من المقال "يدرك الجميع أنّ نصرالله ينفّذ إرادة الولي الفقيه"- أرشيفية
من المقال "يدرك الجميع أنّ نصرالله ينفّذ إرادة الولي الفقيه"- أرشيفية

لا يعترض كثير من اللبنانيين، لأسباب كثيرة، على التداخل بين الديني والسياسي في بلادهم، ولو كانت هناك شريحة وازنة تسعى، ومنذ فترة طويلة، إلى فصل الدين ليس عن الدولة، فحسب بل عن السياسة، أيضا.

ولكنّ هذا التداخل "المقبول" انحرف، في الآونة الأخيرة، عن مساره الكلاسيكي، ولا سيّما عندما أعلن الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله أنّ السياسة التي ينتهجها، وهي قائمة على القوة والتهديد والسلاح والعبوة الناسفة، تستند الى تكليف من الله!

وهذا "التكليف" سبق أن اعتمده القادة الذين رفضوا ليس وجود من يعارضهم فحسب، بل من يناقشهم، أيضا، فكانوا أخطر شخصيات عرفتها البشرية، الأمر الذي اختصره وزير الخارجية الأميركية السابق جايمس بايكر يوما، بقوله: "عندما يقتنع إنسان بأنّه يعرف جيّداً إرادة الله وَيُصَمّم على تنفيذها، بأي ثمن، يُصْبِح أخطر شخص في العالم".

ويدرك الجميع أنّ نصرالله ينفّذ إرادة "الولي الفقيه" الذي هو المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية في إيران.

قد يكون بنظر بعض فقهاء "الخمينية الدينية"، هذا تكليفًا من الله، بواسطة "الولي الفقيه"، ولكن، في نظر غالبية المكوّنات البشرية، بما في ذلك شرائح واسعة من الشيعة، فإنّ ذلك مجرّد تحريف لإرادة الله من أجل تحقيق أهداف فئوية وسلطوية وسياسية، لا أكثر ولا أقل.

وبالنسبة للمواطنين الطّبيعيّين، هم لا يؤمنون بأنّ الله يمكن أن يكلّف طرفا يحمل أجندة مذهبية وعسكرية وسياسية بتنفيذ إرادته، لأنّه والحالة هذه، يصبح الله الواحد الأحد مائة واحد وأحد، فإرادة الله المسيحي تصبح على تضارب مع إرادة الله الشيعي الذي هو على تضارب مع إرادة الله السنّي الذي يختلف مع إرادة الله اليهودي الذي له شعب مختار، والحبل على… الجرّار.

في المسألة الدينية، يملك رجال الدين الأحقية في الادعاء بأنّهم ينفّذون الإرادة الالهية التي وصلتهم عبر الكتب المقدّسة والتقاليد الرسولية والنبوية، لكن في المسألة السياسية يستحيل على طرف، مهما كان مستوى الغرور الذي أوصلته إليه قوته، الزعم أنّه مكلّف من الله، لأنّه، والحالة هذه، لا تعود لسلطته حدود معقولة، ولا تعود للمؤسسات أهمية، ولا تعود للأوطان حدود ودساتير وقواعد، لا بل لا يعود هناك مفهوم ثابت للعدو، اذ إنّه طالما أنّ الله هو الذي يكلّف، فإنّ شقيق اليوم يمكن أن يصبح خصم الغد، وصديق اليوم عدوّ الغد.

إنّ الكتب المقدّسة، على تعدّدها واختلافها، أجمعت على أنّ الله على كلّ شيء قدير، ففي الانجيل، وفي ردّ على "شوفينية" شعب الله المختار، قال السيّد المسيح، ضاربًا كبرياء زاعمي التكليف الالهي وادراك مشيئة الله: "إِنَّ اللهَ قَادِرٌ على أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيم".

وفي القرآن، كُتب الكثير بهذا المعنى، وورد في الآية الكريمة: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا".

في أزمنة سابقة، كان كلام كالذي نطق به نصرالله ممكنًا، لأنّ المنطق كان وليد القوة، ومن لا يخضع له يقطع السيف رأسه وأرضه وشعبه وخيراته، ولكنّ هذه الحالة تغيّرت، فالقوة، وإن كانت قادرة على أن تفرض نفسها، إلّا أنّها أعجز من أن تصبح منطقًا عاما.

ومشكلة اللبنانيين مع نصرالله، بالدرجة الأولى، ليست سلاح "حزب الله"، بل العقيدة التي يحاول هذا السلاح أن يفرضها عليهم لتشمل كلّ نواحي حياتهم الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية والفكرية والثقافية والفلسفية والمدنية والترفيهية، على اعتبار أنّه مكلّف من الله ويدرك إرادته.

وبهذه "الهبة العظيمة"، فرض نصرالله رئيس "التيّار الوطني الحر" ميشال عون رئيسًا للجمهورية الذي قاد سياسة محلية وإقليمية ودولية أودت بلبنان إلى الجحيم.

وبهذه "الهبة" أيضًا، يرى الخير الدفّاق في الحدود الجنوبية، ولكنّه لا يلتفت حتى لفتة صغيرة إلى الثروة الموجودة على الحدود مع سوريا.
وبهذه الهبة، أيضًا وأيضًا، يجد العبقرية الفذّة في إيران والغباء المطلق في الغرب.

إنّ الجهد لمعرفة إرادة الله هو هاجس المؤمنين، ولكن أن يزعم رجل يمتهن السياسة، بكل ما تتطلبه من وسائل ومعطيات، أنّه مكلّف من الله، فهذه كارثة وطنية عميقة.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.