A baby stroller is seen at the scene of an attack on a mountain resort in Iraq's northern province of Dohuk,
من منتجع زاخو في دهوك الذي تعرض للقصف- أرشيف رويترز

الغارة التركية على دركار/ زاخو في كردستان العراق، والتي أفضت إلى قتل نحو عشرة مدنيين عراقيين، توجت عام انتهاكات سيادة العراق، ناهيك عن استباحة دماء أهله، ففي الشهر الثالث من هذا العام أيضاً، أقدم الحرس الثوري الإيراني على قصف مدينة أربيل، عاصمة الإقليم الكردي العراقي، بصواريخ بالستية انطلقت من مواقع الحرس داخل الحدود الإيرانية العراقية.

وفي كلا الانتهاكين لم يتصرف العراق الرسمي على نحو ما تتصرف الدول المنتهكة سيادتها، وهنا لا نعني أن يرد على القصف بالقصف، وعلى الاحتلال بالاحتلال، انما خطوة من نوع قطع العلاقات الديبلوماسية، أو حتى استدعاء السفير، بدا العراق حيالها عاجز ومقيد ومحكوم بمعادلات مؤلمة فعلاً. 

إنها معادلة الجار الكبير، وإذا كان لبنان يعاني من جارٍ كبير واحد هو سوريا، والكويت سبق أن ذاقت مرارة جار كبير واحد هو العراق نفسه، فإن للعراق جارين كبيرين وشرهين، ولهما في العراق ما يفوق ما لسوريا في لبنان وما للعراق في الكويت. لهما أقوام وطوائف وأعداء، ولهما أيضاً أنهراً تنبع منهما وتعبران العراق، وهذه الأنهر هي شاهد ثانٍ على الانتهاكات، ذاك أن السدود التركية والإيرانية تتولى هذه الأيام مهمة تجفيف العراق، وحرمانه من حقوقه في المياه، ولهما أيضاً وأيضاً مقامات ومزارات وأضرحة. 

جاران ثقيلان ومرهقان قولاً وفعلاً، ولكل منهما مع العراق تاريخ الانتهاكات، وما يفعلانه ليس أكثر من مواصلة لفعل دأبا عليه منذ عقود طويلة. تركيا تستحضر "معاهدة" منتهية الصلاحية مع نظام صدام حسين، وإيران تستحضر حقوقها "المذهبية" في مدن العتبات. واللافت أن أطماع الجارين تنعقد في أعنف صورها وأشدها فضاضة عند أكراد العراق، فليس مصادفة أن تستهدف الصواريخ الإيرانية والتركية مدن الأكراد ومحافظاتهم، بوصفها الخاصرة العراقية الأسهل التي يمكن عبرها تمرير الرسائل. 

تتفاوت خريطتا نفوذ وأطماع كل من إيران وتركيا في العراق وفقاً لخرائط النفوذ والعداوات الأهلية. فشريط الأطماع التركية الذي يبلغ مدينة كركوك في شمال العراق لا يتقاطع مع شريط النفوذ الإيراني في مدن العتبات الشيعية في الفرات الأوسط وفي الجنوب، إلا أن الأدوار تنقلب إذا ما استعرضنا النفوذ المائي لكلا الجارين، فأنقرة تتولى تجفيف الأنهر في وسط العراق (الفرات ودجلة) فيما تتولى طهران تجفيف الأنهر التي تعبر حدودها مع إقليم كردستان. وهذا الرقص فوق السيادة العراقية يعود لينعقد عند حدود الإقليم الكردي على نحو مأساوي، ذاك أن الأكراد هم "أعداء الداخل" لكلا الامبراطوريتين، وهم من دأبتا على اضطهادهم داخل حدودهما، فما الذي يمنعهما من مد الاضطهاد إلى العراق، طالما أن الأخير ممزق ومنتهك وضعيف.   

وهنا تلوح معادلة "البيضة والدجاجة" مجدداً، فالصدوع العراقية ولدت أصلاً من أطماع الجيران، والعراق "الموحد والقوي" سبق أن جرى اختباره في ظاهرة صدام حسين، فأشعل الحرب مع إيران وانقض على الكويت وقتل الأكراد واضطهد الشيعة. وجاءت تجربة الاحتلال الأميركي فعممت "الصدامات"، بحيث صار للشيعة صدامهم (نوري المالكي ومن خلفه) وللأكراد صدامهم (مسعود البارزاني وعائلته) وللسنة العرب خليفتهم (أبو بكر البغدادي). 

 والحال أن المرء يجب ان لا يسقط في الفخ الشعبوي المتمثل بالطلب من العراق، بوضعه الراهن، أن يقف في وجه شراهة الجارين الكبيرين، لكن يمكن له أن يستعيد أسباب استيقاظ الأطماع الإمبراطورية لكل من طهران وأنقرة. وهنا سيخلص إلى أن تمزق العراق وتنازع جماعاته وتفككها هي المصدر الأول لهذه الأطماع.

لإيران حصة وازنة في السلطة العراقية تتيح لها قصف أربيل على نحو لا يقلق سفيرها في بغداد، وتركيا تستبيح السيادة العراقية منذ العام 2003 بغطاء من الناتو، فتحتل مساحات من الشمال وتقيم قواعد عسكرية داخل الأراضي العراقية، وكان لها صولات وجولات في العلاقات مع الجماعات المتشددة بدءاً من "القاعدة" ووصولاً إلى "داعش". وكل هذا كان يجري الاستثمار به اعتماداً على الصدوع الأهلية التي تعم بلاد ما بين النهرين. 

اذاً أمام العراقيين مهمتين هائلتا الصعوبة، الأولى العمل على الحد من سهولة انتهاك الجيران بلدهم، والثانية وهي لا تقل أهمية، هي إقناع الجيران الكثر لهذا البلد بأن العراق القوي لن يمثل تهديداً لجيرانه ولأقلياته. الطريق طويل للوصول إلى ذلك، والعراق لم يباشر بعد سيره فيها، وفي هذا الوقت لن يكون للأكراد صديق سوى الجبال.     

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.