حسين عبد الحسين يتوسط الصورة، هو كاتب المقال وصاحب القصة
حسين عبد الحسين يتوسط الصورة، هو كاتب المقال وصاحب القصة- من صفحته الرسمية في فيسبوك

منذ أبصرت النور وأنا وأبواي نتنقل هربا من الحروب. وعيي السياسي الأول كان في بيروت وفيه أن أمي، وهي لبنانية، تستمع الى الراديو وقد بدا عليها القلق الشديد. عانقتها كما يفعل الصغار للتخفيف من همّ الكبار، وسألتها لما كانت خائفة.

قالت لي قتلوا طوني فرنجية. من هو طوني هذا؟ أجابتني ابن رئيس الجمهورية. النائب طوني فرنجية كان ابن رئيس لبنان الراحل سليمان فرنجية وقتلته ميليشيا القوات اللبنانية في العام 1978.

كان بيتنا في بيروت الغربية الإسلامية، وكان موقع عمل أبي في بيروت الشرقية المسيحية. خشيت أمي أن يحصل ما يحصل عادة في حالات قتل كهذه: يرد الطرف الثاني بشكل عشوائي، غالبا بـ"الذبح على الهوية".

نجا أبي، وهو عراقي، وعقدنا العزم أن نعود الى بلدنا العراق. بالكاد مرّ عامين على عودتنا حتى دخلت البلاد في حالة تعبئة عامة بسبب اندلاع الحرب مع إيران. صافرة الانذار في بغداد كانت تقرع مع كل غارة إيرانية وكنا نركض ونختبئ تحت الدرج. السيارات طلت مصابيحها الأمامية بألوان داكنة، وفرضت الحكومة تقنينا على السيارات: يوم تسير السيارات ذات اللوحات المزدوجة، واليوم التالي المنفردة.

تواصلت الحرب وكانت "طائراتنا العراقية الباسلة تغير فوق ايران" وتعود دائما سالمة، حسب التلفزيون. على الرغم من الانتصارات الباهرة، استمرت الحرب وتحولت إلى محرقة للشباب العراقي. راحت الحكومة تستدعي الاحتياط. مساء كل يوم على الجريدة الرسمية التلفزيونية يتم استدعاء دفعات من مواليد العام كذا وكذا.

بلغ جيراننا من آل الصفار أن ابنهم تم فقدانه أو أسره في خانقين أو غيرها. راح أخوه يسوق ساعات طويلة بحثا عن الخبر اليقين عن شقيقه المفقود. بيت العزاوي، جيراننا كذلك، فقدوا شابا سقط في معركة. خشي أبي أن يتم استدعاؤه.

من يطعمنا أمي وأختي وأنا بدونه؟ بدا الحل الأنسب هو في العودة الى بلدنا لبنان، وكان ذلك في اواخر مايو 1982.

تدقيق الجوازات في مطار بغداد كاد يعتقل أبي ليمنعه من السفر مع أن مواليده لم تكن مطلوبة بعد. ابتسم لنا الحظ بمرور ضابط كان يعرف والدي منذ زمن الدراسة، فسمح لنا بالمرور مخاطرا بذلك بحياته هو. وصلنا لبنان فبدأت دبابات إسرائيل اجتياحها الشهير الذي تعدى العاصمة. لجأنا الى بعلبك بلد أجدادي لأمي واعتقدنا أنها فرصة صيف ونعود الى بغداد.

على عكس بغداد حيث كان صدام بطل القادسية والخميني دجالا، انقلبت الصورة أمامي في بعلبك وصار الهتاف "الهي الهي حتى ظهور المهدي احفظ لنا الخميني".

في بعلبك كانت الغارات الاسرائيلية، وأحيانا الفرنسية (للثأر من تفجير مقر القوة الفرنسية لحفظ السلام) أسبوعية تقريبا. في العام 1983، شنت المقاتلات الإسرائيلية غارة دمرت فيها مخيم الجليل للاجئين الفلسطينيين وموقع الشرطة اللبنانية (الدرك) الذي يجاوره، وشاهدت الغارة مذعورا وأنا في مدرستي القريبة.

على أن الغارات والرعب والخوف والاختباء لم تثر في شعور بالغربة، اذ هو شعور يشترك فيه أهل البلد مع أمثالي. وأقول إني لست من أهل بعلبك لأن الأعراف القبلية العربية لا تنسب الأولاد إلى أخوالهم بل إلى أبيهم وأعمامهم. في العشرين عاما التي أمضيتها في لبنان، وكنت تطبعت لبنانيا بشكل جعل من المتعذر على اللبنانيين معرفة جذوري العراقية، لم يحسبني اللبنانيون واحدا منهم لأن أبي من بغداد، حتى بعد صدور مرسوم الجنسية الذي جعلني وأبي وأخوتي مواطنين لبنانيين.

