البعض بالواقع الليبي الحالي، هل كنت تكتب أيضا عن ليبيا ما بعد القذافي؟ 

كل أحداث الرواية تحدث في الجماهيرية الليبية، نعم كتبت قصصا ومقالات قبلها وبعدها عن ليبيا ما بعد العقيد الراحل معمر القذافي. ولكن في هذه الرواية لا. لأنّ المجتمع الليبي في "تمزّق" حتى قبل القذافي.

 البعض يقول إن العمل الأول الناجح للكاتب بمثابة "هدية مسمومة"، إذ يتحمل عبئا كبيرا لكتابة رواية أفضل أو على الأقل في مستوى العمل الأول، ما رأيك؟ 

لا أؤمن بذلك. لأنّ الرواية ليست عملي الأول المكتوب، هي عملي الروائي الأول المنشور فقط لا غير. ولكن هل فعلاً نجحت الرواية – بعيدا عن فوزها بالجائزة-؟ لا أعرف، الزمن كفيل بمعرفة ما إذا كانت رواية ناجحة أم لا.

 كنتَ مؤخرا ضيفا على بيت الرواية في تونس وقلتَ إن هذا البلد المغاربي أول من يحتفي بك. برأيك، كيف يمكن للعمل الثقافي أن يبني جسورا مغاربية يقول البعض إن السياسة دمّرتها؟ 

علاقتي مع تونس قديمة، أقدم من وعيي بالكتابة، ولا أظن كونها البلد الأول الذي يحتفي بالرواية -حتى قبل ليبيا- أم لا، سيغيّر أي شيء في علاقتي الوطيدة معها، إذ تحمل البلاد بأكملها جميلا لا يمكننا أن نردّه لها نحن الليبيون، فهي البلاد الوحيدة على مرّ التاريخ الليبي الحديث التي لم تغلق أبوابها علينا.

كانت تونس حاضرة دائما في خيالنا ووجداننا، حاضرة كملاذ من الاستعمار الإيطالي وسياسات دولة الجماهيرية، بل والحصار العالمي علينا في تسعينيات القرن الماضي، بالإضافة لبقائها البلد الوحيد الذي لم يغلق حدوده ولم يغيّر سياساته معنا في العشرية الماضية، ولا أظنّها ستفعل. وهذا طبعا يعود للعلاقات المتشابكة والكثيرة بين الشعبيْن الليبي والتونسي؛ ويعود للتجارة والمصالح وللثقافة المشتركة بيننا حتّى إن هنالك مصطلحات وتسميات يتشارك فيها الشرق الليبي والشمال التونسي ولا يشاركهما فيها الغرب والجنوب الليبييْن.

موسيقى المرسكاوي، على سبيل المثال، وهي موسيقى الشرق الليبي قبل أن تكون موسيقى ليبية، هي موسيقى مشهورة في الجنوب التونسي. الشعر الشعبي الذي ينتجه أبناء الغرب الليبي يُسمع ويُتداول في تونس، أحياناً أكثر من الغرب الليبي نفسه. سيدي عبد السلام الأسمر، العَلَم الصوفي والثقافي في ليبيا، هو عَلَم ثقافي وديني في تونس له مزارات منتشرة في تونس العاصمة وقليبية والجنوب التونسي. محمد حسن، الموسيقار الليبي الراحل، له جمهوره في تونس كما له جمهوره في ليبيا. الفن التونسي في النّحت والموسيقى والرسم يؤثر في الفن الليبي.

يمتد التاريخ الليبي والتونسي المشترك إلى قرطاجة. هذا التقارب الثقافي والتاريخي بين الشعبيْن طبعاً عززته الجغرافيا، فتونس مفتوحة بالكامل على الغرب الليبي، لا وجود لصحاري ولا جبال تفصل الشعبيْن. وهذا ما يجعل تونس حاضرة دائما في الوجدان الليبي.

إذن ما الذي يمكن أن نتعلمه نحن، كليبيين ومغاربيين، أولاً، وكعرب، ثانياً، وكبشر، ثالثاً، من هذه العلاقة؟ أنّ الثقافة لن تصلح ما خرّبته السياسة، ما لم يكن هدفنا الأول هو مهاجمة الانعزال الثقافي. وهذا ما يعرفه سائقو حافلات الإيفكو في طرابلس أكثر من غيرهم، هم يعشقون الفن المغربي أكثر من أي فن آخر، وإذا سألتهم عن المغرب، ستجد منهم حبا عظيما لا يملكه غيرهم لهذا البلد، بل ستجدهم يتحدثون المغربية رغم أنّهم لم يسافروا للرباط ولا للدار البيضاء يوماً. هم يملكون المعرفة الثقافية بالمغرب وبناسها. وهذا ما تعلّمتُه منهم أنا، أنا لم أزر الجزائر ولا موريتانيا  ولا المغرب يوماً، ولكنني منفتح لتشبّع ثقافتهم، وأظنني سأرى وطني في تلك البلاد عندما أزورها، لأنني جئتها محملاً بتصوّر ثقافي ما – أيا كان صوابا أم خطأ- نهلته من أدب واسيني الأعرج ومحمد شكري والطاهر بن جلّون وموسيقى الشاب خالد وناس الغيوان ورسومات الكهوف في صحراء الجزائر وليبيا.

