متظاهرون يحملون العلم العراقي خلال تظاهرات احتجاجية سابقة
متظاهرون يحملون العلم العراقي خلال تظاهرات احتجاجية سابقة

هناك قاعدة عرفية نتداولها في أحاديثنا السياسية، تقول إن طبيعة نظام الحكم وممارسته ينتج معارضةً على شاكلته، بمعنى إذا كان النظام السياسي ديمقراطياً، ستكون المعارضة أيضاً تؤمن بالديمقراطية وتبتعد عن خيار اللجوء إلى العنف السياسي، وإذا كان النظام دكتاتورياً، ستكون المعارضة مشابهة له من حيث التفكير، رغم أنها ترفع شعارات ديمقراطية وضد الدكتاتورية.

بعد 2003 اكتشفنا أنَّ الكثير من القوى السياسية التي كانت تعارض نظام البعث، لم تكن تعارضه لأنّه نظام أسّس دكتاتورية الحزب الواحد والزعيم الأوحد، وإنما هي لم تجد فرصة لِلمشاركة في الحكم.

ولذلك كانت الكثير من الشخصيات السياسية وزعامات الأحزاب ترفع شعارات المطالبة بالنظام الديمقراطي، ولكن لا سلوكها السياسي ولا حتى طبيعة نظامها الحزبي له علاقة بالممارسات الديمقراطية.

وكما يقول أستاذنا الراحل، فالح عبد الجبار، صحيح أنَّ الديمقراطية تقوم على الرضا، "لكنّها لا تولده. فالرضا يأتي دوماً من توسيع المشاركة الاقتصادية والسياسية والثقافية"، وعليه عملت الطبقة الحاكمة بعد 2003 على اختزال النظام الديمقراطي بالانتخابات فقط، وجرى تثبيت الأعراف السياسية على أساس حكم زعماء المكونات بدعم خارجي وليس ما تعبّر عنه إرادة الناخبين.

وكشفت احتجاجات تشرين 2019 عجزَ النظام السياسي عن الاستجابة لمتطلبات الجمهور، وعبّرت عن تيارات شعبية رافضة لمنظومة الحكم ولتراكمات العجز والفشل والفساد في تقديم المنجز الخدمي لِلمواطن.

لكنّ الاحتجاجات كانت تفتقر إلى شخصيات قيادية ومشروع سياسي واضح المعالم والخطوات. وبقيت تعبّر عن حالةٍ من التذمر السياسي المبعثَر. وبالنتيجة تم استغلاله من قبل شخصيات قريبة مِن منظومة السلطة وإرادات خارجية تمكنت من الوصل إلى رئاسة الحكومة.

والمفارقة التي تكمن في أنَّ معادلة المنظومة الحاكمة تنتج معارضةً على شاكلتها، بقيت مستمرّة رغم أن الفرصةَ كانت متاحةً لِكسر احتكار منظومة الأحزاب السلطوية المتنفذة في انتخابات تشرين 2021.

فرغم بقاء مستوى المشاركة في تلك الانتخابات، إلا أن فوز الكثير من الشخصيات التي رفعت لافتة الاستقلال عن أحزاب السلطة التقليدية في مناطق الوسط والجنوب كان مؤشراً جيداً وعبّر عن تفاؤلٍ سرعان ما تضاءل وتحوّل إلى انتكاسةٍ جديدة! لأنَّ معالم الفوضوية والخراب تحوّلت إلى أسس تحكم الحياةَ السياسية في العراق.

ومِن هنا، لا يمكن أن نتوقّع أن تكون القوى الصاعدة أكثر نضجاً واحترافيةً في السياسة مِن منظومة الحكم الفاشلة.

لا يمكن الرهان على صعود الشخصيات المستقلّة في تصحيح مسار العملية السياسية، لأنَّ الموضوع لا يقترن بمجرد الحصول على مقعد في برلمان محكوم مِن قبل زعامات سياسية تجيد المناورات وتهميش الخصوم أو إغراءهم، وحتّى اختراقهم من قبل شخصيات سياسية تحمل عناوين مستقلة ولكنّها في الخفاء تعمل وتنضوي تحت عباءة زعامات أحزاب السلطة.

