يعيش في تركيا قرابة 5 مليون سوريّ، أكثر من ثلاثة ملايين منهم يقيمون في تركيا بصفة لجوء مؤقت.
يعيش في تركيا قرابة 5 مليون سوريّ، أكثر من ثلاثة ملايين منهم يقيمون في تركيا بصفة لجوء مؤقت.

لقرابة 10 سنوات كاملة، لم يتعرض اللاجئون السوريون في تركيا لموجة عمومية من العنف وخطاب الكراهية. لكن فجأة، خلال الشهور الماضية، اندلع كل شيء ضدهم.

اغتيالات واعتداءات مجتمعية بالجملة، أساسها شعور المُعتدين بالاستقواء والهيمنة على كتلة مجتمعية مستضعفة، قانونيا وسياسيا ومجتمعيا. قرارات وتعليمات أمنية من وزارة الداخلية التركية، ومختلف الجهات الأمنية الرسمية، منافية للحد الأدنى من معايير حقوق الإنسان، وخارج كل التزام دستوري وقانوني وعُرفي، تلك التي من المفترض أن تسير الدولة حسبها. خطابات سياسية وإعلامية واجتماعية غارقة في المناهضة والكراهية والدعوة لحرمانهم من أبسط مقومات الحياة الطبيعية، ودون أي شيء مناقض لذلك، ضمن نفس المجتمع.

السؤال الأكثر جدارة بالبحث لا يتعلق بآلية العنف والكراهية والإقصاء التي يتعرض لها السوريون راهنا ضمن تركيا، بل بآلية وأسلوب الاندلاع المفاجئ، بعد 10 سنوات من الوئام العمومي، ونشر خطابات من مثل "المهاجرين والأنصار"، فالموجة الراهنة تمتاز بالمواكبة العمومية من مختلف قطاعات الحياة العامة في عملية المناهضة، من مؤسسات السلطة إلى أحزاب المعارضة، ومعهم الغالبية العظمى من القوى المجتمعية، وفي مختلف مناطق البلاد. 

تكشف هذه الديناميكية أشياء كثيرة عن حقائق ووقائع الحياة العمومية في دولة مثل تركيا، ماضيا وحاضرا: ترتيبات العلاقة بين السلطة بمؤسساتها وخطاباها وبين القواعد الاجتماعية، جوهرانية الوعي القومي المركزي وهيمنته على مختلف الفعاليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى الثقافية، أشكال التأثر بالخطابات السياسية وآليات التفاعل والاستجابة الهيجانية التي تبديها مختلف الجهات بشكل فوري للإرادة المستبطنة للسلطة المركزية الحاكمة. 

ثمة سيرة عمومية لما يحدث راهنا، هي بالضبط سيرة الكيان التركي وتاريخه الأكثر أصالة وحقيقية، لكن الأكثر تواريا وسرية، لما يتضمنه من "تعرية" لهذا الكيان، في حال كشفه والاعتراف به. سيرة تمتد منذ اللحظة التأسيسية لهذا الكيان وفي كل تفصيل من حياته العامة منذ وقتئذ، حتى أن تلك السيرة هي هوية هذا الكيان، ومعناه.

قبل أكثر قرن من الآن، بالضبط في العام 1914، حينما منظومة "الاتحاد والترقي في ذروة حُكمها (1908-1918) للسلطنة العثمانية/التركية، كانت الشخصيات السياسية والبرجوازية والمالية والثقافية الأرمنية في ذروة تآلفها مع السلطة العثمانية/التركية الحاكمة تلك. لكن فجأة، وبعد هزائم حروب البلقان التي مُنيت بها السلطنة العثمانية 1912-1913، تصاعدت مخاوف هذه النخبة العثمانية/التركية من أية تطلعات سياسية أرمنية، فبدأوا واحدة من أفظع موجات الكراهية ضد المكون الأرمني في البلاد. 

إذ بعد قرون من الوئام منقطع النظير، بين الأرمن والأتراك، بالذات بين النُخب السياسية والاقتصادية والثقافي للجماعتين، فجأة، ولذلك السبب الخارجي، هاج كل شيء في تركيا ضد الأرمن، العسكر ونُخب الحكم ورجال الدين والاقتصاديون والفلاحون والعشائر وأصحاب المهن. صارت البلاد مذبحة مفتوحة، أتت على ثلثي الشعب الأرمني، ودون أي تردد. 

