زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر
زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.

لم تكن دعوة السيد مقتدى الصدر لأعضاء كتلته في البرلمان إلى الاستقالة هي الخطوة المفاجأة، وإنما ثبات الصدر على موقفه في تشكيل حكومة أغلبية وطنية ورفضه المشاركة في حكومة توافقية أو (خلطة العطار) كما أسماها هو الموقف الأكثر مفاجأة!

والمفاجأة الثانية، هي تجاوز خيار الذهاب إلى المعارضة التي كان الصدر يلوح بها في دعواته لخصومه في الإطار التنسيقي للذهاب نحو تشكيل حكومة مِن دون الصدريين. 

يدرك خصوم الصدر وحلفاؤه، على حد سواء، المأزق الذي تواجهه منظومة الحكم في حال خروج الصدريين منها. لكن المأزق الأكثر تعقيداً سيكون في مواجهة القوى السياسية الشيعية؛ لأنَّ الصدر رقم صعب في مناطق نفوذهم، ولا يمكن التكهن بخطواته اللاحقة.

وفي الوقت الذي كان الخوف من انفراد مقتدى الصدر بالحكومة قد وحَّدَ قوى الإطار التنسيقي وحلفائهم في الثلث المعطّل، فيبدو أن غياب الصدر سيكون عاملاً في ظهور خلافات تلك القوى على السطح. 

ومن زاوية أخرى، على الرغم من عدم إعطاء أهمية لمصداقية الخطاب السياسي والثبات على المواقف قبل تشكيل الحكومات أمام الجمهور والرأي العام، وإن كان مبدأ تقاسم مغانم السلطة يعلو على جميع الخلافات السياسية، بيد أن مأزق قوى الإطار التنسيقي سيكون واضحاً في التناقض بين خطاب التخوين والتآمر على المكون الشيعي من قبل الأطراف السياسية التي كانت شريكاً للصدريين في (تحالف إنقاذ وطن)، وبين التوجه نحو التحالف معهم من أجل التوافق على تشكيل الحكومة القادمة!

ناهيك عن الاشتراطات التي يمكن أن يضعها السيد مسعود برزاني للمشاركة في حكومة الإطار التنسيقي والتي ستكون اختباراً صعباً أمام العنتريات التي كان يلوح بها بعض زعاماته. 

اختيار الصدر الخروج من دائرة تشكيل الحكومة القادمة، ربما تكون استراتيجية جديدة يتبعها للانقلاب على المنظومة الحاكمة من خارجها، بعد أن كان يسعى إلى الانقلاب عليها من الداخل بتشكيل حكومة الأغلبية الوطنية، والتي رفعها شعاراً في الانتخابات وبقي متمسكاً بها.

ويبدو أن الصدر اختار الانتقال إلى الخطة (ب) بعد فشل الخطة (أ) التي حاولت تغيير معادلة مشاركته في الحكومات السابقة انتخابات أكتوبر 2021، إذ أراد الصدر الانتقال من "شريك" في تشكيل الحكومات السابقة إلى السعي نحو تشكيل حكومة بقواعد جديدة تنقلب على منظومة التوافقية والانقلاب على العرف السياسي الذي تأسس منذ أول حكومة بصلاحيات كاملة في 2005، والقائم على أساس (الجميع مشارك في الحكومة، والجميع يعارض الحكومة). 

يدرك الصدر تماماً، أن انسحابه من المشاركة في الحكومة يعني التضحية بالابتعاد عن دائرة النفوذ السياسي السلطوي، والذي يعني الاختلال في معادلة النفوذ السياسي للصدريين التي سعى إلى تمركزها في مشاركتهم في الحكومات السابقة، والتي تقوم على أساس تقوية وتوسيع النفوذ الاجتماعي من خلال بوابة القوة والتغلغل السياسي في مؤسسات الدولة. 

لكنَّ زعيماً سياسياً، مثل مقتدى الصدر، الذي يستند إلى رمزيةٍ دينية وعلاقته مع جمهوره تقوم على مبدأ السمع والطاعة، لا يتخوّف من خسارة النفوذ السياسي في هذه الفترة، بل يعدّه مكسباً لتغيير الصورة النمطية التي رسمت على وفق مواقفهِ السابقة بالانسحاب والتراجع وعدم الثبات على موقف سياسي، فالثبات على رفض المشاركة في حكومة توافقية يُعد موقفاً يحسب لِلصدر.

ومن جانب آخر، انسحاب الصدر من تشكيل الحكومة موقف يكسب مِن خلاله المشككين في نواياه نحو الإصلاح السياسي ويجعله قريباً مِن الجمهور بعد أن كان يُتهَم بشراكته في المنظومة الحاكمة التي أنتجت الخراب والفساد والفوضى. 

وعلى المدى البعيد، ربما لا يدرك خصوم الصدر خطورة قرار الاستقالة من البرلمان، فالبعض منهم يعده انتصاراً لِقوى الإطار التنسيقي التي عطلت مشروع الصدر في تشكيل حكومة أغلبية. والبعض الآخر، يعدّه مكسباً لأنّه يسمح بتزايد أعداد مقاعده داخل البرلمان، ما يعني زيادة حصته في الوزارات عند تقسامها في تشكيل الحكومة القادمة.

وهناك من بعض زعامات قوى الإطار تعتقد أن انسحاب الصدر يُعد فرصة لاستعادة حظوظها في الحصول على رئاسة الوزراء. لكنّهم يدركون تماماً، أنَّ غياب تمثيل الصدر عن الحكومة والبرلمان سيبقى تهديداً بالانقلاب على المسرح الشيعي العراقي برمته، إذ أنه سيهدد المكاسب المؤقتة التي يمكن أن يحصل عليها قوى الإطار التنسيقي في الحكومة التي يشكلونها، وربما يهدد مستوى تمثيلهم في الانتخابات القادمة. 

لذلك، سيبقى مأزق الفرقاء السياسيين مع الصدر في عدم القدرة على الاستجابة لمطالبه التي يعدّونها بدايةً لخسارة نفوذهم وسطوتهم، فلا هم قادرون على شطبه وتجاهله، ولا هم قادرون على تنظيم التعامل معه.

وخطورة تحول مقتدى الصدر مِن شريكٍ في منظومة الحكم إلى خصمٍ لها، تجعل الموضوع أقرب إلى فرضية إشعال عود الكبريت وسط براميل البارود. لأنَّ احتمالية نجاح الطبقة السياسية في تشكيل حكومةٍ قوية قادرة على الاستجابة لمتطلبات الجمهور وسحب البساط من قدرة الصدريين على تحريك الشارع، ضعيفة جدّاً!

وهذا يعود إلى أن التفكير السياسي المهووس بتقاسم غنائم السلطة الذي يسيطر على مخيلة زعامات الطبقة السياسية، لا يمكن التعويل عليه بإنتاج حكومة بشخصيات صاحبة رؤية وشجاعة في اتخاذ القرار ومواجهة الأزمات. 

ورغم ذلك، ليس بالضرورة أن يكون انسحاب الصدر واستراتيجيته بالانقلاب على منظومة الحكم من خارجها، حلاً لأزمة النظام السياسي الذي تأسس على قاعدة الصفقات والتوافقات، بل ربما يكون بدايةً لمأزق سياسي لا يمكن تجاوز مخاطره بسهولة، ولا يمكن التكهن بتكلفة خسائره، ولكنّه ربما ينتج حَلاً مِن خلال إعادة ترتيب معادلة نفوذ قوى السلطة التقليدية ويجعلها تخسر جميع حظوظها السياسية. 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.