لا تتحطم تيارات الإسلام السياسي في مختلف بلدان منطقتنا لأسباب جيوسياسية فحسب، وإن كانت هذه الأخيرة شديدة الفاعلية لحدوث ذلك. تتحطم قوى الإسلام السياسي لأنها لم تعد تملك خطاباً لافتاً وساحراً ومؤثراً تقوله، هذه التيارات التي كانت طوال تاريخها السياسي، منذ أوائل القرن المنصرم وحتى الآن، لا تملك مشروعاً وأيديولوجية ورؤية وميزة إلا "الخطاب"، وهو الذي بفعل عوامل شديدة التركيب، وتغيرات بنيوية بالغة العُمق، صارت تفتقده.
العراق بتنوعه وحيويته السياسية وتجربته الفريدة يُقدم مثالاً واضحاً ومُختصراً ومُعبراً وشاملاً على ذلك. ومثال العراق يُمكن جره على بُلدان المنطقة كلها.
فقبل أسابيع قليلة، جرت في العراق انتخابات برلمانية عامة، كانت الأكثر نزاهة وشفافية وسلمية في تاريخ هذا البلد على الاطلاق. كانت هزيمة الإسلام السياسي، الشيعي والسُني والكُردي منه على السواء، أبرز ملامح هذه الانتخابات.
فالحزبان الإسلاميان الكُرديان، اللذان تقليدياً كانا يحصلان على قرابة 15 مقعداً، حصلا فقط على خمسة مقاعد. حدث ذلك، لأن الإسلام السياسي في إقليم كُردستان لم يعد قادراً على إغراء القواعد الاجتماعية بخطابه التقليدي عن "المحرومين والمستضعفين"، الذين يواجهون "طُغمة من الفاسدين".
فمثل هذا الخطاب صار مُلكاً لشخصية شعبوية واحدة، اسمه شاصوار عبد الواحد، الذي صار قادراً على الظفر بالقواعد الاجتماعية التي كانت موالية للإسلاميين، عبر قناة تلفزيونية واحدة، وعدة صفحات فعالة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي غلبت كُل إمبراطورية الإسلاميين من كلام المظلومية.
الحزب الإسلامي العراقي لم يحصل على أي مقعد قط، وهو الذي كان يمثل نهج جماعية الإخوان المسلمين العراقية، والذي ورث فعلياً القواعد الشعبية السُنية العراقية "البعثية" التي كانت، وبقي هذا الحزب لأكثر من دورة انتخابية، الحزب "السُني" الأول في البرلمان.
حدث ذلك، لأن مراوغة خطابية كان يفيض بها الكلام السياسي لهذا الحزب طوال عقد ونصف كامل مضى، لم تعد ذات مضمون ومعنى، بل صارت شديدة الخطورة. فذاك المزيج المريع من تراثي البعث والإخوان المُسلمين، والذي لا يملك مضموناً، خلا مراكمة الضغينة والكراهية الطائفية، أدى منطقياً لانبلاج ظاهرة كداعش، التي آذت الكثيرين، لكنها حطمت حياة ملايين السُنة هؤلاء.
الأحزاب الإسلامية الشيعية بدورها خسرت أغلب مقاعدها، التي ظفرت بها القوى والشخصيات المدنية، والفوز الاستثنائي للتيار الصدري حدث لأن الصدر على العكس من تلك القوى الإسلامية، إنما يملك خطاباً يمزج بين الأبوية الأهلية مع الوطنية المناهضة للطائفية.
الإسلاميون الشيعة خسروا لأسباب كثيرة، لكن تهافت مضامين خطابهم العمومي كان على رأس تلك الأسباب. فبالنسبة لعشرات الملايين من الشُبان العراقيين، الذين يعيشون أسوأ الظروف الاقتصادية والنفسية والحياتية، وبسبب سياسات وسلوكيات هذه الأحزاب الإسلامية التي كانت تحكم طوال السنوات الماضية، لم يعد أمراً ذو معنى أن يأت حزب أو تيار سياسي، يكون كُل برنامجه السياسي عبارة عن خطابية طويلة حول مظلومية الشيعي وآلام "آل البيت"، ويسعى للظفر بأصوات وولاء ملايين الشُبان هؤلاء، فقط لأنه يملك ترسانة من الشيوخ الذين يستطيعون قول ذلك بدرامية تشبه المسرحيات الإغريقية القديمة.
مثل العراق بالضبط، تجري الأمور في باقي بُلدان المنطقة، من المغرب إلى تركيا، مروراً بمصر وإيران وسوريا ولبنان وبلدان الخليج العربي. ثمة إسلام سياسي يفقد لسانه الذي كان. جرى ذلك بعدما صارت المُجتمعات أكثر حذاقة وفطنة لكشف تهافت مضامينه وسوء مصداقيته، ولبروز منافسين ميدانيين أكثر إغراء وجدارة، وأولاً لأن الإسلاميين أظهروا قدرة مُريعة لأن يكونوا مُعارضين أبديين، لكن أسوأ الحاكمين لو غلبوا.