 

  • المصدر: أصوات مغاربية

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني
صورة تعبيرية تجمع بين العالمين المسلمين يوسف القرضاوي وعلي السيستاني

في العصور الوسطى، عرف المسلمون بعض الفنون التي تضمنت التمثيل بشكل أو بآخر، منها مسرح "خيال الظل" الذي ظهر في قصور أمراء العصر الفاطمي في القرن السادس الهجري، وفن "الأراجوز" الذي عُرف خلال العصرين الأيوبي والمملوكي وانتشر على نطاق واسع في العصر العثماني.

في القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ التمثيل يأخذ مكانة مهمة في المجتمعات الإسلامية، باعتباره أحد الفنون المعروفة التي تمكنت من حصد إعجاب الجماهير.

في هذا السياق، اشتهرت أعمال السوري أبو خليل القباني، الذي يُعدّ أول من أسّس مسرحاً عربياً في دمشق، واللبناني مارون النقاش الذي مثّل أول رواية عربية عام 1848، والمصري عبد الله النديم الذي مثّل روايتي "الوطن" و"العرب" في مسرح "زيزينيا" بمدينة الإسكندرية وحضرها الخديوي إسماعيل.

على الرغم من كثرة الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية التي قدمها الفنانون في العالم العربي، إلا أن النظرة العامة للتمثيل أُحيطت بالعديد من علامات الشك والارتياب من قبل علماء مسلمين ورجال دين عارضوا هذا الفن حتى أنهم أفتى بحُرمته.

في المقابل، كانت هناك فتاوى إسلامية أباحت التمثيل، والغناء أيضاً كما أسلفنا في مقال سابق نُشر على موقع "ارفع صوتك". 

 

الرفض: الرأي التقليدي

في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية"، عمل الأديب اللبناني جرجي زيدان على تفسير الرفض التقليدي لفن التمثيل في الأوساط الإسلامية، فقال إن "فن التمثيل من الفنون القديمة في قارة أوروبا منذ عهد اليونان، ونقل العرب في صدر الدولة العباسية علوم اليونان الطبيعية والفلسفية والرياضية، وتجاهلوا نقل أكثر آدابهم الأخلاقية، أو الشعرية والتاريخية، ومن جملتها التمثيل".

يفسر ذلك التجاهل بقوله "لعل السبب، تجافي المسلمين عن ظهور المرأة المسلمة على المسرح، فأزهر التمدن الإسلامي وأثمر وليس فيه ثمة تمثيل...".

بشكل عام، تعرض الممثلون والفنانون العرب للتجاهل والرفض بشكل واسع من قِبل المؤسسات الدينية الإسلامية لفترات طويلة من القرن العشرين. حيث أصدر بعض رجال الدين فتاواهم الرافضة لممارسة التمثيل، وعدّوه من "خوارم المروءة"، ومن أسباب سقوط الشهادة في المحاكم الشرعية.

يُعبر الشيخ السعودي بكر أبو زيد عن تلك الرؤية في كتابه "حكم التمثيل"، فيذكر أن التمثيل نوع من أنواع الكذب، ويستشهد بالحديث المنسوب للصحابي عبد الله بن مسعود "الكذب لا يصلح في جد ولا هزل، ولا يَعد أحدكم صبيّه شيئاً ثم لا يُنجزه"، يتابع بعدها "...وعليه فلا يمتري عاقل، أن (التمثيل) من أولى خوارم المروءة، ولذا فهو من مُسقِطات الشهادة قضاء، وما كان كذلك، فإن الشرع لا يُقرّه في جملته. ومن المسلمات أن التمثيل لا يحترفه أهل المروءات، ولا من له صفة تذكر في العقل والدين...".

الرأي نفسه، ذهب إليه المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية عبد العزيز بن باز. جاء في إحدى فتاواه: "...الذي يظهر لنا أن التمثيل من باب الكذب، التمثيل أنه يمثل عمر، أو يمثل أبا جهل، أو يمثل فرعون، أو يمثل النبي، كلها في ما نعلم وفي ما نفتي به أنها من الكذب، يكفي الآخرين ما كفى الأولين...".

