مجلس النواب العراقي

تصر الطبقة الحاكمة في العراق إصرارا عجيبا غريبا على عدم مغادرة تصرفات المراهقة السياسية وانعكاساتها على النظام السياسي والدولة بوجه عام. إذ يبدو أن تسعة عشر عاما لم تكن كافية لنضوج الطبقة السياسية والارتقاء بسلوكها نحو تعلم التسويات السياسية بدلا من المهاترات السياسية التي بلغت أعلى درجات الاحترافية، لكنها لم تنتج لنا إلا الخراب والدمار وغياب المحاسبة وضياع هيبة الدولة.

كان يفترض بالتقادم في ممارسة العمل السياسي ضمن عملية التحول الديمقراطي أن يؤدي على تعلم التسويات السياسية، إذ تفترض المقاربات النظرية للانتقال الديمقراطي، من الناحية العملية بأن التطبيقات الديمقراطية قد تنبعث من مساومات يجري التوصل إليها من أحزاب لا خبرة لها وليست ذات التزام فلسفي بالديمقراطية. 

ويبدأ التحول باتجاه ترسيخ الديمقراطية -مع افتراض عدم وجود ديمقراطيين- من نقطة أن أطراف المباراة السياسية يبتغون زيادة سلطتهم وقوتهم المادية إلى الحد الأعلى فيتجهون نحو استقطاب المواقف السياسية والاجتماعية. من هنا يكونون مجبرين على اختيار أنسب الوسائل لتحقيق غاياتهم، فتجري مناصرة الديمقراطية تكتيكيا، كوسيلة للوصول إلى غايات أخرى. ثم تأتي مرحلة القرار وفيها يمر الخصوم الرئيسيون بمأزق لا يخرج منه أحدهم فائزا، فيتفاوضون للوصول إلى حلول وسطى. ويجري في هذه المرحلة الاتفاق على القواعد الديمقراطية وعلى التعويضات المختلفة التي يحصل عليها كل طرف بالمقابل.

أما في المرحلة الثالثة، فإن تكرار لعب المباراة الديمقراطية يحدث تعودا، كما يفترض أن يحدث بمرور الزمن مماهاة إيجابية لدى معظم المواطنين مع القواعد الديمقراطية. ولذلك يفترض أن بناء الديمقراطية يمكن أن ينفذه غير الديمقراطيين الذين يأملون في كسب كل شيء، ولكن هم يتعلمون من خلال التجربة الأليمة والمأزق الذي لا مخرج منه أن إمكانية كسب شيء هي أفضل من إمكانية كسب لا شيء على الإطلاق، بل وخسارة كل شيء.

إن الذي يجري في العراق الآن، هو غياب تام لتلك الفرضية، فبعد خمس دورات انتخابية، وما تبعها مِن مفاوضات لتشكيل الحكومات، لم نتعلم أن التسويات السياسية يجب أن تكون حاضرة في الأزمات! وبدلا من ذلك، باتت خيارات اللجوء إلى العنف أو التهديد بعدم الاستقرار السياسي حاضرة وبقوة. فالعملية السياسية في العراق محكومة بثنائية السلاح والسياسة. وأصبح التلويح بالسلاح الموازي لسلاح الدولة حاضرا في خطابات التصعيد السياسي.

والمفارقة في العراق أن النظام السياسي بدلا من أن يعمل على ترسيخ علاقته بالجمهور كلما كان هناك تقادم في الانتخابات، فإنه (أي النظام السياسي هذا) قد أصبح مرتهنا لإرادات خارج التصنيف السياسي! إذ يمكن وصفها بالمافيات، وشخصيات هي أقرب إلى رجال العصابات منها إلى رجالات السياسة! لأن ضعف الحكومات جعل باب التكالب على مغانم الدولة مفتوحا أمام الجميع، ونهب موارد الدولة وثرواتها أصبح متاحا أمام جماعات من أصحاب النفوذ داخل الحكومة وليس بالضرورة أن يكون ذلك النفوذ مرتهنا بحزب أو عمل سياسي.

