نختبر في لبنان، بحكم الكارثة المتواصلة التي نعيشها، أنماطاً وأشكالاً جديدة من الوقائع والخطوات، نقضي عبرها حاجاتنا اليومية. اكتشفنا مؤخراً أن إرسال الثياب إلى المصبغة بدل استعمال الغسالة في المنزل أقل كلفة، ذاك أن الغسالة تستهلك طاقة كهربائية مدولرة بحكم دولرة فاتورة المولد الكهربائي الذي نشترك فيه، في حين لم تخضع أسعار المصبغة للدولرة الكاملة حتى الآن! ثمة هامش في السعر، شرع يضيق، لكنه إلى الآن، ما زال يتيح بعض الوفرة.
في مقابل الدولة الفاشلة والمسؤول الفاسد في لبنان، هناك المواطن الماكر، المواطن الذي لم يجد غير المكر سبيلاً لتصريف حاجاته. المواطن الخاضع لفساد السلطة، والمنخرط فيه بوصفه خياراً وحيداً متاحاً، خياراً من دونه الموت أو الجنون. على هذا النحو نسير نحن اللبنانيون نحو مستقبلنا الذي نرى بأعيننا أنه ليس سوى الهاوية!
تضيق الخيارات يوماً بعد يوم، ونشرع في ظل هذا الاختناق بالتعامل بـ"واقعية" مع شروط هذا العيش الضيق. بعد انفجار المرفأ، في أغسطس من العام 2020، كان شرطنا الأول على السلطة التي تسببت به، تحقيقاً شفافاً تعقبه محاسبة، فكان أن عطل حزب الله التحقيق، وانتقلنا بعدها للمطالبة بالمحافظة على مبنى الصوامع كمجسم وكأثر يذكرنا بالكارثة. فشلنا أيضاً. السلطة لا تريد ما يذكرنا بما ارتكبت.
انحسر المطلب الآن إلى سؤال السلطة عن خطتها لإطفاء الحريق المشتعل في الصوامع منذ أكثر من شهر، نظراً لما يشكله الحريق من مصدرِ لملوثات سامة! ها نحن نقول للسلطة: اهدمي الصوامع ووفري علينا التلوث. هذا كل ما نطمح إليه الآن.
هذه حالنا. انحدار في انتظاراتنا وتوقعاتنا يوازيهما قبول وخضوع لإرادة الجناة. نعم الجناة الذين يعيشون بيننا، ويشهرون ثرواتهم أمام الجميع. في الحر الشديد كما في البرد الشديد، نختبر يومياً الفارق الذي صنعته الكارثة بين كوابيسنا والنعيم الذي يعيشون به. هم لا يخجلون به، ونحن بدورنا قبلنا، واستعضنا بالمكر عن الغضب وعن الثورة. لا بل رحنا ننقل مكرنا من مساحة إلى مساحة. في البداية لم يكن أمامنا إلا سبيلاً واحداً يتمثل في توظيف الدعم على السلع لرأب الفقر الذي ألم بنا. لم نكترث لحقيقة أن مصدر هذا الدعم هو ودائعنا، وأنه سبيلنا إلى مزيد من الانهيار، إلى أن نضب الاحتياط المالي، فقبلنا برفع الدعم، وها نحن اليوم نبحث عن أشكالٍ جديدة نستعين عليها بما نظن أنه مكر، وهو في الحقيقة ليس أكثر من احتيال العاجز على عجزه.
ثمة استعصاء وتسليم وتعايش مع الكابوس، سيولد كارثة من دون شك. عائلات تركب مراكب هشة في رحلات هجرة غير شرعية يموت كثيرون منها في البحر، وشبان يلتحقون بـ"داعش" ويموتون في العراق، وعلى المقلب المذهبي الآخر يغرق الفتية في طقوس عاشورائية تبلغ من الغرابة، بعد أن يحقنها المرشد بجرعات من التعصب، مستويات هذيانية، هذا في وقت يشعر المسيحيون فيه أن الرحيل قد حان وقته، ولم يبق إلا تقاضيهم تعويضاً لإخلائهم البلد الذي يعتقدون أنه أُسس لهم، فيتولى ممثلوهم في السلطة تجيير حصة المسيحيين لحزب الله، لقاء مزيد من مساحات الفساد الذي سينعمون بعائداته بعد إعلان نهاية لبنان.
لا ليس ما يشهده لبنان أمر سبق اختباره في بلدان أخرى. فالبلدان تشهد نهاياتها وفق سيناريوهات غير السيناريو الذي نعيشه. الحروب والاحتلالات والتقسيم أو الاندماج، هي ما سبق أن شهدته تجارب ودول ومجتمعات.
في لبنان لا يلوح أي من هذه المصائر. الانحلال والذواء سيخلف أرضاً بلا دولة، أو مجتمعات ما قبل الدولة! من سيحتمل العيش في زمن ما قبل الدولة؟ ها نحن اليوم نشهد فصولاً من هذه التجربة. لا نبالغ إذا قلنا ذلك. اللبناني لكي يحصل على جواز سفر، عليه أن ينعم بموافقة مباشرة من مدير الأمن، والناجحون في الشهادة الثانوية لكي يحصلوا على وثيقة النجاح عليهم أن يتظاهروا أمام الوزارة، وأن ترسل لهم الجامعات قبولاً، وأن يثبت أهلهم أنهم يملكون الـ"فريش دولار" لكي يرسلوهم إلى الخارج. في هذا الوقت يقول رئيس الجمهورية، ميشال عون، أنه سيعمل على وصول رئيس يكمل المسيرة التي بدأها.
أن يصير لبنان مجرد ساحة هو المصير الذي تفضي إليه تجربة يدفعنا إليها حزب الله. ساحة تقايض فيها دول مصالحها مع أثمان تتقاضاها. ساحة يحل فيها المرشد محل القاضي، ويطرد منها أي طامح بالتواصل مع مستجدات الشروط الإنسانية. الناس فيها مجرد رعية ينعم عليهم أمراء الفساد بما يبقيهم على قيد الحياة، فيما يغادر آخرون عبر البحر، فينجو من ينجو، ويغرق من يغرق.