عراقيون يشاركون في طقوس عاشوراء بمرقد الإمام الحسين في مدينة كربلاء

تعيش النخبة السياسية الشيعية العراقية راهنا ما جربته نظيرتها السورية السُنية طوال أكثر من عشر سنوات كاملة مضت. فبالرغم من جذرية نزعاتها وبنيتها الطائفية، ومع كل الظروف السياسية الضاغطة عليها، إلا أن هذه النخبة السياسية تفشل راهنا في تشكيل تكتل سياسي موحد، قادر على التعبير عن تلك النزعة الطائفية التي يشتركون فيها. 

لا يعود هذا الفشل إلى طبيعة النخبة السياسية الشيعية هذه، فهي تكاد أن تكون نفسها منذ أكثر عقدين من الزمن، منذ أن كانت تقف متراصة في كتلة سياسية طائفية واحدة. ولا حتى إلى الظرف الإقليمي والصراع الجيوسياسي على العراق، الذي بدوره لم يتغير إلا جزئيا طوال هذه السنوات. بل إلى عوامل أكثر تركيبا وعمقا، تتعلق بالمجتمع الشيعي العراقي الأوسع، المبتعد مسافة معقولة عن نزعة التكتل الطائفي "الأقلوي"، سياسيا على الأقل. تلك النزعة التي حدثت وتراكمت وتعمقت طوال عقود كثيرة مضت، منذ تشكل الدولة العراقية في عشرينات القرن المنصرم، وصارت تُظهر ملامح التلاشي راهنا. 

حدثان جوهريان حصلا خلال الفترة الماضية أثبتا تلك الحقيقة. 

فالانتفاضة الشعبية التي شهدتها العاصمة بغداد ومعظم المدن الجنوبية العراقية، إنما كانت بمعنى ما "انتفاضة شيعية"، إلا أنها اتخذت طابعا وخيارات ومطالب سياسية ذات هوية شمولية، تتعلق بشكل الحياة وطبيعة العلاقة بين المجتمع والسلطة في البلاد. كذلك فأنها كانت انتفاضة جذرية ضد النخبة السياسية الشيعية نفسها، بالذات من حيث رفضها للخيارات الطائفية لهذه النخبة السياسية. 

هذان التفصيلان اللذان لا يمكن تخيلهما في الوسطين الكُردي والسُني العراقي. فالهبات الشعبية في مناطق هاتين الجماعتين، إنما تكون غالبا ذات هوية ومطالب خدماتية، وتحذرا جدا لأن تكون جذرية ضد نخبتها وقواها السياسية المعبرة عنها. 

الحدث الآخر كان في السلوك الانتخابي لأبناء الجماعة الشيعية العراقية خلال الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة. فبينما ذهبت أصوات الأكراد والسُنة بأغلبيتها إلى تشكيلين سياسيين فحسب من تكوينات هاتين الجماعتين، فإن الأصوات الشيعية "تشرذمت" بين طيف هائل من الخيارات، ولولا المقاطعة التي أبدتها القوى السياسية "الشيعية" المناهضة للخيارات الطائفية، لكانت التوازنات في الأوساط الشيعي غير هذه تماما، ولربما كان المدنيون من أبناء الطائفة الشيعية يشكلون أغلبية واضحة في البرلمان الجديد. 

بهذا المعنى، يُمكن القول بأن الشيعة العراقيين إنما يعيشون إرهاصات تحولهم من جماعة ذات تمركز حول الهوية الطائفية، إلى جماعة أقرب ما تكون لوعي نفسها كشعب، لا يشعر بالمحرضات والمخاطر التي تدفعهم لأن يكونوا مجرد طائفة. 
ثمة شيء كثير مشابه لحالة السُنة السوريين.

