شاب يفحص حبوب القمح في مطحنة بلبنان- تعبيرية
شاب يفحص حبوب القمح في مطحنة بلبنان- تعبيرية

"عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه"، قول ثوري نُسب قبل مئات السنين لأبي ذر الغفاري، وما زال حتى اللحظة برنامجا يُجسد صراع الفقراء من أجل حياة كريمة.

حضرت هذه العبارة في ذهني، وشغلت تفكيري حين تزايد الحديث عن أزمة غذاء عالمية تتنامى منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وبعد معلومات متواترة عن قيود وضعتها العديد من الدول على تصدير المواد الغذائية، وخاصة الحبوب.

حالة من القلق تتسرب رويدا رويدا في الأردن، وجريدة الغد اليومية استشعرت الهواجس، وأفردت ملفا خاصا في نسختها الورقية عن الأمن الغذائي، ونبهت إلى تحديات شُح المياه والتصحر وضعف التزويد.

العالم في حالة استنفار، وحتى لو انتهت الحرب الروسية على أوكرانيا الآن ووضعت أوزارها، فإن التداعيات الكارثية قد وقعت، وآثارها خلفت دمارا في الدول الأكثر هشاشة.

تُدرك دول العالم وأجهزتها الاستخبارية أن أزمة الغذاء وارتفاع أسعاره الحاد، هذا إن توفر، بالتزامن مع تصاعد أسعار المشتقات البترولية قد يكون مقدمة لاضطرابات سياسية، واندلاع موجات غضب وقودها الفقراء الذين بات وصولهم إلى الطعام أمرا متعذرا وصعبا.

المعهد الدولي لبحوث السياسات الزراعية يُقر أن أوكرانيا وروسيا تُنتجان ثلث القمح المتداول في الأسواق العالمية وربع الشعير، ومديرة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، سامانثا باور، تعترف أن أسعار المواد الغذائية ارتفعت 34 في المئة على المستوى العالمي، وحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" فإن فاتورة الواردات الغذائية عالميا ستصل إلى 1.8 تريليون دولار عام 2022 بزيادة قدرها 51 مليار دولار عن العام الماضي 2021.

بعد أن اندلعت الحرب في أوكرانيا صار الخبراء يُذكّرون بأهميتها كمورّد رئيسي للغذاء، وأطلقوا عليها وصف "سلة خبز العالم".

مجلة الإيكونوميست تُحذر من الاضطرابات بسبب ارتفاع أسعار النفط والغذاء، ورغم هذا الطنين المتزايد فإن هدير المعارك مستمر، ويظهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، متماسكا سياسيا، ولا مباليا تجاه أزمات العالم التي فجرها بعد أن حرك دباباته نحو أوكرانيا.

الأسئلة المُحيرة الآن، ألم يكن بوتين يعرف أن هذه الحرب قد تقود إلى انفجارات غير محسوبة؟ وبالمقابل، هل كانت أميركا والاتحاد الأوروبي والناتو أيضا يُدركون المخاطر؟ ويريدون أن يذهب الرئيس الروسي نحو هذا المنزلق، الذي ربما يوحدهم أكثر ويورط روسيا في مستنقع أوكرانيا ويصنع تحالفا دوليا مضادا لها، حتى وإن كان ثمن كل ذلك "ثورة جياع" قد تندلع؟

على ضفاف هذه الأزمة العالمية فإن العالم العربي لا ينجو دائما ويدفع الثمن والهواجس من انتفاضات الفقراء شبحها لا يغيب، وفي هذا المقام يستذكرون "ثورات الربيع العربي" في عام 2010، وما تلاها، ويُعيدون إلى الأذهان أن مقدماتها كانت أزمة الغذاء الطاحنة التي انفجرت عام 2008، وعندها ارتفع مؤشر الغذاء 50 بالمئة، وأسعار القمح ارتفعت 130 بالمئة، والأرز تضاعف ثلاث مرات.

ما زالت الشعارات المُطالبة بالخبز يُسمع صداها في شوارع العواصم العربية التي انتفضت في "الربيع العربي"، فالجذور الاجتماعية والاقتصادية كامنة، ومحرك أساسي، ولا يمكن إغفالها في تحريك الشارع وغضبه.

وُئِدت ثورات "الربيع العربي" في موجتها الأولى، وحتى الموجة الثانية التي اجتاحت العراق ولبنان والسودان لم يُكتب لها الانتصار، ولكن الجمر ما زال تحت الرماد، فالفقراء يزدادون فقرا وعددا، والأزمات التي تتوالى تطحنهم أكثر، وتُحيل حياتهم جحيما.

