صورة تعبيرية، نهر دجلة
نهر دجلة

اختصر المفكّر الألماني كارل شميث (ت 1985) الخاصية الجوهرية التي تُميّز العمل السياسيَ بأنّها تقوم على أساس "التمييز بين الصديق والعدو"، وهو تمييز يحدد شكلَ السياسة ومضمونها.

والتمييز الذي يحدده كارل شميث يختلف تماماً عن المقولة التي يتحجج بها الكثير مِن السياسيين: «لا عداوات ولا صداقات دائمة، وإنما مصالح دائمة». فالاختلاف في المعايير التي تحدد الصديقَ أو العدو، ومِن ثمَّ الأثر الذي يترتب على الاعتبارات السياسية التي تحدد مَن هو «العدو» ومَن هو «الصديق»، لأنَّ نتيجة التمييز تكون إعلان الحرب أو استخدام كلّ مقدرات الدولة لمواجهة العدو.

قد تكون قاعدة تحديد العدو والصديق من بديهيات العمل السياسي، ولا يمكن الوقف في تحليلها طويلاً.

بيد أن التعمّد في تغيبها من قبل الطبقة السياسية التي تحكم العراق، تجعل موضوع التمييز خاضع لمزاجات الزعامات السياسية، أكثر مِن اعتماده على قواعد تعتمد في الخطاب والمواقف السياسية، لذلك تجد مَن يُتهم بـ(الإرهابي) و(العميل لِلأجنبي)، أو مَن هو مشمول بإجراءات المسألة والعدالة، شريكاً أو حَليفاً بعد فترة وجيزة وتسقط عنه جميع التهم بالعمالة والتخوين، حتّى وإن كانت مواقع الإنترنت تحتفظ بتصريحاته وبمواقفه التي يعلن فيها العداء لِلدولة وليس لِلطبقة السياسية الحاكمة فقط!

يختلف السياسيون كثيراً في العراق، وينشغل الرأي العام وتضج وسائل التواصل الاجتماعي بسجالات بشأن خلافاتهم، ويبقى الرأي العام منقسماً بشأن خلافاتهم التي ترسخ التصدع الاجتماعي.

ولكنَّهم يعودون ويجلسون إلى طاولة واحدة، وبالتأكيد لا يجمعهم حُبّ الوطن ولا البحث عن خلاص لمأزق سياسي، وإنّما يجلسون ليتقاسموا مغانمَ السلطة وحصصهم مِن الوزارات. ويبقى المواطن حائراً على ماذا اختلفوا منذ البداية، وكيف صدقنا أنّهم ممكن أن يختلفوا؟

والخلافات السياسية في العراق هي فرصة لِلتسقيط السياسي، وتبدأ بإحالة الملفات إلى القضاء، التي ربما تكون التورّط بملفات الفساد أو هدر المال العام، أو حتى اتهامات بقضايا تتعلّق بالإرهاب.

ولكنّها تنتهي بوساطات سياسية ويتم حسم الموضوع بالتراضي، وبين ليلةٍ وضحاها تسقط جميع التهم وتغلق جميع الملفات! ويعود مَن كان متهماً بقضايا فساد أو إرهاب بمشهد احتفالي محمولاً على الأكتاف وتهتف له الجماهير (هلا بيك هلا.. وبجيتك هلا).

كلّ هذا يحدث، لأنَّ الطبقةَ السياسية وزعامتها لا تميّز بين مَن يعلن العداءَ لِلدولة، وبين من يعارض العملية السياسية. ولذلك يبقى الموضوع مرتهناً بمزاجيتها ومصالحها في المسامحة والعفو عن مَن يسيء إلى الدولة والمجتمع! فالدولة تم إلغاؤها تماماً وبات العفو والصفح مرتهناً بحسابات سياسية لا تتعلق بتحقيق المصالحة السياسية والمجتمعية، وإنما بمزاج زعيم سياسي أو رئيس الحكومة الذي يريد استخدام ملفات الاتهام أو إسقطاها حسب مصالحه أو تحت دافع إحراج الخصوم السياسيين أو التأثير عليهم.

عندما تعمل الطبقةُ السياسية على إلغاء أو تقزيم الدولة وقانونها ومؤسساتها، وتكون الإرادات السياسية لِلزعامات هي الحاكمة، تكون النتيجة طبيعية بأن مَن يتوافق ويتصالح مع هذا الزعيم السياسي أو ذاك ويكون تحت رعايته، ممكن أن تسقط عنه جميع التهم، حتّى لو كان يتغنى ويمجّد بدكتاتورية النظام السابق، أو يهتف ويدعو بالنصرِ لِلجماعات الإرهابية على القوات المسلّحة العراقية!

حتّى على مستوى العلاقات الخارجية، يمكن القول أن العراق هو الدولة الوحيدة في العالَم التي لا تضع معايير واضحة ومحددة لمن هي الدولة الصديقة، ومَن الدولة العدو! فالموضوع خاضع لمزاج الحكومات أكثر مِن مبادئ واضحة تقوم على أساس تحديد مصلحة وسيادة الدولة العراقية. إذ في 2009 وبعد تفجيرات إرهابية استهدفت بغداد، اتهم نوري المالكي -رئيس الوزراء آنذاك- سوريا بدعم وإيواء الجماعات التي نفذت تلك العملية، وطالب مجلس الأمن الدولي بالتحقيق بالتفجيرات. لكنّه في 2010 أرسل وفداً رسمياً إلى سوريا ليؤكد على عمق العلاقة الاستراتيجية بين دمشق وبغداد التي (لا تؤثّر عليها التصريحات المتبادلة بين البلدين في مرحلة التوتر السابقة). وقد وجدنا العراق فيما بعد البلد الداعم لِلنظام السوريّ بعد أحداث 2011 في سوريا!

وكذلك علاقتنا مع تركيا، إذ رغم تفاقم المشاكل والانتهاكات التركية لِسيادة العراق وأمنه في مناطق شمال العراق، والاستمرار بتهديد العراق بالجفاف والتصحّر بسبب التجاوز على حصّة العراق من المياه، إلا أن كل تلك الأعمال لم تتعاطَ معها الحكومة العراقية بأنها أعمال تصدر مِن دولة عدوّة ولا يمكن عدّها دولةً صديقة! كونها تستهدف سيادة الدولة وأمنها الاقتصادي. إذ يبدو أن الموضوع خاضع لاعتبارات ومصالح تعلو على اعتبار مصلحة الدولة.

وعدم التمييز بين مَن هو العدو ومَن هو الصديق على أساس معايير الولاء والبراء لِلدولة وليس لِزعيم سياسي أو حكومة معينة، فهو يعني دقّ مسمار آخر في نعش الدولة. الدولة التي ضيّعت جميعَ ملامحها طبقةٌ سياسيةٌ رسّخت الفوضى والفساد وألغت تماماً كلَّ مقومات سيادة القانون وحكم المؤسسات. إذ لم تبدع هذه النخب الحاكمة في شيء إلّا ضياع كلّ الفرص التي يمكن لها أن تتجاوز أمراض المرحلة الانتقالية والتوجّه نحو بناء النظام السياسي الديمقراطي.

لذلك لم يعد مستغرباً بأنَّ مَن لا يعرف أن السياسية تقوم على مبدأ التمييز بين العدو والصديق، لا يمكن له أن يعرف معنى الدولة وكيفية إدارتها وفق مبدأ المصلحة العليا وليس مصالح الزعماء السياسيين أو مزاج الحكومات.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.