ثلاث مراحل رئيسية ظهرت في هذا الانحدار المتقادم للخطابية الإسلامية.
فطوال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، كانت الخطابية الإسلامية تتمركز حول مفهوم "الطاغية"، لوصف وخلق تصور مُحدد حول السُلطة الحاكمة، باعتبارها كينونة خارجية، يملكها طاقم من "الأشرار المتآمرين" على الهوية المحلية. كانت تلك الخطابية تُغري ملايين الشُبان المتحمسين، لأنها كانت تخلق صراعاً حربياً أساسه الهوية العصبية.
بالتقادم، اكتشفت نفس القواعد سذاجة ذلك الخطاب. فما كان يُسميه الإسلاميون بـ"الطاغية" لوصف نظام الحُكم وهيكل السُلطة، ظهر جلياً باعتباره مجموعة هائلة من المصالح والتداخلات الاجتماعية، المتجذرة في الأساس الأعمق لهذه المجتمعات، والتي ينخرط فيها ملايين المواطنين، وكلٌ حسب قدراته وحظوظه للنفاذ إلى ذلك الهيكل، ولغير صُدفة كان الآلاف من رجال الدين من أبرز المتلهفين للاندراج في تلك الهيكلية.
لأجل ذلك، صارت الخطابية الإسلامية حول السلطة ونظام الحُكم، باعتبارهم "شراً مُطلقاً" وخارجياً، وحيث ستكون الحياة وردية فيما لو زالوا، وبالذات حينما يحكم الإسلاميون، مُجرد كلامٍ دون أي معنى.
في مرحلة لاحقة، ومع بداية الألفية الجديدة، انقسمت الخطابية الإسلامية إلى حيزين: إما إسلام سياسي طائفي، في البلدان التي تملك حساسيات من ذلك النوع، كما في سوريا ولبنان والعراق. أو إسلام سياسي خدماتي، يُكثر الحديث حول الفوارق الطبقية والفساد والنهب العام والفقراء وأمور مشابهة.
التجربة التاريخية القصيرة، أثبتت من طرف أن خطاب الإسلام السياسي الطائفي لا يؤدي إلا إلى حروب أهلية مديدة، تقتلع كُل إمكانية للحياة، ولا تُنتج إلا شخصيات ومواقف وسياسات وظروفاً عجائبية، تشبه بالضبط عجائبية الصراعات الطائفية نفسها.
فوق ذلك، فإن ذلك الإسلام السياسي المتمركز حول الخطابية الطائفية، إنما حطم ومزق مشاريع وفرص وإمكانية مؤاتية لبناء بُلدان وتجارب على أسس سياسية مدنية، تتبنى بعض القيم الحداثوية للعمل العام وتُحسن شروط الحياة بكل شكل. لذلك بالضبط، صار ملايين المواطنين، يملكون حنقاً مريعاً تجاه ذلك الإسلام السياسي الطائفي، الذي حطم آمالهم بحياة أكثر بهاء وهدوء وإمكانية، لولا ما فعلته تلك الخطابية.
خدماتياً، من طرف عرف الناس جيداً أن مُشكلة الفساد والنهب العام والفروق بين الطبقات الاجتماعية غير متعلقة بهوية الحاكمين، سواء كانوا إسلاميين أم لا، مؤمنين أو مدنيين أو حتى "كفرة"، بل أن قضية الفساد مرتبطة بنوعية وهوية الحُكم وهيكلته وشرط توازنه مع المُجتمع. والإسلاميون في أكثر من تجربة أثبتوا أنهم الأقل قدرة على الإطلاق لتحسين شرط الحُكم ذاك. ولأجل ذلك، لم يعد خطابهم حول المظلومية الاجتماعية والطبقية مادة رائجة.
أخيراً، فإن الإسلاميين الذين حاولوا ترويج خطابهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، والاستفادة قدر المُستطاع من سحر وجاذبية هذه الأدوات الحديثة، نجحوا في أمثلة كثيرة، بالذات حينما مكَّنتهم هذه الوسائل من مزج الدعوة الأخلاقية بمنظومة شروح العبادات والنواهي، وترويج الدعوات والطروحات السياسية من جنبات الأمرين ذلكم.
لكن سنوات قليلة مضت، حتى صار لهذا الفضاء مالكوه وملوكه الخاصون، الأخف دماً والأسرع بديهة من الإسلاميين بما لا يُقاس، والأكثر قدرة على تلبية حاجات القواعد الاجتماعية للتسلية والترفيه والجمال والحاجات اليومية الأخرى. لكن أولاً الأكثر أغراء من أي خطابية إسلامية، لأن هذه الأخيرة كانت على الدوام ربيبة القنوط والكآبة والغضب، والناس أساساً كانوا يهرعون إلى وسائل التواصل الاجتماعي هذه، فقط للهروب من كُل تلك الظروف والمناخات، حيث الحياة الواقعة مُتخمة بها جداً.