من محمد عبده إلى كمال الحيدري.. فتاوى أباحت الرسم والنحت
عرفت فنون الرسم والتصوير والنحت حضوراً قوياً في الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، وتماشى هذا الحضور مع غلبة المعتقدات الدينية المسيحية التي لا ترى بأساً في تصوير الإنسان والكائنات الحية، على النقيض من ذلك، ظهرت معارضة قوية لتلك الفنون في البلاد الإسلامية.

 

تصاعد الجدل بين الممثلين ورجال الدين

شهدت العقود السابقة اشتعال الجدل بين الممثلين ورجال الدين بسبب عدد من الأعمال الفنية السينمائية والتلفزيونية. وكانت ظاهرة تمثيل الأنبياء والصحابة أحد أهم الأسباب المثيرة للجدل والنقاش بين الطرفين>

وفيما حاول الممثلون تجسيد الشخصيات الدينية الروحية الأكثر تأثيراً في أعمالهم، فإن رجال الدين المسلمين -على الجانب الآخر- رفضوا ذلك بشكل كامل، وأصروّا أن تبقى الشخصيات بعيدة عن أي تجسيد أو تمثيل للحفاظ على القداسة المرتبطة بها في الوجدان المسلم.

بشكل عام، تعود فكرة تجسيد الأنبياء بشكل درامي لفترة مبكرة من عمر الصناعة السينمائية في البلاد العربية. ففي عام 1926، عُرض على الممثل المصري يوسف بك وهبي تمثيل شخصية الرسول محمد من قِبل شركة إنتاج ألمانية- تركية.

وافق وهبي في البداية وانتشر الخبر في الصحف، حتى خرج الأزهر وهاجم المشروع. كتب وهبي في مذكراته أنه اعتذر عن بطولة العمل بعدما تلقى تهديداً من جانب الملك فؤاد ملك مصر -آنذاك- بالنفي والحرمان من الجنسية المصرية.

لا ننسى أن تلك الأحداث وقعت بعد سنتين فحسب من سقوط الدولة العثمانية، كان الملك فؤاد وقتها يسعى للحصول على لقب "الخليفة"، وكان من المهم بالنسبة له أن يظهر في صورة "المدافع عن الإسلام والنبي" ضد أي تشويه محتمل.

في خمسينيات القرن العشرين، جُسدت شخصيات بعض الصحابة درامياً. على سبيل المثال قدمت السينما المصرية فيلم "بلال مؤذن الرسول" سنة 1953، وفيلم "خالد بن الوليد" سنة 1958 من بطولة وإنتاج وإخراج الممثل المصري حسين صدقي. عُرف صدقي بتوجهاته الإسلامية في الفترة الأخيرة من حياته، وكان اختيار شخصية خالد بن الوليد تحديداً لتجسيدها في عمل سينمائي أمراً مفهوماً لما لتلك الشخصية من حضور طاغٍ في الثقافة الإسلامية السنيّة التقليدية.

تفجر الجدل مرة أخرى حول تجسيد شخصيات الصحابة في سبعينيات القرن العشرين. في تلك الفترة أُعلن الاتفاق على تصوير فيلم "الرسالة" بنسختيه العربية والإنجليزية للمخرج السوري مصطفى العقاد، واختيرت نخبة من الفنانين العرب والأجانب للمشاركة في تقديم هذا المشروع الضخم.

شاع حينها أن صناع العمل حصلوا على موافقة الأزهر، مما أثار رفضاً من جانب الكثير من رجال الدين. مثلاً، أرسل الشيخ السعودي عبد العزيز بن باز إلى شيخ الأزهر رسالة يستهجن فيها الموافقة على الفيلم، جاء فيها "من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المُكرم صاحب السماحة الشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر… فإني أستغرب إقرار الأزهر لإخراج الفيلم المذكور؛ فإن كان ما نُسب إليه صحيحاً فإني أطلب من فضيلتكم العمل على سحب الفتوى الصادرة من الأزهر في هذا الشأن إن أمكن ذلك، أو إبداء رأيكم في الموضوع براءةً للذمة، وخروجاً من التبعة، وتعظيماً للنبي وأصحابه –رضي الله عنهم– وصيانةً لهم عن كل ما قد يؤدي إلى تنقصهم بوجه من الوجوه…".

تسببت ردود الأفعال الغاضبة في إعلان الأزهر رفضه مشروع الفيلم، فأصدر الشيخ عبد الحليم محمود بياناً وقعه معه مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ورد في نصّه: "نعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) أو أي فيلم يتناول بالتمثيل-على أي وضع كان- شخصية الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو شخصيات الصحابة- رضي الله عنهم".

علل البيان الرفض بأن تلك الأفلام "تحط من قدر هذه الشخصيات المقدسة في نظر المسلم".

استجاب الملك الحسن الثاني ملك المغرب الراحل لنداء الشيخ محمود ومنع تصوير الفيلم في المغرب، وتم استكمال التصوير بعدها في ليبيا بدعم من نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.