فطوال أكثر من نصف قرن كامل من تاريخ سوريا الحديث، كانت قوى الإسلام السياسي السورية تحاول إقناع السُنة السوريين بالتكتل على شكل بلوك سياسي طائفي، في مواجهة باقي الطوائف والحساسيات السورية، إلا أنها فشلت في ذلك تماما، حتى في ذروة المواجهات وأشكال الاحتقان الطائفية التي شهدتها سوريا طوال العقود الخمسة هذه، بما في ذلك السنوات العشرة الماضية، الأكثر استقطابا. 

فالسُنة السوريون موزعون من طرف على طيف واسع من الخيارات وأشكال وعي الهوية السياسية، لا تشكل فيها النزعة الطائفية هيمنة ومكانة مركزية. بالضبط لأنهم يملكون مستويات عالية من الثقة بالنفس، ومن دون أي شعور بالخطر على الهوية الطائفية ومستقبل هويتها ووجودها كطائفة. فالسُنة السوريون يملكون وعيا داخليا يرى أنهم التشكيلة الأكبر من سكان البلاد، والدولة السورية فعليا هي كيان سُني الهوية، وإن لم تكن سلطته الحاكمة كذلك، لكن المؤسسات والرموز والقضاء والتعليم والفضاء العام أنما سُني تماما. ولأجل كل ذلك، لا يشعرون بحاجة مُلحة للتكتل سياسيا تحت يافطة النزعة الطائفية، وإن كانوا يستبطنون المشاعر الطائفية اجتماعيا وثقافيا. 

شيعة العراق يظهرون اشكالا من ذلك النوع من الوعي راهنا، وإن بإرهاصات صعبة وتقادم بطيء.  

فعقود الهيمنة السياسية والرمزية والعسكرية السُنية عليهم، بالذات في الزمن البعثي، دفعت أغلبية واضحة منهم للاصطفاف سياسيا ككتلة طائفية، بالرغم من أغلبتهم السكانية. وقد كان التعداد الأقلوي لهم كشيعة ضمن الفضاء الإقليمي الكلي "السُني"، دافعا مساعدا لتكريس ذلك. 

تبدد ذلك خلال العقدين الماضين. صارت السلطة السياسية والعسكرية والرمزية في العراق شيعية، تراكم خلال السنوات الماضية أجيال من أبناء الطائفة الشيعية الذين ما عاشوا مرحلة من التهميش والاضطهاد الطائفي، الأمر الذي خلق شعورا جمعيا بالأمان، وتجاوزا لإمكانية القهر السياسي والرمزي مجددا. 

فوق ذلك، فإن القواعد الاجتماعية الشيعية ذاقت مرارة هيمنة القوى السياسية التي لا تملك ولا تسعى للحُكم إلا بخطابات ونزعات طائفية، شاهدت وجربت كيف أن مثل ذلك ليس إلا مصيدة كبرى لمستقبلها العمومي. 

لكن أهم دافع في تبدد النزعة السياسية الطائفية الشيعية في العراق هو "هزيمة السُنة" العراقيين. فمن السياسية إلى الاقتصاد مرورا بخراب المدن وكسر الإرادة، وكل تفصيل آخر، لم يعد السُنة العراقيون ندا سياسيا ورمزيا وعسكريا وحتى سكانيا لنظرائهم الشيعة، سواء داخل العراق أو في المحيط الإقليمي الأوسع، وبزوالهم الرمزي والسياسي والفعلي هذا، زال ما يفترض أن يكون المضاد والمحرض النوعي. 

منذ ثلاثة أشهر، تهول القوى السياسية الشيعية الطائفية من فظاعة عدم تشكيل تكتل سياسي شيعي واحد في العراق، تصرخ وتحذر وتنذر مما قد يصيب الشيعة العراقيين فيما لو ينجزوا ذلك بأسرع وقت، في وقت تبدو القواعد الاجتماعية "الشيعية" غير مبالية بذلك تماما، تقول لنفسها في استغراب: "عن أية مخاطر يتحدث هؤلاء!، ومِن مَن!". 

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.