تريد المناهج والنظريات في علم السياسة أن تعلمنا بأن لا مكان للغيبيات أو التفسيرات الماورائية للأحداث والظواهر السياسية. لكني أعتقد بأن منظري السياسة لو عايشوا أزماتنا ومشاكلنا مع من يدعي القيادة السياسية لركنوا إلى أن ما يحدث هو سوء حظ وتواطأ الأقدار على العراقيين! وعندما تتسلط عليهم زعامات يغيب عن قاموسها مفهوم المصلحة العامة، وتآمر بعضهم على بعض ولا يثق أحدهم بالآخر، يكون الموضوع نوعاً من أنواع الابتلاءات التي تمتحن فيها الشعوب والأمم.
خطابات تشكك بنزاهة الانتخابات، وانسداد سياسي، والدفاع عن حق المكون، وتسريبات لتسجيلات صوتية لزعيم سياسي يرفع شعار (نعيدها دولة)، ولكنه لا يؤمن بالدولة وجيشها ومؤسساتها ولا يثق بحلفائه! والخلاف بشأن مرشح رئاسة الوزراء هل يكون من قيادات الخط الأول أم من قيادات الخط الثاني، وخلافات بشأن لمن يكون منصب رئاسة الجمهورية وعلى المرشح للمنصب. تلك هي انشغالات قياداتنا السياسية، وسيادة العراق تنتهك بالصواريخ الإيرانية، والهجوم بالقنابل التركية على مصيف سياحي يخلّف شهداء وجرحى، ومن هنا يمكن أن نتخيل المسؤولية الأخلاقية والسياسية لمن يدعي القيادة السياسية في هذا البلد!
ومن انسداد سياسي سببه الخلاف بين زعامات تدعو إلى حكومة الأغلبية وأخرى تريد الابقاء على التوافقية، ننتقل إلى انسداد غير معلن بين زعامات الإطار التنسيقي، التي لحد الآن لا نعرف على أي معيار يتم تحديد الزعامة داخل الإطار، هل هي على أساس الأوزان الانتخابية أم على أساس الرمزية السياسية أو المجاملات والعلاقات مع أقطاب خارجية مؤثرة في القرار السياسي الشيعي؟
وبانتظار الدخان الأبيض من غرف اجتماعات الإطار التنسيقي لإعلان مرشحهم لرئاسة الحكومة، يبدو أن أزمة الاتفاق على رئاسة الحكومة داخل الشيعة، ورئاسة الجمهورية بين القيادات الكردية، وفي المستقبل القريب الخلافات على رئاسة مجلس النواب بين الزعامات السنية، هي مؤشر على أن الخلافات السياسية كلما تتصاعد تكون نتيجتها تشظي المواقف وظهور التقاطعات السياسية إلى العلن لتخبر عن أزمة قيادة سياسية.
وبما أن الخلاف الأكبر يكون دائماً على رئاسة الحكومة، بالنتيجة النهائية تكون القوى السياسية وزعامتها التي تسمي رئيس مجلس الوزراء هي المسؤول الأول والأخير عن شكل الحكومة ومراحل إدارة الدولة. ويبدو أن الإطار التنسيقي لحد الآن غير قادر على تجاوز مرحلة تسمية شخصية رئيس الوزراء بسبب الخلاف غير المعلن بين زعامات الإطار، والصراع بين زعيم سياسي يريد الحصول على المنصب، أو أن يأتي بشخص يرتضيه ويكون ظله في أعلى منصب تنفيذي بالدولة العراقية.
يفترض بقادة الإطار التنسيقي أن تحالفهم جرى على أساس الاتفاق في وجهات النظر وأن هناك تقارب في التفكير الاستراتيجي الذي يمكن أن يوحدهم نحو هدف مشترك، ويبدو أن نجاحهم بالقباء موحدين كان بسبب تخوفهم من استئثار الصدر بتشكيل الحكومة وخروجهم خارج معادلة السلطة. لكن بعد استقالة الكتلة الصدرية من البرلمان تكشف عمق الخلافات بينهم على مسألة المرشح لرئاسة الحكومة!
وهج الزعامات هو مشكلة الإطار التنسيقي، وهذه المشكلة ليست وليدة اللحظة التي اجتمعت فيها قوى الإطار، وإنما هي مشكلة بنيوية في داخل كل القوى السياسية التي شكلت هذا التحالف السياسي. فهذا التحالف يدمج بين ثنائية السياسية والسلاح، ويجمع أقطاباً متنافرة في الخطاب والتوجه، وتجمعهم رغبة الحفاظ على النفوذ السياسي وعلى مكاسب السلطة.
عندما يحاول الحكام السياسيون أن يضيفوا إلى سلطتهم السياسية مكانة الزعامة، التي تدعم شرعية وضعهم السياسي، نكون أمام ظاهرة (شخصنة السلطة)، كما يسميها عالم الاجتماع السياسي موريس دفريجيه. ولعل تلك هي أساس المشكلة التي تتصارع عليها أغلب قيادات الإطار التنسيقي. إذ يدرك جيداً كل من نوري المالكي وحيدر العبادي، ماذا يعني منصب رئيس الوزراء. لا سيما أن كليهما قد حصلا على الزعامة من خلال الوصول إلى المنصب الذي نقلهم من قيادات داخل حزب الدعوة إلى زعماء سياسيين. ويدرك، أيضاً، زعيم تحالف الفتح هادي العامري أن زعامته السياسية لا يمكن أن تترسخ أكثر إلا بالحصول على هذا المنصب. لكن الخلافات الشخصية وعدم الثقة بين أطراف الإطار التنسيقي هي من يقف عائقاً أم ترشيح كل هؤلاء.
وبينما تظل قوى الإطار التنسيقي تفكر بحكومة يرأسها موظف لدى زعامات الإطار ويؤمّن مصالحهم، فإن هذه القوى تعيد تجربة حكومة عادل عبد المهدي وحكومة مصطفى الكاظمي اللتان ساهمتا بالتضحية بالدولة من أجل تحقيق مكاسب الأطراف السياسية، وزيادة الفجوة بين النظام السياسي والجمهور.
لا يوجد لدى قوى الإطار التنسيقي ترف المفاضلة بين الخيارات، فالشارع يترقب حكومةً جديدة تعالج تراكم الأزمات، وتواجه التدهور والانهيار وتقوم بالحد الأدنى من وظائفها الأمنية والخدمية والاقتصادية. ومع وجود التيار الصدري الذي يراقب خطوات الحكومة القادمة عسى ولعل أن يبرز الاخفاق في إحدى ملفاتها أو وظائفها حتى يتم التظاهر عليها وإسقاطها. وهنالك أطراف سياسية شركاء في المغانم من غير تحمل مسؤولية الفشل.
إذاً، خيارات الإطار تنحصر بين أن يعطوا مسؤولية رئاسة الحكومة إلى قيادي من داخلهم، أو أن يعملوا على صناعة زعيم. فالقائد يصنع ولا يولد كما يرى منظرو المدرسة السلوكية في علم الاجتماع السياسي. وأن يكون تفكرهم بمستوى التحدي وأن الحكومة القادمة هي الفرصة الأخيرة لهذا النظام السياسي الذي يتهاوى نحو السقوط يوماً بعد آخر.
وعلى زعامات قوى الإطار التنسيقي أن تدرك أن زعامتهم رهن بنجاح الحكومة، أما الغرور والنرجسية السياسية التي تطغي على خطابات بعض زعامات الإطار فإنها لن تصحح علاقتهم مع الجمهور، لا بل تعجّل من توقيت مغادرتهم المشهد السياسي.