حادثة إلغاء رأس النظام السوري لمنصب "المفتي العام للجمهورية"، وردة فعل الجهاز المركزي للمعارضة السورية "السُنية"، بالمسارعة لإعلان إعادة تشكيل ذلك المنصب من جديد، وتعيين شخصية دينية على رأسها، كشفت بعدا مُستترا لتقاسم طائفي ما للسُلطة والحُكم في سوريا، كان جاريا حسب توازنات ما، طوال نصف قرن كامل مضى، لكن كان هناك حرص شديد من جميع المُنخرطين فيه على حجبه عن الكلام العام، حتى أنه كان واحدا من أكثر الخطوط الحمراء في البلاد طوال تلك الفترة، وبالنسبة لجميع المندمجين في تلك المحاصصة الطائفية.
كيف كشفت تلك الحادثة ما كان معروفا ومُقنعا طوال نصف قرن كاملٍ؟
خلال عشر سنوات كاملة مضت على الانتفاضة السورية، كانت أجسام المعارضة تسعى على الدوام لأن تُشكل هياكل بديلة لما كان للنظام السوري، من حكومة وعلم وجيش وتمثيل دبلوماسي، وحتى الفرق الرياضية والأهازيج والشعارات والاصطلاحات السياسية. كانت تفعل ذلك في محاولة لانتزاع الشرعيتين الرمزية والمادية من النظام، والحلول مكانه.
لكن حادثة إلغاء منصب المفتي العام حملت خاصتين مميزتين في ذلك الاتجاه، فمن جهة سارع المجلس الإسلامي السوري لإعلان إعادة تشكيل المنصب وانتخاب شخص "قائد" له، بعجلة فائقة، وهو ما لم يجر خلال المناسبات الأخرى. كذلك لم يُشكك بشرعية المنصب الذي ألغاه النظام، مثلما كان يفعل مع المناصب الأخرى، بل اعتبر إلغاء منصب المفتي مسا بـ"الهوية الإسلامية للسوريين"، أي أنه منصب ومؤسسة شبه مُقدسة، بالرغم من تبعيتها للنظام.
كشف ذلك واحدة من قواعد "اللعبة" السياسية السلطوية في البلاد، بين النظام السوري وشركائه الفعليين، وإن كانوا خلال السنوات الماضية قد انقسموا إلى فريقين، واحد داخل البلاد بقي على عهد المحاصصة التقليدية، وأخر صار "معارضاً"، وصار يسعى لامتلاك كُل شيء. لكن حينما كسر النظام السوري واحدة من قواعد المحاصصة الطائفية تلك، وإن مع الشريك الداخلي، حتى انتفض نظيره الخارجي للدفاع عنه.
فالمجلس الإسلامي السوري، الذي هو بمثابة دار الإفتاء والمجمع الفقهي بالنسبة للائتلاف السوري المعارض، إنما هو مُعبر فعلي عن وعي وانتظام سياسي سوري "سُني" تقليدي، كان حاضرا وموجودا وشريكا للسلطة السياسية الحاكمة للحياة العامة السورية طوال نصف قرن كامل مضى، والأهم أنه كان متوافقا مع النظام على ذلك التغليف للتوافقية والمحاصصة المُحكمة فيما بينهما.
فواحدة من أهم خصائص الحياة السياسية السورية منذ أوائل السبعينات، والتي بفضلها استقر المجال العام السوري فيما بعد، بعد عقد كامل من القلاقل، كانت تتمثل بتواطؤ مُحكم بين طرفين: واحد يمثله رأس النظام، حافظ الأسد، ومن بعد نجله، بشار الأسد، وبما يمثلونه من جيش وأجهزة أمنية وحزب البعث، مع نوع من الوعي الطائفي "العلوي"، يمتلك حسب هذه المحاصصة المجالين العسكري والسياسي. وشريك آخر "سُني"، يُسمح له بامتلاك الدولة وجزء وفيرا من السوق الداخلية وخيراته.
فطوال هذه الفترة، ومثلما كان لقادة الجيش والأجهزة الأمنية وأصحاب الرأي في الشأن السياسي السوري لونا طائفياً "علويا"، فإن مؤسسات الدولة السورية، من القضاء إلى التربية وليس انتهاء بالأوقاف ودار الإفتاء والعلوم الإنسانية في الجامعات، مرورا بالرموز والشعارات والأعياد الرسمية في البلاد، كانت "سُنية" تماما، إلى جانب الحصة الكُبرى من الجهاز الحكومي والإداري والنقابي والحزبي والاقتصادي.