ورغم حُسن الظن بعدد مِن الشخصيات المستقلة التي حصلت على المقعد النيابي بجدارة واستحقاق، وكان لها حضور ومواقف متميزة في الدفاع عن مطالب الجماهير، وكانت فعلاً تستحق ثقة الشارع الذي انتخبها، إلا أن تلك الشخصيات لا يمكن لها أن تكون فاعلة ومؤثرة في ظل غياب المشروع السياسي الذي يوحّد مواقفها داخل قبة البرلمان. ويمكن أن يؤثّر عليها سلوكيات وخطابات شعبوية من قبل بعض الشخصيات التي تحسب على التشكيلات السياسية الجديدة.

يقول عالم الاجتماع السياسي الألماني، ماكس فيبر: "إنَّ مَن يمارس السياسة يسعى إلى السلطة"، السلطة هنا بوصفها وسيلة لخدمة أهداف أخرى، مثالية أو أنانية، أو "السلطة مِن أجل السلطة"، من أجل الاستمتاع بشعور الامتياز الذي تمنحه.

لذلك القوى والشخصيات السياسية المستقلّة التي حصلت على مقاعد برلمانية، تقف أمام تحدي تحديد الموقف مِن مشاركتها في السلطة في أي اتجاه مِن الذي حدده فيبر. وعليها أن تدرك أنّها تقاتل في معركة متعددة الجبهات، أهمها جبهة الأحزاب السياسية التقليدية التي سوف تستخدم كلّ أسلحة التسقيط السياسي حتّى تثبت فشل الرهان على صعود المستقلين.

وجبهة الشارع الذي بات ناقماً على كل العناوين السياسية ولن يتهاون مع مَن يصل إلى البرلمان بأصواته، وسوف يحاكم البرلمانيين على أساس مواقفهم وليس الخطابات والهتافات الحماسية التي كان يسمعها منهم.

وعلى المستقلين في البرلمان العراقي إدراك أنَّ خطيئة التخاذل عن مواجهة قوى السلطة التقليدية أو مهادنتهم، سوف تكون خسارةً كبيرة جداً ليس لهم باعتبارهم شخصيات سياسية، وإنما خسارة لتجربة جديدة كان يمكن الرهان عليها لإعادة الاعتبار إلى الانتخابات والبرلمان.

ولا يمكن أن يصابوا بعدوى الشعارات والمواقف الشعبوية، بل عليهم الشروع بتأسيس مشروع سياسي يتجاوز التشتت والشخصنة التي كانت واضحة طوال الأشهر الماضية، لا سيما أن الفرصة لا تزال متاحة ويمكن البدء بخطوات التصحيح وتأسيس ببناء الثقة بين الشخصيات المستقلة والقوى السياسية الصاعدة.

وبالعودة مرّةً أخرى إلى فيبر فإنّه يقول: "في نهاية الأمر لا نجد في مجال السياسة إلا نوعَين من الخطايا المميتة، النوع الأول، عدم الدفاع عن أي قضية وانعدام المسؤولية. والثاني، الغرور السياسي، أو ما يصفه بالحاجة التي تدفع المرءَ قدر الإمكان إلى أن يكون محط الأنظار في الصفوف الأمامية... وهنا يمكن أن يواجه السياسي خطر التحول إلى بهلوان".

وختاماً، العمل السياسي في العراق بحاجة إلى إعادة الاعتبار لمعايير الاحترافية السياسية التي حددها فيبر، والتي تستوجب التمتع بصفات ثلاث حاسمة: الشغف، والشعور بالمسؤولية، وبُعد النظر.

الشغف أي الانكباب على القضية، لكنّ الشغف وحده يبقى مجرد شعور لا يصنع سياسياً، ومهما كان الإحساس به صادقاً، فهو لا يعتبر كافياً، ما لم يكن في خدمة قضيّة، وما لم نجعل مِن المسؤولية المقابل لهذه القضية النجم الهادي الذي يحدد سلوكنا. ويضاف إلى ذلك أيضاً الحاجة إلى بُعد النظر، لأنّها الملَكة التي يحتاجها كلّ سياسي، والتي بغيابها ينتج سلسلةً من الأخطاء القاتلة بالنسبة إلى كل مَن يتعاطى السياسة.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.