الحديث عن إمكانية الحل القريب لأزمة السلطة في العراق أشبه بأحجية تحتاج الى عرافين لفكفكة رموزها التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، وبات التعقيد يفرض على الجميع، داخليا وخارجيا، التعامل مع الانسداد كواقع سياسي يمكن التعايش معه لمدة غير محدودة، رغم ما يحمله هذا الجمود من مخاطر الاشتباك أو الاحتكاكات الخشنة،
ولكن يبدو حتى الآن أن القوى المتصارعة لا تزال تمسك نوعا ما بمستوى الصراع، و تتلافى انتقاله إلى الشارع الذي قد يتحول لفوضى تؤدي إلى العنف.
ولكن هذا الانسداد واستمراره، وإن كان مسيطرا على مساره "حتى الآن"، إلا أنه في النهاية يؤكد ما يحدث منذ انتفاضة تشرين 2019، ومرورا بنتائج الانتخابات وصولا إلى شبه انعدام فرص التسوية بين الكتلة البرلمانية خصوصا الشيعية.
فالأزمة لم تعد محصورة فقط بإعادة ترتيب السلطة داخل ما كان يعرف بـ "البيوتات السياسية"، بل الأزمة الجوهرية هي في النظام، ومهما حاولت طبقة 2003 السياسية تجنب هذا الواقع حتى لا تخسر مواقعها ومكاسبها، إلا أن مكابَرتَها وصلت أيضا إلى حائط مسدود.
في المسألة العراقية يرتبط الداخل بالخارج، فالأول يشهد انكماشا في الأداء الحكومي والتشريعي والسياسي، إضافة إلى تشظٍّ يصعب فيه الوصول إلى نقطة تقاطعات تجمع المنقسمين أفقيا وعموديا.
أما الخارج فهو في مرحلة خلط أوراق إقليمية ودولية، ستترك تأثيراتها على العراق المتشظي أو المتماسك، فقد تستعد الدول الكبرى العالمية والدول المؤثرة إقليميا إلى تحديد خياراتها الخاصة والعامة إقليما ودوليا، والتي قد تستخدم العراق إما في مناكفاتها أو تسوياتها، ولكن مع الانسداد العراقي الداخلي ستُفرَض مصلحة الخارج على الداخل، ما يعني أنه حتى لو حلت وانفرجت في الخارج فإن الداخل العراقي سيبقى مسدودا، حيث يمكن القول إن العطب العراقي بات ذاتيا.
وفرَض غزو أوكرانيا وفشلُ التوصل إلى اتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة، حتى الآن، إعادة تموضعات دولية سياسية واستراتيجية واقتصادية، والتي تحولت إلى جوهر الصراع مع موسكو.
هذه التغيرات الثلاثية دفعت بالإدارة الأميركية الى الحد من ميوعتها في التعامل مع قضايا المنطقة، وإعادة قراءة جميع مواقفها، ما انعكس مباشرة على الاتفاق النووي مع إيران، الذي كان قاب قوسين أو أدنى من التوقيع قبل أن يشن فلادمير بوتين مغامرته الأوكرانية.
فهذه المغامرة كشفت حجم حاجة العالم إلى موارد الطاقة في دول الخليج العربي التي انتهزت لحظة الحاجة الأميركية والغربية لثرواتها، فذهبت إلى عملية مقايضة بين الثروة والمصالح.
ويبدو أن تلك الدول نجحت في انتزاع اعتراف أميركي غربي بمصالحها، وهذه لم تزل فرصة للعراق سانحة إذا أراد أن يكون جزءا من تحولات عاملية كبرى، لا تفرِض عليه تموضعا أو انتقالا كاملا من معسكر إلى آخر، فهو نفسه غير قادر على التوجه شرقا وليست لديه الإمكانيات للالتحاق غربا، ولكن أمامه فرصة للاستفادة من هذه المنافسة بين الدول الكبرى الفاعلة التي اعترفت بضرورة أقلمة بعض السياسات الدولية.
إذا كان الرئيس الأميركي في طريقه إلى المنطقة، ليعيد المياه إلى مجاريها مع حلفائه العرب التقليديين والبحث معهم في المصالح المشتركة، مع استمرار الحوار الإيراني السعودي في بغداد، فإن بقاء العراق، أقله اقتصاديا، خارج المتحولات الكبرى جريمة جديدة ترتكبها الطبقة السياسية بحق الدولة والشعب.
بالأخص مع احتمال عقد الرئيس الأميركي الذي يعرف العراق جيدا واعتاد على زيارته، عدة قمم وهو يحمل في جعبته محفزات لكل دول المنطقة من أجل رفع إنتاجها من النفط، والذي لن يكون من دون مقابل سياسي.
وبالتالي فإن بقاء الانسداد وعدم التوصل إلى تسوية والنزاع بين مؤسسات الدولة حول الصلاحيات والخلافات ما بين السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية، سيجعل التفاهم مع بغداد شبه مستحيل وسيضيع آخر الفرص.