Iraq and Kurdish flags on texture, partial graphic
حكومة إقليم كردستان رفضت قرار المحكمة الاتحادية العليا.

من بين أمور كثيرة أخرى، فإن قرار المحكمة الاتحادية العراقية العليا الأخير يعني إلغاء تاريخ العراق، أو المعلم والفاعل الأبرز من هذا التاريخ على الأقل، لأنه يُعبد الطريق نحو العودة لحرب أهلية قومية عربية كُردية من جديد، قد لا تقل بمدتها الزمنية وأعداد ضحاياها، ما كلفتها التجارب السابقة من تلك الحروب الأهلية، التي صبغت كامل التاريخ العراقي المعاصر، وما نجا منها تقريباً أحد.

فالقرار الأخير للمحكمة، القاضي بعدم شرعية قانون النفط والغاز الصادر عن برلمان إقليم كردستان قبل 15 عاماً، والحكم على سلطات الإقليم بتسليم كافة المستخرجات النفطية إلى السُلطة المركزية، وخضوع مؤسسات الإقليم تفصيلياً لسلطات وأنظمة ومراقبة شخصيات ومؤسسات الحُكم المركزي، يعني فعلياً محق الفدرالية، وإفراغاها من كامل مضامينها الفعلية.

الفدرالية التي كانت تعني في جوهرها المُستبطن وضع حلٍ ناجز للمسألة الكُردية في العراق، عبر دستور عام 2005، القائل إن العراق مؤلف بالأساس من أبناء القوميتين العربية والكُردية، وأن نظامه السياسي مؤسَس على الديمقراطية والاتحاد الحر بين هذين المكونين، المعبَّر عنهما على الأرض بإقليم كردستان والسُلطة المركزية.

لكن لماذا يفتح هذا القرار بوابة رحبة نحو الحرب الأهلية؟!.

لأنه يشيد قلعة صلبة لاستعصاء العلاقة بين هذين الشريكين في البلاد، وتالياً العودة إلى اللحظة التأسيسية للدولة العراقية.  فهو من طرف قطعي وبات، أي مثل باقي القرارات والتوجهات التاريخية التي فتحت الحروب الأهلية في هذا البلد، إذ لا مجال فيه لأية تداولية في شأن أي تفاصيل منه.

كذلك لأن كُل شيء فيه هو حاصل جمع الاستخدام السياسي مع الاستقواء العددي والعسكري، وخالٍ تماماً من أي شيء قانوني وتشريعي قط.

هل من حربٍ أهلية بدأت إلا لأسباب من مثل تلك!!.

فالقرار صدر فجأة، في دعوة قضائية كانت قد رُفعت منذ عشر سنوات كاملة، وفي ظلال أقسى صراع سياسي في البلاد، جذره إجبار الأكراد على أن لا يكونوا فاعلين في تشكيل الحكومة القادمة.

لذا يحق التساؤل: ماذا كانت تفعل المحكمة الاتحادية طوال هذه السنوات!، ولماذا لم تجتمع لمدة ساعتين فقط، كما فعلت خلال اليومين الماضيين. ولماذا ترافق هذا القرار مع لحظة الضغوط الإقليمية الإيرانية والتركية على الإقليم ليتنازل لباقي القوى السياسية العراقية، المنهزمة في الانتخابات الأخيرة!

فوق ذلك، ماذا يعني الإجماع العربي داخل هيئة قضاة المحكمة على اتخاذ القرار، مقابل رفض القاضيين الكُرديين للقرار!. هل من بُعد سياسي وصراع قومي وإقليمي بارد مناهض للأكراد أكثر من ذلك!

الأهم من كل ذلك، هو تهافت منطق المحكمة في شرحها وتفسيرها لقرارها، المخالف تماماً لجوهر المادة 112 من الدستور العراقي، الذي ينص حرفياً على شراكة الإقليم مع السُلطة المركزية في ملف النفط والغاز "تقوم الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة معا برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز".

كذلك في مناقضتها التامة للمادة 115 من الدستور العراقي، التي تنص حرفياً وتفصيلاً على سمو وأولية القوانين التي يقرها الإقليم على نظيرتها المركزية، ما لم تكن تخص قطاعات النقد والدفاع والسياسة الخارجية، التي هي السلطات الحصرية الوحيدة للسلطة المركزية "كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم والصلاحيات الأخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والأقاليم تكون الأولوية فيها لقانون الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم في حالة الخلاف بينهما ".