لم ينته الصدام بين الممثلين ورجال الدين عند هذا الحد. فعلى مدار السنوات الماضية، شهدت أروقة المحاكم وصفحات الجرائد وقائع الجدل المتصاعد حول العديد من الأعمال الفنية التي لم تحصل على موافقة الرقابة الأزهرية، منها فيلم "القادسية"، من إنتاج دائرة السينما والمسرح العراقية سنة 1981، الذي جسد شخصية الصحابي سعد بن أبي وقاص، وفيلم "المهاجر" 1994، الذي قيل إنه "يصور سيرة حياة النبي يوسف".

من جهة أخرى، اُتهم العديد من الممثلين بالدعوة لـ"إشاعة الفحشاء والإباحية والعُري" من قِبل بعض رجال الدين، وارتبطت تلك الاتهامات بظاهرة "حجاب واعتزال الفنانات" التي تصاعدت في حقبة الثمانينيات.

وقيل وقتها إن "وراء تلك الظاهرة جماعات إسلامية تدفع أموالاً طائلة للفنانات المحجبات مقابل حجابهن وابتعادهنّ عن الوسط الفني".

 

فتاوى أجازت التمثيل

شهدت السنوات الأخيرة حالة من الهدوء النسبي بين رجال الدين والممثلين، وصدرت العديد من الفتاوى التي أباحت العمل بالتمثيل. من تلك الفتاوى، التي أصدرها الشيخ السعودي ابن عثيمين اعتماداً على أن هذا النوع من الفن من الأمور الخارجة عن العبادات الشرعية "...والأصل في غير العبادات الحل والإباحة، وهذا من فضل الله عز وجل: أن يسر على العباد ما لم يحرمه عليهم، فإذا كان الأصل الحل، فإنه لا بد من إقامة الدليل على التحريم..."، وفق تعبيره.

نشر الشيخ المصري يوسف القرضاوي مضمون الحكم نفسه على موقعه الإلكتروني، وذلك عندما أجاب على سؤال من إحدى شركات الإنتاج الفني حول حكم تقديم مسلسل عن الصحابي خالد بن الوليد، فقال "...قد أصبح التمثيل في عصرنا من مميزات الحياة المعاصرة، وأصبحت له معاهده وكلياته وخريجوه، وصار له عشاقه ومريدوه، وغدت له صور شتّى في المسرح وفي الأفلام وفي المسلسلات وغيرها. كما غدا يطرق أبواب الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية وغيرها. وأمسى له تأثيراته الهائلة في حياة الناس إيجاباً وسلباً... واستقر الأمر على جواز التمثيل بصفة عامة، إذا كان من ورائه عظة وعبرة للناس، ولم يشتمل على منكر يُحرمه الشرع، من قول أو فعل، أو مشهد...".

في السياق ذاته، أفتى علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق بأن التمثيل في حد ذاته ودراسته واستعماله من أجل إيصال الخير للناس "لا بأس به". ك

ما قال الداعية الإسلامي المصري خالد الجندي، إن "الفن بشكل عام، ومهنة التمثيل خاصة، ليست حراماً، إذا كان في النطاق المقبول والمحترم والهادف، لأن الفن رسالة قيّمة، إذا تم استخدامها بشكل صحيح".

وتابع أن التمثيل "جزء وأداة من أدوات الفن، وتعريف التمثيل، هو ضرب المثل، وهذا الضرب مذكور في القرآن، حيث قال الله تعالى "ويضرب الله الأمثال للناس"، وعندما وصف الله نوره، ضرب مثلاً أيضاً عندما قال في كتابه "مثل نوره كمشكاة"، وأن "الله عندما كان يرسل الملائكة إلى الرسل، كانت تتجسد في شكل البشر، مثل سيدنا جبريل، عندما نزل على سيدنا محمد".

يبدو موقف رجال الدين من التمثيل أكثر قبولاً في الأوساط الشيعية. على سبيل المثال، أجاب المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني على سؤال حول حكم التمثيل الفني في المسرح أو التلفزيون بكونه "حلالاً".

كما أباح تمثيل دور المرأة بواسطة الرجل ولم ير أن ذلك التمثيل يدخل في باب التشبيه المنهي عنه في الحديث "لَعنَ رسُولُ اللَّهِ المُتَشبِّهين مِن الرِّجالِ بِالنساءِ، والمُتَشبِّهَات مِن النِّسَاءِ بِالرِّجالِ".

من جهة أخرى، أفتى السيستاني بجواز تجسيد الأنبياء على الشاشة بشرط مراعاة "مستلزمات التعظيم والتبجيل"، وعدم اشتماله "على ما يسيء إلى صورهم المقدسة في النفوس".