انتخابات العراق
أفرزت الانتخابات العراقية فوزا وتقدما مذهلا لـ"التيار الصدري"، وهزيمة كاسحة لتحالف الفتح.

بعد إعلان النتائج المبدئية للانتخابات البرلمانية العراقية، التي أفرزت فوزا وتقدما مذهلا لـ "التيار الصدري"، وهزيمة كاسحة لتحالف الفتح، وضعت يدي على قلبي خوفا وتوجسا على العراق من اندلاع صراع مسلح.

عُدت لاسترجاع كلام زعيمي "الحشد الشعبي"، هادي العامري وفالح الفياض، خلال ملتقى الرافدين الشهر الماضي في بغداد، فهما يُرجعان الفضل في بقاء الدولة العراقية وصمودها وعدم انهيارها، ومنع الانقلاب عليها، للحشد الشعبي، وكأنهما يقولان "نحن الدولة"، ولهذا فإن تقبل الخسارة المدوية للانتخابات لكتلة "الفتح"، المظلة السياسية للحشد الشعبي، والأقرب والأكثر موالاة لإيران يبدو ليس سهلا، والاستسلام لفكرة التحولات الجديدة، في المشهد العراقي، وأنهم خارج لعبة السلطة أمر صعب القبول.

القراءة الأولية لنتائج الانتخابات تُشير إلى أن حلفاء إيران الأقرب خسروا مواقعهم المتقدمة في البرلمان، فالتيار الصدري حصد 73 مقعدا، يليه "تحالف تقدم" الذي يقوده رئيس البرلمان محمد الحلبوسي بـ 37 مقعدا، ثم يتبعه ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي بـ34 مقعدا، فالحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود برزاني بـ32 مقعدا، ويأتي بعد ذلك تحالف الفتح بزعامة هادي العامري بـ 18 مقعدا.

انتخابات البرلمان العراقي، الذي يضم 329 مقعدا، لم تخلُ من مفاجآت أخرى مثل ظهور أصوات مستقلة حازت على 40 مقعدا، من بينهم 15 نائبا يمثلون "حراك تشرين"، هذا عدا عن فوز 97 امرأة خارج الكوتا.

الخاسرون في الانتخابات لم يُسلموا بالنتائج، والخوف ليس من 1300 طعن قُدمت للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وإنما من التهديد، وابتزاز الدولة، والسعي إلى مكاسرتها في الشارع باحتجاجات غير سلمية.

ما يُسمى الهيئة التنسيقية للمعارضة العراقية حذرت من وصول البلاد إلى حافة الهاوية، واعتبرت أن أياد أجنبية تلاعبت بالانتخابات، وأنه تم تزويرها بشكل فاضح وبإشراف حكومي، وهذا أدى لفشل عمل المفوضية وعجزها عن الوقوف بوجه الإرادات الخارجية.

عضو المكتب السياسي لحركة عصائب الحق، المنضوية تحت مظلة تحالف الفتح، سعد السعدي، لم يُعطِ مفوضية الانتخابات من خيار سوى تصحيح المسار، وإلا سيدخل البلد في نفق مظلم ومشاكل لا تُحمد عُقباها.

السؤال المقلق: هذه التهديدات الكلامية هل ستظل مناوشات وبالونات في سياق التجاذبات السياسية، ولن تخرج عن احتجاجات يمكن تطويقها واحتواؤها، أم هي مقدمة لصراع مسلح دامٍ خارج صناديق الاقتراع؟

العراق مختلف عن لبنان، وسيطرة القوى الشيعية الموالية لإيران بالقوة، وتحكمها بالمسار السياسي في بغداد كما هو الحال مع حزب الله في بيروت صعبة التحقق، حتى وإن كان الحشد الشعبي يضم ما يُقارب 170 ألف عسكري أصبحوا جزءا من القوات المسلحة العراقية.

كثيرة هي العوامل التي تصنع الردع وتوازن القوى، فشيعة العراق ليسوا كتلة موحدة تميل حكما إلى إيران، فالتيار الصدري يسعى لترسيخ مرجعية النجف الأشرف بعيدا عن مرجعية ولاية الفقيه في إيران، ويتماهى أكثر مع الهوية العروبية.

الأمر الآخر أن معظم التيارات السياسية لديها ميليشيات مسلحة بما فيها التيار الصدري، ربما تُعتبر مليشيات الحشد وتنظيماتها الأكثر تسلحا وتنظيما، لكنها ليست متفردة.

