مسجد ابن طولون التاريخي في العاصمة المصرية القاهرة- صورة تعبيرية
مسجد ابن طولون التاريخي في العاصمة المصرية القاهرة- صورة تعبيرية

تَتَديَّن الأغلبيةُ الساحقةُ من المسلمين اليوم بِتراث سلفي عريق تَشَكَّل قبل أكثر من ألف عام. ويشمل هذا التديّن السلفي الرائج كلَّ أتباع المذاهب والطوائف والتيارات والأحزاب الإسلامية؛ بما فيها تلك التي يُصَنِّفها التيارُ الحديثي/ الأثري (تيار أهل الحديث أو التيارات المتناسلة عنه، المحتكرة ـ اصطلاحا ـ لصفة: التَّسلّف) في خانة: الابتداع والزيغ والضلال.  

هذا يعني أن التَّديّن بـ"إسلامٍ مُسْتنير"، بـ"إسلامٍ مُتَعلقن"، لا يزال ضئيلا وخافِتا وخائِفا، بل لا يَكاد يُرى في المشهد الديني الجماهيري؛ فضلا عن كونه مَحل شَكٍّ وارتياب، بل وهجوم عنيف وصريح من قِبَل تلك الأغلبية الساحقة التي تزعم لنفسها امتلاك الحق المطلق احتكارا، وتُطْلِق ـ صراحة أو ضمنا ـ صفةَ: "تزييف الإسلام"، على كل محاولات "تنوير الإسلام". 

المسلمون لا يَتمثَّلون تُرَاثا أثريا نقليا يتمدّد على مدى أربعة عشر قرنا فحسب، بل ـ وهو الأخطر ـ تجدهم يُفكرّون بواسطة هذا التراث، يَقرأون التراث بعيون التراث. وبحق، ليست المشكلة الأساسية تكمن في أنهم يَرجعون إلى "سلفٍ" ما، فكل الأديان والمذاهب، وبقوة منطق التَّدين/ التمذهب ذاته، لا بد وأن ترجع إلى سَلفٍ تَتَشَرْعَن به. وإنما المشكلة حقا تكمن في أنهم يرجعون إلى "سلف" معادٍ للعقل ومرتاب بالحرية، خاضعين ـ في الوقت نفسه ـ لمنطق السلف في معاينة تراث السلف؛ وكأنهم لا يزالون يَعيشون عصورَ أسلافهم بكل تفاصيلها المتواضعة جدا في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية والفكر والآداب والفنون ! 

طبيعي أن تقود مثل هذه الاتباعية السلفية إلى جُمُودٍ مُرعِب، يقضي بتخلف مروّع على مستوى تفاصيل المعاش اليومي، كما على مستوى الآمال والطموحات، وبالطبع على مستوى الاجتراحات النظرية والعملية التي تَتغيّا إنجاز وعود هذه الطموحات والآمال.  

غير أن هذا ليس هو وحده المأزق التراثي، بل إن ما في هذا التراث من مضامين كارثية، سواء على مَفصل تبرير العنف أو على مفصل الحَثّ عليه، بالإضافة إلى المضامين التي تنتهك شرطَ العدالة الإنسانية، أو تلك التي تنتهك المشتركَ الأخلاقي، كل ذلك يُشكّل مأزقا للمسلم المعاصر في علاقته مع العصر؛ حال تبنيّه المنطقَ الإجمالي لهذا التراث، وهو التَّبني المُجْمل الذي تضعه السلفياتُ كشرط أساس للقبول داخل دائرة الإسلام.      

