رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي

تريد المناهج والنظريات في علم السياسة أن تعلمنا بأن لا مكان للغيبيات أو التفسيرات الماورائية للأحداث والظواهر السياسية. لكني أعتقد بأن منظري السياسة لو عايشوا أزماتنا ومشاكلنا مع من يدعي القيادة السياسية لركنوا إلى أن ما يحدث هو سوء حظ وتواطأ الأقدار على العراقيين! وعندما تتسلط عليهم زعامات يغيب عن قاموسها مفهوم المصلحة العامة، وتآمر بعضهم على بعض ولا يثق أحدهم بالآخر، يكون الموضوع نوعاً من أنواع الابتلاءات التي تمتحن فيها الشعوب والأمم.

خطابات تشكك بنزاهة الانتخابات، وانسداد سياسي، والدفاع عن حق المكون، وتسريبات لتسجيلات صوتية لزعيم سياسي يرفع شعار (نعيدها دولة)، ولكنه لا يؤمن بالدولة وجيشها ومؤسساتها ولا يثق بحلفائه! والخلاف بشأن مرشح رئاسة الوزراء هل يكون من قيادات الخط الأول أم من قيادات الخط الثاني، وخلافات بشأن لمن يكون منصب رئاسة الجمهورية وعلى المرشح للمنصب. تلك هي انشغالات قياداتنا السياسية، وسيادة العراق تنتهك بالصواريخ الإيرانية، والهجوم بالقنابل التركية على مصيف سياحي يخلّف شهداء وجرحى، ومن هنا يمكن أن نتخيل المسؤولية الأخلاقية والسياسية لمن يدعي القيادة السياسية في هذا البلد!

ومن انسداد سياسي سببه الخلاف بين زعامات تدعو إلى حكومة الأغلبية وأخرى تريد الابقاء على التوافقية، ننتقل إلى انسداد غير معلن بين زعامات الإطار التنسيقي، التي لحد الآن لا نعرف على أي معيار يتم تحديد الزعامة داخل الإطار، هل هي على أساس الأوزان الانتخابية أم على أساس الرمزية السياسية أو المجاملات والعلاقات مع أقطاب خارجية مؤثرة في القرار السياسي الشيعي؟ 

وبانتظار الدخان الأبيض من غرف اجتماعات الإطار التنسيقي لإعلان مرشحهم لرئاسة الحكومة، يبدو أن أزمة الاتفاق على رئاسة الحكومة داخل الشيعة، ورئاسة الجمهورية بين القيادات الكردية، وفي المستقبل القريب الخلافات على رئاسة مجلس النواب بين الزعامات السنية، هي مؤشر على أن الخلافات السياسية كلما تتصاعد تكون نتيجتها تشظي المواقف وظهور التقاطعات السياسية إلى العلن لتخبر عن أزمة قيادة سياسية.

وبما أن الخلاف الأكبر يكون دائماً على رئاسة الحكومة، بالنتيجة النهائية تكون القوى السياسية وزعامتها التي تسمي رئيس مجلس الوزراء هي المسؤول الأول والأخير عن شكل الحكومة ومراحل إدارة الدولة. ويبدو أن الإطار التنسيقي لحد الآن غير قادر على تجاوز مرحلة تسمية شخصية رئيس الوزراء بسبب الخلاف غير المعلن بين زعامات الإطار، والصراع بين زعيم سياسي يريد الحصول على المنصب، أو أن يأتي بشخص يرتضيه ويكون ظله في أعلى منصب تنفيذي بالدولة العراقية.

يفترض بقادة الإطار التنسيقي أن تحالفهم جرى على أساس الاتفاق في وجهات النظر وأن هناك تقارب في التفكير الاستراتيجي الذي يمكن أن يوحدهم نحو هدف مشترك، ويبدو أن نجاحهم بالقباء موحدين كان بسبب تخوفهم من استئثار الصدر بتشكيل الحكومة وخروجهم خارج معادلة السلطة. لكن بعد استقالة الكتلة الصدرية من البرلمان تكشف عمق الخلافات بينهم على مسألة المرشح لرئاسة الحكومة!

وهج الزعامات هو مشكلة الإطار التنسيقي، وهذه المشكلة ليست وليدة اللحظة التي اجتمعت فيها قوى الإطار، وإنما هي مشكلة بنيوية في داخل كل القوى السياسية التي شكلت هذا التحالف السياسي. فهذا التحالف يدمج بين ثنائية السياسية والسلاح، ويجمع أقطاباً متنافرة في الخطاب والتوجه، وتجمعهم رغبة الحفاظ على النفوذ السياسي وعلى مكاسب السلطة.

عندما يحاول الحكام السياسيون أن يضيفوا إلى سلطتهم السياسية مكانة الزعامة، التي تدعم شرعية وضعهم السياسي، نكون أمام ظاهرة (شخصنة السلطة)، كما يسميها عالم الاجتماع السياسي موريس دفريجيه. ولعل تلك هي أساس المشكلة التي تتصارع عليها أغلب قيادات الإطار التنسيقي. إذ يدرك جيداً كل من نوري المالكي وحيدر العبادي، ماذا يعني منصب رئيس الوزراء. لا سيما أن كليهما قد حصلا على الزعامة من خلال الوصول إلى المنصب الذي نقلهم من قيادات داخل حزب الدعوة إلى زعماء سياسيين. ويدرك، أيضاً، زعيم تحالف الفتح هادي العامري أن زعامته السياسية لا يمكن أن تترسخ أكثر إلا بالحصول على هذا المنصب. لكن الخلافات الشخصية وعدم الثقة بين أطراف الإطار التنسيقي هي من يقف عائقاً أم ترشيح كل هؤلاء.

وبينما تظل قوى الإطار التنسيقي تفكر بحكومة يرأسها موظف لدى زعامات الإطار ويؤمّن مصالحهم، فإن هذه القوى تعيد تجربة حكومة عادل عبد المهدي وحكومة مصطفى الكاظمي اللتان ساهمتا بالتضحية بالدولة من أجل تحقيق مكاسب الأطراف السياسية، وزيادة الفجوة بين النظام السياسي والجمهور.

لا يوجد لدى قوى الإطار التنسيقي ترف المفاضلة بين الخيارات، فالشارع يترقب حكومةً جديدة تعالج تراكم الأزمات، وتواجه التدهور والانهيار وتقوم بالحد الأدنى من وظائفها الأمنية والخدمية والاقتصادية. ومع وجود التيار الصدري الذي يراقب خطوات الحكومة القادمة عسى ولعل أن يبرز الاخفاق في إحدى ملفاتها أو وظائفها حتى يتم التظاهر عليها وإسقاطها. وهنالك أطراف سياسية شركاء في المغانم من غير تحمل مسؤولية الفشل.

إذاً، خيارات الإطار تنحصر بين أن يعطوا مسؤولية رئاسة الحكومة إلى قيادي من داخلهم، أو أن يعملوا على صناعة زعيم. فالقائد يصنع ولا يولد كما يرى منظرو المدرسة السلوكية في علم الاجتماع السياسي. وأن يكون تفكرهم بمستوى التحدي وأن الحكومة القادمة هي الفرصة الأخيرة لهذا النظام السياسي الذي يتهاوى نحو السقوط يوماً بعد آخر.

وعلى زعامات قوى الإطار التنسيقي أن تدرك أن زعامتهم رهن بنجاح الحكومة، أما الغرور والنرجسية السياسية التي تطغي على خطابات بعض زعامات الإطار فإنها لن تصحح علاقتهم مع الجمهور، لا بل تعجّل من توقيت مغادرتهم المشهد السياسي.  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.