المهم أن اللجوء للصراع المسلح سيكون وقوده صراع شيعي-شيعي، وهذا في نهاية المطاف سيقود إلى نهاية النفوذ الإيراني في العراق، وسيُلغي صورة إيران كمرجعية حامية للشيعة في كل مكان، والأكثر أهمية -وهو ما يُقلل فرص الصراع- أن المرجع الشيعي على السيستاني له القول الفصل، ولن يسمح بهذا التحول الذي سيحرق الأخضر واليابس في العراق، ويُنهي العملية السياسية.

خارطة التحالفات ما بعد الانتخابات مهمة في بناء تصور لمستقبل العراق، وأول العناوين التي يمكن قراءتها بوضوح أن الحكومة القادمة ستمتلك هوامش أوسع للاستقلالية بعيدا عن دوائر النفوذ، وأكثرها وضوحا الابتعاد عن إيران.

يستطيع التيار الصدري أن يقود حكومة تحالف مع "تقدم" تيار السنة بزعامة رئيس البرلمان، الحلبوسي، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وضم عدد من التيارات المستقلة ليشكلوا غالبية برلمانية كاسحة تحمي الحكومة، وتُشكل حائط صد يمنع ابتزازها، أو ارتهانها لمقايضات سياسية محلية أو إقليمية.

سواء اختار مقتدى الصدر رئيسا للحكومة من تياره السياسي، أو توافق على الدفع بشخصية مستقلة تُدير دفة الحكم، فإن توجهات رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي هي الأقرب للاستمرار، والبناء على تجربة مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، وتكريس استقلالية العراق حتى لا يظل ساحة للصراع وتصفية الحسابات الإقليمية والدولية هو المنطق الذي سيسود، وهو ما سيجد تأييدا أمميا.

تتوجه الأنظار في العراق إلى مصير الطعون في الانتخابات، وإلى موقف زعيم التيار الصدري بعد أن شكل لجنة للمفاوضات من أجل تشكيل الحكومة.

الصدر يُدرك بتفرده في صدارة الانتخابات أن تقلباته السياسية بعد اليوم مكلفة، ولن تجد قبولا، فهو يملك مفتاح السلطة، وهو الربان الذي يقودها، ويعلم أن التهديدات موجهة له قبل الآخرين، وتحاول أن تفرض عليه التنازلات مسبقا، وأن يقبل بالمقايضة على أجندته.

استبق مقتدى الصدر معاركه السياسية المقبلة بتغريدة تحمل تطمينا لمن يريد أن يفهمها كذلك، وتحذيرا وتأنيبا لمن يريدون محاصرته والإيقاع به.

تغريدته على منصات التواصل الاجتماعي تقول "من الآن لا ينبغي أن تكون الانتخابات ونتائجها، وما يترتب عليها من تحالفات مثارا وباباً للخلافات والاختلافات، والصراعات والصدامات، بل يُمنع ويُجرم الاقتتال وزعزعة السلم الأهلي، والإضرار بالشعب وأمنه، وقوته وكرامته وسلامته".

ويُكمل الصدر رسالته الموجهة لأصدقائه وخصومه: "نسعى إلى تحالفات وطنية لا طائفية، ولا عرقية، وتحت خيمة الإصلاح"، ويحسم صورة الحكومة بالقول "نُريد حكومة قومية نزيهة تكون ساهرة على حماية الوطن، وأمنه، ولا تقدم المصالح الشخصية أو الحزبية أو الطائفية على المصالح العامة للعراق".

الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي تُعتبر أحد مطالب "حراك تشرين"، ربما تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ العراق، فرغم مرور ما يُقارب العقدين على سقوط نظام صدام حسين، فإن العراق لم يبنِ دولة عابرة للهويات الطائفية، وتكرس ارتهانه، وأصبح ساحة نفوذ لدول وقوى خارج العراق، وأصبح مضرب المثل لفساد الدولة وفشلها في تكريس سيادة القانون والمواطنة.

النهوض والتخلص من "أخطبوط" الوضع السائد، والقوى المستبدة شاق، والرهان ليس على تيارات سياسية تريد التغيير، وإنما على شعب دفع دمه ضريبة لصراع سياسي على السلطة لا يغنم منه إلا الخراب.

خلاصة القول: الانتخابات ونتائجها قد تكون مفتاح التغيير للخروج من نفق الأزمة، وخارطة طريق للمضي نحو النهوض والتعافي، وفي الاتجاه الآخر قد تكون شرارة لصراع عنيف ودامٍ تُدخل البلاد في دوامة الفوضى، فما يحكم الصراع في العراق المصالح والنفوذ أولا وأخيرا.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.