منذ أبصرت النور وأنا وأبواي نتنقل هربا من الحروب. وعيي السياسي الأول كان في بيروت وفيه أن أمي، وهي لبنانية، تستمع الى الراديو وقد بدا عليها القلق الشديد. عانقتها كما يفعل الصغار للتخفيف من همّ الكبار، وسألتها لما كانت خائفة.
قالت لي قتلوا طوني فرنجية. من هو طوني هذا؟ أجابتني ابن رئيس الجمهورية. النائب طوني فرنجية كان ابن رئيس لبنان الراحل سليمان فرنجية وقتلته ميليشيا القوات اللبنانية في العام 1978.
كان بيتنا في بيروت الغربية الإسلامية، وكان موقع عمل أبي في بيروت الشرقية المسيحية. خشيت أمي أن يحصل ما يحصل عادة في حالات قتل كهذه: يرد الطرف الثاني بشكل عشوائي، غالبا بـ"الذبح على الهوية".
نجا أبي، وهو عراقي، وعقدنا العزم أن نعود الى بلدنا العراق. بالكاد مرّ عامين على عودتنا حتى دخلت البلاد في حالة تعبئة عامة بسبب اندلاع الحرب مع إيران. صافرة الانذار في بغداد كانت تقرع مع كل غارة إيرانية وكنا نركض ونختبئ تحت الدرج. السيارات طلت مصابيحها الأمامية بألوان داكنة، وفرضت الحكومة تقنينا على السيارات: يوم تسير السيارات ذات اللوحات المزدوجة، واليوم التالي المنفردة.
تواصلت الحرب وكانت "طائراتنا العراقية الباسلة تغير فوق ايران" وتعود دائما سالمة، حسب التلفزيون. على الرغم من الانتصارات الباهرة، استمرت الحرب وتحولت إلى محرقة للشباب العراقي. راحت الحكومة تستدعي الاحتياط. مساء كل يوم على الجريدة الرسمية التلفزيونية يتم استدعاء دفعات من مواليد العام كذا وكذا.
بلغ جيراننا من آل الصفار أن ابنهم تم فقدانه أو أسره في خانقين أو غيرها. راح أخوه يسوق ساعات طويلة بحثا عن الخبر اليقين عن شقيقه المفقود. بيت العزاوي، جيراننا كذلك، فقدوا شابا سقط في معركة. خشي أبي أن يتم استدعاؤه.
من يطعمنا أمي وأختي وأنا بدونه؟ بدا الحل الأنسب هو في العودة الى بلدنا لبنان، وكان ذلك في اواخر مايو 1982.
تدقيق الجوازات في مطار بغداد كاد يعتقل أبي ليمنعه من السفر مع أن مواليده لم تكن مطلوبة بعد. ابتسم لنا الحظ بمرور ضابط كان يعرف والدي منذ زمن الدراسة، فسمح لنا بالمرور مخاطرا بذلك بحياته هو. وصلنا لبنان فبدأت دبابات إسرائيل اجتياحها الشهير الذي تعدى العاصمة. لجأنا الى بعلبك بلد أجدادي لأمي واعتقدنا أنها فرصة صيف ونعود الى بغداد.
على عكس بغداد حيث كان صدام بطل القادسية والخميني دجالا، انقلبت الصورة أمامي في بعلبك وصار الهتاف "الهي الهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخميني".
في بعلبك كانت الغارات الاسرائيلية، وأحيانا الفرنسية (للثأر من تفجير مقر القوة الفرنسية لحفظ السلام) أسبوعية تقريبا. في العام 1983، شنت المقاتلات الإسرائيلية غارة دمرت فيها مخيم الجليل للاجئين الفلسطينيين وموقع الشرطة اللبنانية (الدرك) الذي يجاوره، وشاهدت الغارة مذعورا وأنا في مدرستي القريبة.
على أن الغارات والرعب والخوف والاختباء لم تثر في شعور بالغربة، اذ هو شعور يشترك فيه أهل البلد مع أمثالي. وأقول إني لست من أهل بعلبك لأن الأعراف القبلية العربية لا تنسب الأولاد إلى أخوالهم بل إلى أبيهم وأعمامهم. في العشرين عاما التي أمضيتها في لبنان، وكنت تطبعت لبنانيا بشكل جعل من المتعذر على اللبنانيين معرفة جذوري العراقية، لم يحسبني اللبنانيون واحدا منهم لأن أبي من بغداد، حتى بعد صدور مرسوم الجنسية الذي جعلني وأبي وأخوتي مواطنين لبنانيين.