كان الطرفان يملكان حذاقة كافية لإخفاء ذلك تماما. فالنظام كان يملك ترسانة مهولة الشعارات والاصطلاحات القومية و"العلمانية" و"المدنية"، التي تدعي ترفعا زائفاً عن أية طائفية تحاصصية، بالرغم من جذريتها في وعيه وسلوكه العام. أما شُركاؤه الآخرون، فقد كان يكفيهم الادعاء والترويج والقول بأنه هم "الإسلام"، وتاليا "الدين"، الأمر الذي كان يعني فعليا إلغاء طيف كامل من الطوائف والحساسيات السورية، التي تُشكل على الأقل نصف الشعب السوري. كذلك كان هذا الادعاء يفتح المجال واسعا لإمكانية الشراكة المُحكمة مع الجيش، الذي كان حاكما فعليا لسوريا منذ استقلالها عن فرنسا، وكان أصحاب هذا الوعي الطائفي "السُني"، بالذات من طبقة رجال الدين، يلهثون على الدوام لشراكة ما مع طبقة ضباط الجيش، القادرين وحدهم على حفظ مصالهم، وحسب قواعد ثابتة منذ ذلك الاستقلال، لكن الأمر تكرس فقط منذ أوائل السبعينات.
على الدوام كان يُمكن سماع مرويات وأحداث لا حصر لها في الحياة العامة السورية، عن جلسات وعلاقات وصداقات وأشكال شراكة وتنسيق بين أعضاء من طبقة رجال الدين "السُنة" هؤلاء، ومن بينهم الشيخ، أسامة الرفاعي، الذي انتخب "مفتيا عاما للجمهورية" من قِبل المجلس الإسلامي السوري "المعارض"، وبين قادة الأجهزة الأمنية وذوي القرار في رأس النظام السوري. حيث كانت تدور خلال تلك الأحداث مناقشة ضبط الشأن العام في البلاد، وعلى قاعدة المحاصصة غير المُعلنة تلك.
لكن، خلال السنة الأولى من انتفاضة الشعب السوري، أحس النظام السوري بنوع من "غدر" شركائه، الذين ركبوا موجة الانتفاضة، ونكثوا بكل عهد وشراكة سابقة بينهما، لكنه لم يمس فعليا بالأغلبية الواضحة منهم، لذكاء مستبطن منه، لمعرفته من جهة بهوادة ما قد يفعلونه بتوجهات الانتفاضة نفسها، ولإدراكه بإمكانية خلق توافق مستقبلي آخر غير مُعلن معهم في لحظة ما. لكن مع ذلك، بقي النظام محافظاً على أسس الشراكة التحاصصية السابقة، مع من بقي من أعضاء هذه الطبقة الشريكة.
خلال سنة الانتفاضة السورية الأولى نفسها، أعتقد شركاء النظام من طبقة رجال الدين هؤلاء، بإمكانية ضم السُلطتين العسكرية والسياسية إلى حصتهم في الشراكة، المتمثلة في الدولة والفضاء العام والعالم الرمزي لسوريا. لأنهم اعتبروا ذلك بمثابة انتقام من الشريك، الذي حاول خلال السنوات الأخيرة السابقة للانتفاضة، الاستيلاء على السوق الاقتصادية الداخلية، عبر طبقة من رجال الأعمال المُقربين منه، هذه السوق الاقتصادية التي كانوا يعتبرونها حصتهم وحصة رجال الأعمال المقربين منهم.
أثناء انتقالهم لدفة المعارضة، اعترضت طبقة رجال الدين هذه على كل شيء عسكري وسياسي في البلاد، أي على حصة الطرف الآخر من تلك الشراكة، لكنهم رفضوا على الدوام أي مس بهوية وشكل ومؤسسات الدولة السورية ودور وامتيازات النُخبة الدينية "السُنية" في البلاد، حصتهم.
ردة الفعل الانفعالية الغاضبة على إلغاء منصب المُفتي العام للبلاد من قِبل المعارضة "السُنية"، إنما هي الانعكاس والكشف المباشر لتلك المحاصصة الطائفية، لأن المعارضين اعتبروها حسما وتغيرا حقيقيا من قِبل النظام على ما كان ثابتا ومستقراً، وحافظ عليه النظام حتى أثناء الخلاف الشديد بينه وبين جزء من تلك الطبقة. ولا يهم هؤلاء الشُركاء "السُنة" سواء كان يشغل موقع المفتي العام "السُني" شخص مثل الشيخ، بدر الدين حسون، أو غيره، لأن الموقع هو مصدر السُلطة والامتياز لأبناء هذه الطبقة وهيمنتهم على فضاء البلاد، وشاغلوه ملتزمون بجوهره على الدوام، أيا كانت خطابيتهم السياسية الممالقة للسُلطة السياسية.