إنه مأزق مُضَاعَف/ مُزدوج، فهنا، ثمة تراثٌ ينطوي على مضامين كارثية (ضد العقل، وضد السلم الإنساني، وضد الأخلاق)، وثمة عقل تراثي معاصر متصالح مع كل هذه المضامين، بل مشرعن لها بواسطة هذا التراث. وهذا التأكيد المضاعف، يقتضي الوعي بأن تجاوز المأزق التراثي مشروط بالخروج من "نمط التفكير التقليدي" أولا، وبالخروج من "موضوع التفكير" المُسْتَثْمَر فيه ثانيا. وكلاهما ليس باليسير، بل هما من أصعب الأمور وأكثرها إشكالا؛ لأن مجرد الخطوات الأولى فيهما (فضلا عن الانخراط المجمل في سيرورة دينية تنويرية شاملة)، تستلزم اجتياز عقبات عقائدية ومعرفية وسيكولوجية واجتماعية راسخة، لا يُقْدِم عليها إلا أولو العزم من ذوي الملكات العقلية والنفسية الخاصة، بل والاستثنائية، بعد أن يكونوا قد وطنوا أنفسهم على التضحيات الفدائية الضرورية في هذا المعترك: معترك الإصلاح الديني. 

هل هذا الإصلاح الديني الذي يتوسّل تجاوزَ نمط التفكير التراثي، كما يتوسل تجاوزَ التراث، مُمْكنٌ على ضوء المتاح حاليا في مسارات الفكر الإسلامي المعاصر ؟ 

للأسف، لا. فالأغلبية الساحقة من الناشطين في مسارات هذا الفكر غير مؤهلين ـ ولو بالدرجة الدنيا ـ لبدء طريق الإصلاح الديني. ويكفي مجرد استعراض للكادر العلمي/ المشيخي/ الكهنوتي، الذي يُنَاط به توجيه مسارات الفكر الإسلامي/ الدعوي اليوم؛ لتعلم أن المأساة لا تقف على حالها الأول فحسب، بل هي تزداد تأزما وتعقيدا؛ بقدر ما تزداد تُراثية وتقليدا. فحتى القليل والنادر من حرية التفكير/ حرية العقل التي تتضمنها بعض تيارات التراث، لا يجرؤ هذا الكادر المشيخي على استعادتها أو حتى الاستضاءة بها صراحة، بل هو يشتغل على طمسها وقمعها، ومن ثم إنشاء مستوى من التنميط التقليدي للتراث ذاته؛ ليصبح الفكر الإسلامي اليوم مُعَبَّرَا عنه بأسوأ تُرَاثَاتِه وأكثرها بلادة وضيقا بالعقل والحرية، كما هو مُعَبَّرٌ عنه بأسوأ مفكريه وأكثرهم عبودية وخنوعا وتقليدا وتبليدا.   

وللأسف؛ مرة أخرى، فأسوأ تيارات التراث من ناحية علاقتها بالعقل والحرية (= تيار أهل النقل)، وأسوأ مفكري هذا الإسلام التراثي المعادي للعقل والحرية (= وُعّاظ السلفية)، هما جَناحا المَدّ الديني الرائج إسلاميا، هما الإسلام اليوم كما يبدو في صورته المُتَعَوْلِمة، كما يتجلى في جماهيريته الواسعة، وبالتالي، في مشروعيته المُعْتَمَدة في المؤسسات الموثوق بها من قبل جماهير المُتَدَيِّنين في العالم الإسلامي.  

إسلام تراثي كهذا الإسلام الرائج جماهيريا، لن يقبل التشكيك في النصوص التراثية التي تجيز زواج الأطفال، فضلا عن أن يقبل نفيها بواسطة التحقيق العلمي لوسائط النقل التراثي. ومُفكِّرون إسلاميون تراثيون (مجرد وعاظ في النهاية) مُتَشَرعِنُون جماهيريا بتقليديتهم/ نصوصيتهم/ حرفيتهم، لن يقبلوا إعادة فحص آليتهم المعرفية المُهْتَرئة، فضلا عن أن يقبلوا الانخراط في مسار العقلانية الحديثة، لا لأنه مسار يستعصي على قدراتهم المعرفية المتواضعة فحسب، وإنما أيضا ـ وبدرجة أولى ـ لأنهم أيقنوا أن المكتسبات المعنوية/ الرمزية، والمكتسبات المادية الباذخة إغراء، لا يمكن أن تتحقق لهم ـ بل ولا شيئا يسيرا منها ـ في مجتمع إسلامي مستنير.  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.