أقل من 10 سنوات من تلك الأحداث، حيثما كانت السلطنة العثمانية/التركية قد أصبحت الجمهورية التركية القومية "الحديثة"، شغل الأكراد المكانة التي كانت للأرمن، كضحايا لموجة العنف والكراهية العمومية، وفجأة، وبالذات أيضا بعدما كانوا الحلفاء الأقرب والأكثر ثقة أثناء سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما تلاها من الأحداث التي سُميت "حروب الاستقلال" (1919-1923)، الذين كانوا يوصفون في الأحاديث العامة والخطابات السياسية بـ"أخوة الدم والدين".

طالت المذابح الأكراد من كل حدب، مُحقوا بدم بارد وبمشاركة حميمة من مختلف المؤسسات والقوى المجتمعية والقطاعات الحياتية، دون أن ينبت أي طرف داخلي في البلاد ببنت شفة.

كان ثمة تشابه في كل التفاصيل في تجربتي الكراهية والعنف التي طالت الأرمن ومن بعدهم الأكراد، حد التطابق.إذ كان ثمة جماعة أهلية ما، ذات مكانة تفضيلية بالنسبة لمركز الحُكم، وحينما صارت تتحسس مخاوف سياسية ما منهم، وبمجرد الإيحاء للمؤسسات والطبقات والقوى الاجتماعية التي ما دونها، حتى كانت تندلع تلك الموجة، وينفجر كل شيء في وجههم. 

الأكثر إثارة للتفكير، كامن في شخصية مصطفى كمال أتاتورك نفسه، هو النُخبة العسكرية والسياسية والفكرية المحيطة به، هؤلاء الذين كانوا شخصيات عضوية في تنظيم الاتحاد والترقي، الذين أسسوا دولة تركيا الحديثة، وما يزالون فعليا يحكمونها، بكل تفصيل، الذين يشكلون القناة والأداة التي نقلت روح السلطنة العثمانية/التركية التي كان يقودها قوميون الاتحاد والترقي المركزيون، إلى دولة تركيا الحديثة. 

طوال عقود تالية، شغل العلوين (الأتراك والعرب والأكراد) مكانة العنصر المنبوذ والمُعنف، التي كان يشغلها الأكراد والأرمن من قبل، فهؤلاء الذين كانوا العنصر الأكثر حماسة للـ"الثورة الأتاتوركية"، بسبب نزعتها العلمانية والجمهورية، صاروا منذ منتصف الستينات وحتى منتصف الثمانينات "العدو المثالي" للذات السلطوية المركزية في البلاد، وأيضاً فجأة ولسبب سياسي نظير، هو تفاقم الوعي اليساري في أوساطهم، وتهديدهم لتلك الذات المركزية.

أثناء هذه السنوات كلها، شغل اليونانيون الرومان والسريان والعرب والمثليون والملحدون المكانة نفسها، فعلى الدوام كان ثمة "عدو مثالي" داخل البلاد، تختلقه السلطة والذات الحاكمة والمركزية في البلاد، تحوله إلى كبش فداء عديم القدرة والحق في الدفاع عن النفس، وفقط لتقوية الهوية الأهلية المركزية في الكيان التركي، وتسيدها على باقي الهويات في البلاد، ولجسر العلاقات المتهالكة بين مؤسسات الحكم ونُخبه، وبين الطرفين والقطاعات المجتمعية.

لكن لماذا يجري ذلك في تركيا دون غيرها من البلدان؟

لأسباب كثيرة، على رأسها الفالق الشاسع بين ما يفترض الكيان التركي إنه عليه من هوية كيانية، كوريث لواحد من أكبر وأهم إمبراطوريات تاريخ منطقتنا، وبين الماهية الحقيقة لهذه الدولة التركية، من تمركز هوياتية حول قومية بدائية قائمة على تقديس عظام الأجداد ومروياتهم وحكايات المجد التليد، تلك الماهية التي تشبه وتناسب زعماء القرى المحليين أكثر بكثير مما تتشبه إرثاً إمبراطورياً مُدعى.

ذلك البون الشاسع بين المساحتين، يخلق هذا الغضب والكراهية العنف الهيجاني المفاجئ كل مرة، لأنه نابع من وعي مستعد للاعتراف ومعرفة كل شيء، خلا الاعتراف بأن الآخرين يماثلونه، لأنهم شركائه في هذه الحياة.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.