لكن منذ وصولنا لبنان في 1982 وحتى 1988، كان أبي متخلفا عن الخدمة العسكرية العراقية، وهو ما حرمنا امكانية تجديد جواز سفرنا العراقي، وبدونه صارت الإقامة قانونيا في لبنان متعذرة. لأعوام طويلة، عشنا في لبنان بدون أوراق ثبوتية، وهو أمر فيه خطورة بسبب حواجز الميليشيات وتقاسم مناطق النفوذ بينها، وصار المرور على أي حاجز رعب لنا.

مع حلول العام 1988 ونهاية الحرب مع إيران، تحسن الوضع العراقي قليلا، ومنحتنا السفارة العراقية جوازات جديدة، ومع مطلع التسعينات صرنا لبنانيين كذلك.

لكن صدام حسين كان يحظّر على العراقيين حمل جنسيات عربية شقيقة (لعله في إطار الوحدة وعشق العرب بعضهم البعض)، وهو ما أجبرنا على اخفاء هويتنا اللبنانية خوفا من العقوبات العراقية علينا.

مطلع التسعينات، قتل ديبلوماسيون عراقيون في بيروت المعارض المسّن طالب السهيل وانقطعت العلاقات بين البلدين، وهو ما أجبرني على زيارة الأردن بعد ذلك بسنوات لتمديد جوازي العراقي الذي كانت صلاحيته تنتهي في أيام. طرت الى عمّان وتوجهت فورا الى السفارة العراقية وقرعت الجرس. فتح موظف شبّاك صغير ونظر الي وكأني قتلت عائلته وكل عشيرته: "ها شتريد؟" أجبته أني أسعى لتجديد جوازي، فراح يسأل عن الوثائق بحوزتي، الهوية، شهادة الجنسية، صور فردية. ثم وصل لبطاقة الحصة التموينية. طبعا لم يكن لدينا بطاقات كهذه لأننا كنا من المغتربين. بالكاد قلت لا فأقفل الشبّاك ولم يفتحه مرة ثانية.

جلست على جانب الطريق في عمّان حائرا في أمري: ماذا أفعل بعد أيام عندما تنتهي صلاحية جوازي؟ أصبح مثل المواشي. على الأقل يمكن للمواشي التجول بأمان بدون أوراق ثبوتية، أما بني البشر، فلا يمكنهم أخذ اجازة من الحضارة وأنظمتها الإدارية.

أنا كنت من المحظوظين. صديق آخر لأبي من زمن الطفولة كان صار تاجرا كبيرا في عمّان. خابرته، فتكفّل بتجديد الجواز. مع ذلك، عندما أجرى القائم بالأعمال مقابلة معي، حاول انتزاع اعتراف أني أحمل جنسية لبنانية، وطبعا أنا كنت أعي ألاعيبه ولم أقع.

إبان هجرتي إلى الولايات المتحدة، كفلت الحكومة الأميركية اصدار تأشيرات دخول لي ولزملائي اللبنانيين الذين نالوا تأشيرة ستة أشهر مع دخول متعدد، أما أنا، فبسبب جوازي العراقي، نلت ثلاثة أشهر مع دخول واحد فقط. كان تجوالي بجوازي العراقي بمثابة جريمة: أصل أي مطار في العالم وأمضي ساعات أمام التحقيق.

اليوم أتجول بجوازي الأميركي بدون أي عوائق أو أسئلة، لكني لا أنسى أني أمضيت عمرا وأنا أتوقع الذل في كل سفارة وفي كل مطار، حتى أني كنت أتفادى السفر لأتجنب الاستجداء والتوتر والقلق.

في يوم اللاجئين العالمي، الذي احتفلت به الأمم المتحدة أمس، تحية لكل اللاجئين الصابرين الصامتين.

أما من نصبوا أنفسهم أبطالا في اللجوء — من أمثال عضو الكونغرس الصومالية الأميركية الهان عمر التي تحتفظ بكلمة لاجئ في تقديمها نفسها على مواقع التواصل والأكاديمي الفلسطيني الأميركي الراحل اداور سعيد الذي أطلق اسم "خارج المكان" على كتاب مذكراته — فهؤلاء حوّلوا شقاء اللجوء إلى مهنة وسياسة فيما هم يتجولون بجوازاتهم الأميركية التي تمنحهم احتراما كاملا حول العالم منذ ولادتهم، في حالة سعيد، وقبل بلوغهم سن الرشد، كما في حالة عمر.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.