عنصر أمن عراقي يقف بالقرب من مسجد الإمام موسى الكاظم في بغداد- صورة تعبيرية
عنصر أمن عراقي يقف بالقرب من مسجد الإمام موسى الكاظم في بغداد- صورة تعبيرية

مظاهر انعدام أو تآكل وجود الدولة في معظم أرجاء المنطقة الناطقة بالعربية من الأمور التي لا يمكن أن تخطئها العين. وباستثناء قلة قليلة من الدول التي لا تزال متماسكة، وإن بصعوبة شديدة، فإن حالة التفكك والتحلل تكاد تكون هي القاعدة.

وليس العجز عن تشكيل الحكومات أو عدم كفاءة الموجود منها، سوى مظهر واحد وإن لم يكن الوحيد، لكنه تعبير فاقع عن أن هذه المجتمعات أَميَلُ إلى العيش في ظروف ما قبل الدولة، حيث تسود الولاءات الدينية والقبلية والعرقية والمناطقية... الخ.

ويمكن أن نرى ذلك بوضوح في حالة ثلاث دول على الأقل هي ليبيا والعراق ولبنان. هذا لا يعني أن باقي الدول خالية تماما من ذلك، فالاختلاف هنا ربما هو في الدرجة وليس في النوع.

ومن المظاهر الأخرى لتحلل الدولة هو هذا التفلّت في الخطاب والسلوك العام. فمن السهل أن تجد مفتيا في دولة أو سلطنة ما يأخذ مثلا مكان وزارة الخارجية فيصرح بما يشاء في الشؤون الدولية، أو رجل دين يقرر كيف يمكن تشكيل حكومة في هذا البلد أو ذاك ويضع فيتو هنا وهناك، وميليشيات مسلحة وجماعات تسرح وتمرح من دون ضابط أو رادع. ومجتمعات هي كل يوم في شأن ومحامون لا عمل لهم سوى رفع الدعاوى ضد المخالفين و"مزدري الأديان"!

لقد فشلت عقود من تعليم مناهج التربية الوطنية في المدارس وفي ترديد النشيد الوطني والالتفاف حول العَلَمْ في خلق مواطنين ينتمون إلى دولة. فعند أقرب أزمة يعود كل شخص إلى الانتظام إما في صفوف دينه أو طائفته أو قبيلته أو منطقته.. الخ، وينسى تماما أن هناك دولة.

من باب الإنصاف ينبغي أن نشير إلى أن معظم الدول العربية لا يزيد عمرها عن مئة عام، وهي فترة قليلة نسبيا، ولا تتيح مجال كاف لخلق مؤسسات دولة راسخة.

لكن المشكلة ليست في الزمن فقط وإنما في الثقافة السائدة في المنطقة والتي هي معادية بالأساس لفكرة الدولة الوطنية. وأعني بذلك الثقافة الدينية والثقافة القومية. فكلاهما يدعوان إلى تجاوز الدولة والعمل ضدها إن لزم الأمر. أتباع الدين يتطلعون إلى إنشاء الخلافة الإسلامية وأتباع القومية يريدون دولة عربية واحدة. وقد عاشت أجيال عربية عديدة على وقع شعارات وأحلام وأوهام هاتين الأيديولوجيتين.

والقلة القليلة التي لم يجرفها التيار والتي ركزت على التعليم والعمل وبناء المؤسسات هي التي تعتبر اليوم في موقع أفضل إذا قيست بهذا الحطام المنتشر من المحيط إلى الخليج.

هذه القلة القليلة كانت على الدوام هدفا لسهام الإسلاميين والقوميين واليساريين فهي "تتهم" بالتعامل مع الدولة!! والعمالة للأجنبي وتبني أفكار التغريب والسير في ركاب المستعمرين وقائمة طويلة من التهم المعروفة.

أما أبرز الأحزاب والحركات والجماعات فقد راحت تزيف وعي الناس وتؤلبها، إما اقتناعا أو ابتزازا أو تضليلا، ضد الدولة وضد قيم الحداثة والعصر. 

الأمر الملفت أن الدول الأوروبية (مثل بريطانيا وفرنسا وإلى حد ما إيطاليا) التي انتدبت لإدارة المناطق التي كانت واقعة تحت سيطرة الدولة العثمانية، أي ما يعرف اليوم بسوريا والعراق ولبنان والأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية (المناطق الثلاث الأخيرة كانت كلها تسمى فلسطين) وإلى حد ما مصر والسودان وليبيا، إضافة إلى معاهدات الحماية بين بريطانيا ودول الخليج (باستثناء السعودية) والجنوب العربي، هي التي ساعدت هذه المجتمعات على إنشاء أجهزة الدولة الحديثة من جيش وشرطة ومالية وتعليم وصحة.. الخ، في وقت لم تكن هذه الأمور معروفة على نطاق واسع في الشرق، وفي وقت لم تكن فيه الدولة العثمانية تسمح لهذه المجتمعات بأن تطور أية مؤسسات قد تمكنها في المستقبل من التعبير عن نفسها كدول قائمة بذاتها. وكانت هذه المناطق خاضعة تماما للتقسيمات الإدارية العثمانية مثل ولاية ولواء أو سنجق وقضاء وناحية.. الخ.

وعندما هزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ثم إعلان الرئيس التركي كمال أتاتورك عن إلغائها، كانت المناطق التي خرجت من تحت سيطرتها تعيش حالة يرثى لها من الضعف والفوضى والتخلف. وكانت النخبة في هذه المناطق مشغولة إما بكيفية إعادة الخلافة من جديد أو توحيد الأقطار العربية في دولة واحدة وتحت حكم ملك واحد. أما إنشاء دول قائمة كالتي نراها اليوم فلم يكن ذلك على جدول الأعمال، ولم يحدث إلا بعد انتهاء فترة الانتداب أو الاستعمار.

يبقى أن نقول بأن ما نشهده اليوم من ضعف وتفكك في الدولة العربية لم يكن قدرا محتوما، فثمة دول في العالم تشكلت في نفس الفترة تقريبا التي رأت فيها الدول العربية النور، كما هو الحال مع كوريا الجنوبية أو اليونان أو إسرائيل وغيرها، لكنها تمكنت من خلق مؤسساتها وتطورت اقتصاديا وسياسيا، في الوقت الذي فشلت فيه المجتمعات العربية.

والسؤال هو هل تملك هذه المجتمعات الجرأة للتساؤل عن السبب، من دون اللجوء إلى الأعذار والشماعات التقليدية المعروفة مثل الاستعمار والصهيونية والماسونية وما شابه؟  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.