لقرابة 10 سنوات كاملة، لم يتعرض اللاجئون السوريون في تركيا لموجة عمومية من العنف وخطاب الكراهية. لكن فجأة، خلال الشهور الماضية، اندلع كل شيء ضدهم.
اغتيالات واعتداءات مجتمعية بالجملة، أساسها شعور المُعتدين بالاستقواء والهيمنة على كتلة مجتمعية مستضعفة، قانونيا وسياسيا ومجتمعيا. قرارات وتعليمات أمنية من وزارة الداخلية التركية، ومختلف الجهات الأمنية الرسمية، منافية للحد الأدنى من معايير حقوق الإنسان، وخارج كل التزام دستوري وقانوني وعُرفي، تلك التي من المفترض أن تسير الدولة حسبها. خطابات سياسية وإعلامية واجتماعية غارقة في المناهضة والكراهية والدعوة لحرمانهم من أبسط مقومات الحياة الطبيعية، ودون أي شيء مناقض لذلك، ضمن نفس المجتمع.
السؤال الأكثر جدارة بالبحث لا يتعلق بآلية العنف والكراهية والإقصاء التي يتعرض لها السوريون راهنا ضمن تركيا، بل بآلية وأسلوب الاندلاع المفاجئ، بعد 10 سنوات من الوئام العمومي، ونشر خطابات من مثل "المهاجرين والأنصار"، فالموجة الراهنة تمتاز بالمواكبة العمومية من مختلف قطاعات الحياة العامة في عملية المناهضة، من مؤسسات السلطة إلى أحزاب المعارضة، ومعهم الغالبية العظمى من القوى المجتمعية، وفي مختلف مناطق البلاد.
تكشف هذه الديناميكية أشياء كثيرة عن حقائق ووقائع الحياة العمومية في دولة مثل تركيا، ماضيا وحاضرا: ترتيبات العلاقة بين السلطة بمؤسساتها وخطاباها وبين القواعد الاجتماعية، جوهرانية الوعي القومي المركزي وهيمنته على مختلف الفعاليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى الثقافية، أشكال التأثر بالخطابات السياسية وآليات التفاعل والاستجابة الهيجانية التي تبديها مختلف الجهات بشكل فوري للإرادة المستبطنة للسلطة المركزية الحاكمة.
ثمة سيرة عمومية لما يحدث راهنا، هي بالضبط سيرة الكيان التركي وتاريخه الأكثر أصالة وحقيقية، لكن الأكثر تواريا وسرية، لما يتضمنه من "تعرية" لهذا الكيان، في حال كشفه والاعتراف به. سيرة تمتد منذ اللحظة التأسيسية لهذا الكيان وفي كل تفصيل من حياته العامة منذ وقتئذ، حتى أن تلك السيرة هي هوية هذا الكيان، ومعناه.
قبل أكثر قرن من الآن، بالضبط في العام 1914، حينما منظومة "الاتحاد والترقي في ذروة حُكمها (1908-1918) للسلطنة العثمانية/التركية، كانت الشخصيات السياسية والبرجوازية والمالية والثقافية الأرمنية في ذروة تآلفها مع السلطة العثمانية/التركية الحاكمة تلك. لكن فجأة، وبعد هزائم حروب البلقان التي مُنيت بها السلطنة العثمانية 1912-1913، تصاعدت مخاوف هذه النخبة العثمانية/التركية من أية تطلعات سياسية أرمنية، فبدأوا واحدة من أفظع موجات الكراهية ضد المكون الأرمني في البلاد.
إذ بعد قرون من الوئام منقطع النظير، بين الأرمن والأتراك، بالذات بين النُخب السياسية والاقتصادية والثقافي للجماعتين، فجأة، ولذلك السبب الخارجي، هاج كل شيء في تركيا ضد الأرمن، العسكر ونُخب الحكم ورجال الدين والاقتصاديون والفلاحون والعشائر وأصحاب المهن. صارت البلاد مذبحة مفتوحة، أتت على ثلثي الشعب الأرمني، ودون أي تردد.
