Iran-backed militia fighters march in central Baghdad, Iraq, Tuesday, June 29, 2021.  Iraqi Shiite militias are showing a…
إياد العنبر: "اللادولة في العراق لا تنحصر ملامحها في سيطرة المليشيات وغياب القانون وسيطرة المافيات السياسية".

عندما تغيب ملامح الدولة عن حياة مجتمع ما، نعود إلى مقولة "توماس هوبز" في وصف حالة الطبيعة، أي حالة ما قبل الدولة، التي وصفها بأنّها "حَربُ الجميعِ ضِدَّ الجميع"، إذ في حالة انعدام وجود الدولة -كما يقول هوبز- أو إن لم تكن قوية بما يكفي لِتوفير حمايتنا، قد يلجأ كلُّ فرد إلى قوّته الخاصة بصورةٍ مشروعة وبأسلوبه الخاص بغية حماية نفسه مِن الآخرين. تلك الحالة هي وصف افتراضي لمجتمعات ما قبل الدولة، لكن المواطن العراقي، وفي الألفية الثالثة مِن تاريخ البشرية، يعيشها على أرض الواقع في كيان سياسي يحمل اسم دولة العراق!  

أغلب ظواهر العنف والفوضى التي يعيشها العراق كأنّما عائدة مِن مقابر ما قبل الدولة، فالنزعات العشائرية التي تستعرض بأسلحتها المتوسطة والخفيفة باتت خبرا عاديا تتناقله وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، وغياب تام لِتطبيق القانون في مفاصل الحياة العامة، وغياب أبسط متطلبات تنظيم المجال العام. هل يمكن لأيّ شخص يقرأ المقال مِن خارج العراق، أن يتخيّل أنَّ المنطقة الوحيدة التي تعمل فيها إشارات المرور لِتنظيم سير المركبات هي المنطقة الخضراء وشوارع قليلة جدّاً في بغداد؟! 

عندما تعيش في ظلّ اللادولة، لا تبقى ملامح لِلمستقبل لك أو لِلأجيال اللاحقة، ولذلك تبقى تحنّ إلى الماضي عسى أن تجد عزاء لحالة التردي والنكوص نحو الفوضى، ومحنة العراقيين مع لامبالاة الطبقة السياسية بضياع ملامح الدولة، وأنّهم وصلوا لمرحلة اليأس مِن استعادة الدولة؛ لأنَّ ليس من المنطقي أن يكون بناء الدولة واستعادة هيبتها وسيادتها على يد مَن عملوا على قتلها وتمزيق بقايا ركائزها. 

لم تحترف الطبقة السياسية وزعامتها في العراق إلا في ترسيخ ثلاث ركائز قضت على روح الدولة وأصابت كيانها. الركيزة الأولى كانت سياسة تغييب مفهوم الأمّة العراقية والمواطن العراقي، واستبدلتها بمفاهيم حقوق الطائفة والقومية والمتاجرة بهذا العنوان في كتابة الدستور وتوزيع المناصب العليا. أمّا الثانية، فهي تحويل موارد الدولة ومؤسساتها إلى اقطاعيات سياسية لهذا الزعيم السياسي أو لِذلك الحزب، وتمَّ شرعنة الفساد السياسي والمالي والإداري، ومن ثمَّ باتت موارد الدولة تجيَّر لِصالح البقاء في السلطة وإدامة النفوذ. والركيزة الثالثة التي أصابات قلبَ الدولة هي إلغاء كل ما يتعلّق بمفاهيم سيادة الدولة، وباتت التدخلات الخارجية والإقليمية مبررَّة بدعاوى الدفاع عن هذا المكوّن الطائفي أو القومي ولحماية حقوقه. 