لكن منذ وصولنا لبنان في 1982 وحتى 1988، كان أبي متخلفا عن الخدمة العسكرية العراقية، وهو ما حرمنا امكانية تجديد جواز سفرنا العراقي، وبدونه صارت الإقامة قانونيا في لبنان متعذرة. لأعوام طويلة، عشنا في لبنان بدون أوراق ثبوتية، وهو أمر فيه خطورة بسبب حواجز الميليشيات وتقاسم مناطق النفوذ بينها، وصار المرور على أي حاجز رعب لنا.
مع حلول العام 1988 ونهاية الحرب مع إيران، تحسن الوضع العراقي قليلا، ومنحتنا السفارة العراقية جوازات جديدة، ومع مطلع التسعينات صرنا لبنانيين كذلك.
لكن صدام حسين كان يحظّر على العراقيين حمل جنسيات عربية شقيقة (لعله في إطار الوحدة وعشق العرب بعضهم البعض)، وهو ما أجبرنا على اخفاء هويتنا اللبنانية خوفا من العقوبات العراقية علينا.
مطلع التسعينات، قتل ديبلوماسيون عراقيون في بيروت المعارض المسّن طالب السهيل وانقطعت العلاقات بين البلدين، وهو ما أجبرني على زيارة الأردن بعد ذلك بسنوات لتمديد جوازي العراقي الذي كانت صلاحيته تنتهي في أيام. طرت الى عمّان وتوجهت فورا الى السفارة العراقية وقرعت الجرس. فتح موظف شبّاك صغير ونظر الي وكأني قتلت عائلته وكل عشيرته: "ها شتريد؟" أجبته أني أسعى لتجديد جوازي، فراح يسأل عن الوثائق بحوزتي، الهوية، شهادة الجنسية، صور فردية. ثم وصل لبطاقة الحصة التموينية. طبعا لم يكن لدينا بطاقات كهذه لأننا كنا من المغتربين. بالكاد قلت لا فأقفل الشبّاك ولم يفتحه مرة ثانية.
جلست على جانب الطريق في عمّان حائرا في أمري: ماذا أفعل بعد أيام عندما تنتهي صلاحية جوازي؟ أصبح مثل المواشي. على الأقل يمكن للمواشي التجول بأمان بدون أوراق ثبوتية، أما بني البشر، فلا يمكنهم أخذ اجازة من الحضارة وأنظمتها الإدارية.
أنا كنت من المحظوظين. صديق آخر لأبي من زمن الطفولة كان صار تاجرا كبيرا في عمّان. خابرته، فتكفّل بتجديد الجواز. مع ذلك، عندما أجرى القائم بالأعمال مقابلة معي، حاول انتزاع اعتراف أني أحمل جنسية لبنانية، وطبعا أنا كنت أعي ألاعيبه ولم أقع.
إبان هجرتي إلى الولايات المتحدة، كفلت الحكومة الأميركية اصدار تأشيرات دخول لي ولزملائي اللبنانيين الذين نالوا تأشيرة ستة أشهر مع دخول متعدد، أما أنا، فبسبب جوازي العراقي، نلت ثلاثة أشهر مع دخول واحد فقط. كان تجوالي بجوازي العراقي بمثابة جريمة: أصل أي مطار في العالم وأمضي ساعات أمام التحقيق.
اليوم أتجول بجوازي الأميركي بدون أي عوائق أو أسئلة، لكني لا أنسى أني أمضيت عمرا وأنا أتوقع الذل في كل سفارة وفي كل مطار، حتى أني كنت أتفادى السفر لأتجنب الاستجداء والتوتر والقلق.
في يوم اللاجئين العالمي، الذي احتفلت به الأمم المتحدة أمس، تحية لكل اللاجئين الصابرين الصامتين.
أما من نصبوا أنفسهم أبطالا في اللجوء — من أمثال عضو الكونغرس الصومالية الأميركية الهان عمر التي تحتفظ بكلمة لاجئ في تقديمها نفسها على مواقع التواصل والأكاديمي الفلسطيني الأميركي الراحل اداور سعيد الذي أطلق اسم "خارج المكان" على كتاب مذكراته — فهؤلاء حوّلوا شقاء اللجوء إلى مهنة وسياسة فيما هم يتجولون بجوازاتهم الأميركية التي تمنحهم احتراما كاملا حول العالم منذ ولادتهم، في حالة سعيد، وقبل بلوغهم سن الرشد، كما في حالة عمر.