لا تكذب جريدة "واشنطن بوست" حين تقول إن ارتفاع أسعار الغذاء كان سببا رئيسيا لاندلاع الثورات في عالمنا العربي، والانقلاب على الثورات أو قمعها أو التحايل عليها شراء للوقت، ومسكنات مؤقتة لا تُنهي الجوع ولا تُطعم الفقراء ولا تجد لهم حلا.

التقارير الواردة تكشف أن أكثر الدول العربية غير النفطية تحديدا مهددة بخطر نقص الغذاء، ويُفاقم من أزمتها حاليا أن 60 بالمئة من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا.

مؤشر الأمن الغذائي يُقدر أن 466 ألف شخص في الصومال واليمن والسودان يعيشون ظروف المجاعة، ومصر وتونس تتفاوضان مع البنك الدولي للحصول على قروض تمويلية تُلبي احتياجاتها العاجلة لتأمين الغذاء، ولبنان حسب الأرقام يعيش 80 بالمئة من سكانه تحت خط الفقر.

الأرقام مُفزعة، ففي الصومال 60 ألف شخص معرضون لخطر الجوع أو الموت جوعا هذا العام، و13 مليون سوري يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ونصف الشعب اليمني على هذه الحال.

تعاني الدول العربية من فجوة غذائية بدأت عام 2020 مع جائحة كورونا وصلت إلى 35.5 مليار دولار، وتُمثل الحبوب نقطة الضعف الكبرى، في حين بلغت وارداتها من الغذاء 20.8 مليار دولار في نفس العام.

لا تتساوى الدول العربية في التحديات التي تواجهها، فالأرقام تشي بأن الدول الأقل أداء في توفر الغذاء في مقدمتها اليمن بنسبة 27.5 بالمئة، تليها السودان 30.6 بالمئة، فسوريا 40.3 بالمئة، ثم الأردن 48.2 بالمئة، والمغرب 50.4 بالمئة.

وفي مؤشر الجوع للمنظمة العربية للتنمية الزراعية فإن الصومال يحتل المرتبة الأولى بنسبة 50.8 بالمئة، تليه سوريا وجزر القمر، يتبعها اليمن فجيبوتي والسودان.

الحال الصعب للعرب حتى وصل حد الجوع، يدفعك للكفر بالنظام العربي الذي عجز عن بناء أدنى درجات التكافل الاقتصادي، فلا يُعقل أن السودان "سلة غذاء العرب" يجوع لو استُثمر جزء من مئات المليارات التي تُهدر في تطوير الزراعة، فما عدنا ننادي بشعارات الوحدة العربية، فهذا حلم قديم صار مُفزعا، والأمر أبسط من ذلك بكثير؛ اتفاقيات زراعية تحمي أمنهم الغذائي، وتُنقذهم من الجوع حين تداهمنا الأزمات كما هو الحال الآن.

رغم الجفاف، فإن دول الخليج لا تلاحقها أزمة الأمن الغذائي بشكل فج، ودولة قطر الأولى عربيا في الأمن الغذائي، تتبعها الكويت والإمارات وسلطنة عُمان والبحرين، وقد نجت هذه الدول من الأزمات بفضل تحلية مياه البحر والزراعة المائية والأهم شراؤها لأراضٍ زراعية في الدول النامية لتأمين احتياجاتها، رغم كل الجدل الذي أثارته هذه الخطوة.

الدول العربية الأكثر استيرادا للحبوب 66 مليون طن، أكثر من قارة أسيا بما فيها الصين، ودولة مثل مصر تُعتبر الأكثر استهلاكا للقمح، ومع ذلك لم تضع الدول العربية استراتيجيات تصون شعوبها من الجوع والفقر ولا يُعرف إن كانت أزمة أوكرانيا ستعلمهم دروسا.

هيومن رايتس ووتش تُطالب الحكومات العربية بضمان الحق في الغذاء الكافي، على أن يكون ميسور التكلفة للجميع، فهناك 10 ملايين شخص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا يملكون القدرة على تأمين ما يكفي من الطعام.

الجوع أبو الكفار، والحكومات غير الديمقراطية التي تتحكم بثروات البلاد بعيدا عن قواعد الحوكمة والشفافية، وتتناثر القصص عن فساد طبقتها الحاكمة، لا تُلقي بالا لجوع الناس وبحثهم عن لقمة الخبز في حاويات القمامة ولا تسمع جرس الإنذار إلا بعد فوات الأوان، وحين لا تفيد كلمة "الآن فهمتكم" المتأخرة، فقد سبق السيف العذل.

العدالة في السماء، ولا توجد عدالة في الأرض، هكذا كان يُحدثني صديقي بعد أن سمع أن 200 مليار دولار خسرها خمسة أثرياء فقط خلال الأشهر الستة الماضية، وكانت كافية لإطعام الجوعى المنتشرين في كل بقاع العالم.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.