بالمقابل، عملت الحكومات المتعاقبة على تسهيل مهمّة قوى اللادولة في التغوّل على الدولة والمجتمع. إذ بدأت بمشروع هيمنة حزب رئيس الوزراء على المراكز المهمّة في إدارة الدولة، مِن دون مراعاة لمعايير الكفاءة، فالمبدأ الذي رسخه رؤساء الحكومات السابقة هو الولاء وتشكيل حاشية مقرَّبة تتولّى زمام القيادة، ولا مكان لمعيارِ الكفاءة والمهنيّة. وفيما بعد أصبحت مهمّة الحكومة توزيع مغانم السلطة على الفرقاء السياسيين لِضمان بقائها بالمنصب، وبالنتيجة بات مَن يأتي بالحكومات هي زعامات قوى اللادولة التي أصبحت تبحث عن حكومةٍ وظيفتها الأساس عدم المساس بمغذيّات بقاء قوّة ونفوذ الجماعات الموازية لِلدولة.  

اللادولة في العراق لا تنحصر ملامحها في سيطرة المليشيات وغياب القانون وسيطرة المافيات السياسية، وإنّما يتمّ تقزيم الدولة عندما يبدأ الصراع بين زعامات سياسية تريد تمركز القرار السياسي في يدها وإقصاء خصومها، ليس بالطرق الديمقراطية، وإنّما بالاستئثار بمراكز السلطة والنفوذ، وبالنتيجة كانت الضحيّة الأولى هي الدولة وعملية التحوّل نحو الديمقراطية. لذلك كانت أبرز نتائج الصراعات السياسية، ديموقراطية متسربلة بالدَّم، لا انتقالاً سلساً نموذجياً نحو بناء دولة المؤسسات. 

تغوّل قوى اللادولة سببه نرجسية الزعامات السياسية، التي تعمل على تقزيم الدولة بصفقاتها التي تلغي كلَّ الاعتبارات السياسية لِلعملية الانتخابية، ولِدور المؤسسات السياسية وحتّى التوقيتات الدستورية. فالدولة تعمل على وفق مبدأ المركزية التي تعني تركيز القرار السياسي في هيئات محدَّدة لا في شخص الزعيم السياسي. والانتخابات هي مدخل لِشرعية نظام ديمقراطيّ يعتمد النقاش المفتوح داخل الهيئات لِتحديد السياسة وتحديد القرار وموازنة المصالح المتنافرة في المجتمع، وليس كسر الإرادات بين الفرقاء السياسيين، أو فرض إرادات مِن قبل القوى التي خسرت مقاعدها في الانتخابات أو التي تريد البقاء للمشاركة في الحكومة عن طريق الثلث المعطّل لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية.  

ويغذّي السياسيون بسذاجة مقوّمات اللادولة، عندما يكون معيار براءة الخصوم السياسية مِن تهم الإرهاب أو الفساد ليس قرارات السلطة القضائية، بل الوساطات الخارجية أو مصالح التحالف السياسية، التي يمكن عن طريقها أن يتحوّل المتهم بالتآمر مع الجماعات الإرهابية والمطلوب إلى العدالة والذي كان يرفع شعار (قادمون يا بغداد)، بريئاً مِن دون أن يُعرض على القضاء أو يُقدّم إلى المحاكمة!  

تغوّل قوى اللادولة، حتّى وإن كان الآن في مصلحةِ الفرقاء السياسيين المتصارعين على توزيع الموارد السياسية والمادية والرمزية، ويزدهر في ظلّ تخاذل الحكومات عن القيام بوظائفها السيادية، لكنّه في النتيجة سيكون السبب الرئيس في نهاية هذا النظام السياسي. فتوسّع جماعات الفقر والفئات المهمَّشة والهامشية الميّالة إلى العنف وتسوية التظلمات بالسلاح، كلُّ ذلك قد يدفع إلى الاعتقاد بأنَّ غياب الدولة هو فرصة حقيقية للاقتصاص مِن ظالميها في نهاية المطاف، سواء أكان ذلك بجهود داخلية أو بدعم خارجي. 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.