كل تلك اللوحة ترسم استعصاء أمام الطرف الكُردي: فإما التنازل، وتالياً العودة فعلياً إلى حُكم الدولة المركزية، حيث أن المركزية الاقتصادية راهناً بالنسبة للإقليم أكثر فظاعة وجبروتاً من مركزية الحزب والعسكر والأجهزة الأمنية التي كانت طوال عقودٍ كثيرة مضت. أو رفض القرار، وتالياً الخضوع لابتزاز مديد، ومن مختلف الأطراف، التي قد تختلف في وعلى كُل شيء، لكنها جميعاً متلهفة لإظهار إقليم كردستان كطرف معترض على شرعية مؤسسات الدولة العراقية.

كان هذا الاستعصاء على الدوام هو البذرة التي نبتت على جنباتها الحروب الأهلية الكُردية العربية في العراق، والتي أخذت في الكثير من ملامحها شكل صراع بين الحكومات والجيوش المركزية والحركة التحررية الكُردية، لكنها موضوعياً كانت حرباً أهلية كردية عربية بكل تفاصيل ما قد يعنيه ذلك.

فإصرار الملك فيصل الأول ومن قبله البرلمان العراقي على إلحاق الولايات الكُردية بمملكته العراقية الحديثة في سنوات تأسيسها (1916-1921)، ولد ثورتي الشيخ محمود الحفيد، اللتين عبرهما تعرف الأكراد أول مرة على معنى الدولة المركزية، التي تمثلت عبر قصف قراهم بالطيران العسكري.

في ثلاثينات القرن الماضي أيضا، وحينما رفضت القوى الراديكالية العراقية أي نوع من الشراكة القومية مع نظيرتها الكُردية، حيث كانت الراديكاليات العراقية تنهل من نظيرتها الأوربية، النازية والفاشية، وقتئذ اندلعت ثورة بارزان الأولى (1931-1933).

بعدها بثلاثين عاماً، عاد الكفاح المُسلح، عبر ثورة أيلول الشهيرة عام 1961، لأن استعصاء شبيهاً كان يسعى الرئيس عبد الكريم قاسم لفرضه على الأكراد، معتبراً نفسه زعيماً أوحداً على البلاد، وكان يقبل الأكراد فقط كزعماء أهليين، يقودون عشائرهم لمباركة حُكمه فحسب.

في زمن حُكم القوميين (1963-1968)، القصير زمناً والفظيع أثراً، كان العراق فيلم رُعب كاملٍ، فقط لأنه كان ثمة إيديولوجيا متخمة بالتعنت، لا تفرخ إلا الإلغاء القومي والخطابات العنصرية، فغرق العراق في خمس سنوات من الحرب الأهلية الأليمة.

البعث (1968-2003) الذي أراد أن يكون أكثر براغماتية، اعترف ظاهراً بشراكة ما مع أبناء القومية الكُردية، لكنه استمات في سبيل صناعة "أكراده"، موالين ومعبرين عن مصالحه وتطلعاته، ولا يمتّون بصلة لمصالح وخيارات الأكراد بشيء. لعشرين سنة كاملة رقص البعثيون العراقيون على تلك المكاذبة، وحينما اكتشفوا خواء مضامينها عام 1988، وولاء الأكراد المطلق لمصالحهم بتشييد شراكة عربية كردية كاملة ومتساوية في العراق، قصفهم البعث بالكيماوي.

المحكمة الاتحادية العراقية العليا، ومن يقف وراءها، تستند اليوم إلى فكرتين قاتلين:

تقول الأولى إن الشرعية هي للأقوى، سواء أكان الأقوى عسكرياً أو عددياً ديموغرافياً أو حتى تشريعياً وقضائياً. وهذا القوي قادر وقابل لفرض إرادته على الآخرين، الذين لا بد أن يخضعوا في المحصلة حسب موازين القوة.

أما الفكرة الثانية هي إمكانية استرجاع ما خسره مركزيو العراق –مُلاكه- خلال المرحلة الأميركية لحُكم (2003-2006)، التي منحت غير المركزيين بعض الحقوق وأشكال المساواة مع هؤلاء المركزيين، تلك الحقوق وأشكال المساواة التي جرحت خواطر وخيالات هؤلاء المركزيين.

الفكرتان جُربتا سابقاً كثيراً، وما أنتجتا إلا شيئين: الخراب والدماء.  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.