أقل من 10 سنوات من تلك الأحداث، حيثما كانت السلطنة العثمانية/التركية قد أصبحت الجمهورية التركية القومية "الحديثة"، شغل الأكراد المكانة التي كانت للأرمن، كضحايا لموجة العنف والكراهية العمومية، وفجأة، وبالذات أيضا بعدما كانوا الحلفاء الأقرب والأكثر ثقة أثناء سنوات الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما تلاها من الأحداث التي سُميت "حروب الاستقلال" (1919-1923)، الذين كانوا يوصفون في الأحاديث العامة والخطابات السياسية بـ"أخوة الدم والدين".
طالت المذابح الأكراد من كل حدب، مُحقوا بدم بارد وبمشاركة حميمة من مختلف المؤسسات والقوى المجتمعية والقطاعات الحياتية، دون أن ينبت أي طرف داخلي في البلاد ببنت شفة.
كان ثمة تشابه في كل التفاصيل في تجربتي الكراهية والعنف التي طالت الأرمن ومن بعدهم الأكراد، حد التطابق.إذ كان ثمة جماعة أهلية ما، ذات مكانة تفضيلية بالنسبة لمركز الحُكم، وحينما صارت تتحسس مخاوف سياسية ما منهم، وبمجرد الإيحاء للمؤسسات والطبقات والقوى الاجتماعية التي ما دونها، حتى كانت تندلع تلك الموجة، وينفجر كل شيء في وجههم.
الأكثر إثارة للتفكير، كامن في شخصية مصطفى كمال أتاتورك نفسه، هو النُخبة العسكرية والسياسية والفكرية المحيطة به، هؤلاء الذين كانوا شخصيات عضوية في تنظيم الاتحاد والترقي، الذين أسسوا دولة تركيا الحديثة، وما يزالون فعليا يحكمونها، بكل تفصيل، الذين يشكلون القناة والأداة التي نقلت روح السلطنة العثمانية/التركية التي كان يقودها قوميون الاتحاد والترقي المركزيون، إلى دولة تركيا الحديثة.
طوال عقود تالية، شغل العلوين (الأتراك والعرب والأكراد) مكانة العنصر المنبوذ والمُعنف، التي كان يشغلها الأكراد والأرمن من قبل، فهؤلاء الذين كانوا العنصر الأكثر حماسة للـ"الثورة الأتاتوركية"، بسبب نزعتها العلمانية والجمهورية، صاروا منذ منتصف الستينات وحتى منتصف الثمانينات "العدو المثالي" للذات السلطوية المركزية في البلاد، وأيضاً فجأة ولسبب سياسي نظير، هو تفاقم الوعي اليساري في أوساطهم، وتهديدهم لتلك الذات المركزية.
أثناء هذه السنوات كلها، شغل اليونانيون الرومان والسريان والعرب والمثليون والملحدون المكانة نفسها، فعلى الدوام كان ثمة "عدو مثالي" داخل البلاد، تختلقه السلطة والذات الحاكمة والمركزية في البلاد، تحوله إلى كبش فداء عديم القدرة والحق في الدفاع عن النفس، وفقط لتقوية الهوية الأهلية المركزية في الكيان التركي، وتسيدها على باقي الهويات في البلاد، ولجسر العلاقات المتهالكة بين مؤسسات الحكم ونُخبه، وبين الطرفين والقطاعات المجتمعية.
لكن لماذا يجري ذلك في تركيا دون غيرها من البلدان؟
لأسباب كثيرة، على رأسها الفالق الشاسع بين ما يفترض الكيان التركي إنه عليه من هوية كيانية، كوريث لواحد من أكبر وأهم إمبراطوريات تاريخ منطقتنا، وبين الماهية الحقيقة لهذه الدولة التركية، من تمركز هوياتية حول قومية بدائية قائمة على تقديس عظام الأجداد ومروياتهم وحكايات المجد التليد، تلك الماهية التي تشبه وتناسب زعماء القرى المحليين أكثر بكثير مما تتشبه إرثاً إمبراطورياً مُدعى.
ذلك البون الشاسع بين المساحتين، يخلق هذا الغضب والكراهية العنف الهيجاني المفاجئ كل مرة، لأنه نابع من وعي مستعد للاعتراف ومعرفة كل شيء، خلا الاعتراف بأن الآخرين يماثلونه، لأنهم شركائه في هذه الحياة.