قد يكون من المستغرب عدم حضور التسويات السياسية، على اعتبار أن الفرقاء السياسيين جلسوا وتفاوضوا أكثر من مرة، فلماذا هي غائبة اليوم؟

السبب هو انهم جلسوا على أساس تقاسم مغانم السلطة ولم يتعاملوا مع التسوية السياسية باعتبارها تقوم على مبدأ إحراز نجاح في قضية معينة، مقابل إقناع أو إجبار الخصم على التسليم لها، وبالنتيجة يقبل الطرفان بالتسوية كونها تحقق مصلحة عليا ولا تتعارض مع مصلحة خاصة، وتكون المصلحة بالقبول بما يمكن تحصيله دون دفع أثمان سياسية فادحة.

كما أن أزمة الثقة بين الفرقاء السياسيين لم تعط فرصة للتسويات السياسية في أن تكون هي الحاكمة في فض النزاعات وإدارة الأزمات في البلاد، ولذلك بقيت عقد الإلغاء والخوف من الآخر هاجسا يسيطر على مخيلة وسلوك الطبقة السياسية، وانعكس في وضع ضمانات وكوابح جعلت من المستحيل أن تنفرد جهة باتخاذ قرار دون استرضاء الجهات الأخرى، حتى أصبحت هذه القيود والكوابح تسري على العملية السياسية وعلى القرارات الحكومية.

ثقافة التسويات السياسية يمكن أن تنشأ وتتطور في ممارسة العمل السياسي، بيد أن الذي يحصل في العراق هو بعيد كل البُعد عن السياسة وارتباطاتها بمفهوم الصالح العام. فالمزاجات الشخصية وتراكمات انعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين، والخضوع للتدخلات الخارجية، لا يمكن لها أن تنتج مجالا سياسيا يتم التعامل فيه على أساس التسويات.

ولذلك، الأعراف السياسية التي تأسست عليها العملية السياسية في العراق، والتي يتبجح بها دعاة التوافقية، لم تكن التسويات السياسية حاضرة فيها، أو بعبارة أدق كانت التسويات تجري برعاية خارجية ولم تكن تعبر عن إرادة القوى السياسية الداخلية. والاحتكام إلى الاستحقاق الانتخابي لم يكن حاضرا في تحمل مسؤولية تشكيل الحكومة، وإنما كان حضوره يقتصر فقط على تقاسم مغانم الحكم وتوزيعها بين القوى السياسية الفائزة بعنوان وزارات أو مناصب عليا في الدولة.

والدستور، الذي يفترض أنه ناظم للانتقالات السياسية في العراق، بدلا من أن يتم الاحتكام إليه في التسويات السياسية، باعتباره الوثيقة القانونية الأعلى في الدولة، هو اليوم بحكم المعطل بعد كثرة التجاوزات على نصوصه وتوقيتاته. والدستور الذي يفقد قيمته القانونية والسياسية، يصبح ورقة للاحتجاج السياسي وليس وثيقة عليا حاكمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع والنظام ومؤسساته السياسية.

من الصعب جدا إقناع الطبقة السياسية في العراق بضرورة التمييز بين التسويات السياسية وبين الابتزاز السياسي الذي تعودوا عليه طوال السنوات الماضية، لاسيما بعد أن أصبح هو السلوك السياسي الذي يتحكم في المنظومة السياسية التي تخضع لنظام الصفقات وتكون مرتهنة إلى موافقة الأقلية وعرضة لابتزازها السياسي. وهو المبدأ الذي جعل الديمقراطية التوافقية مشوهة من حيث الفكرة والتطبيق، وجلب لنا كل مساوئ الديمقراطيات من تقييد وتعطيل، وغياب مبدأ المحاسبة والمراقبة على الأداء السياسي وغياب المنجز الاقتصادي والخدمي الذي يحلم به المواطن العراقي.

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.