امرأة تسير قرب لوحة جدارية في بريطانيا (تعبيرية)
امرأة تسير قرب لوحة جدارية في بريطانيا (تعبيرية)

المكان: إحدى العواصم الأوروبية. 
الزمان: صيف 2022...

أتجول بين الشوارع والأزقة. أركب المواصلات العمومية بأمان: قطار، ميترو، حافلة... لست مضطرة لاستعمال خدمات التاكسي، إذا لم تسمح إمكانياتي بذلك!  

فستاني قصير لكني، خلال يوم كامل، كنت أشعر بالأمن والأمان. لم أكن مضطرة للمشي بسرعة ولا لتفادي الأزقة الضيقة. لم أسمع كلمات تحرش ولم أرَ نظرات مفترسة تلتهمني. كنت أمر أمام ساحات المقاهي والمطاعم بأمان، دون أن أستشعر العيون تلتهم جسدي وتفاصيله.

أنزل من القطار وأتوجه نحو مقر إقامتي في ساعة متأخرة جدا من الليل. يتلقفني، بداية، الخوف الذي يسكن فتاةً تقيم في بلد يستحيل فيه أن تمشي بمفردها في منتصف الليل. ثم أتذكر أني في مدينة أوروبية تسمح لي بالمشي وبامتلاك الفضاء العام في كل أوقات الليل والنهار. أصلُ مقر إقامتي بسلام وأنا أفكر: لماذا تخاف معظم النساء في بلداننا من المشي في الشارع، ليس فقط في الليل بل في النهار أيضا؟

لماذا علينا أن نفكر دائما فيما نلبسه وفي الأماكن التي نمر منها؟ معظم الدراسات التي استجوبت النساء حول اختيارات الهندام، بينت نتائجها أن النساء يخترن شكل لباسهن حسب المكان الذي يتوجهن له وحسب امتلاكهن لسيارة أو لا. 

هناك، كنت أختار ملابسي بحرية وحسب مزاجي في كل يوم. لا أرهنه بالمواصلات العامة أو بعدم وجود سيارة ولا حتى بكوني سأمشي مطولا بمفردي. 

كنت أستطيع أن أشتري وجبة خفيفة وأجلس في حديقة عمومية لآكلها بفردي دون أن يزعجني أحد. 

كنت أستطيع أن أتوقف للقراءة أو التأمل أو الاستجمام في أي مكان أختاره دون أن يزعجني أحد. 

كنت أعيش بحرية أفتقدها بشدة وأنا في شوارع الدار البيضاء أو تونس أو القاهرة!

قد يعتبر البعض أن في الأمر مبالغة بما أن الدول الأوروبية والأميركية لا تخلو بنفسها من جرائم عنف وتحرش وسرقة. لكن الحقيقة الموضوعية الأخرى أن معظم المدن الأوروبية والغرب-أميركية تمنح للنساء كما للرجال والأطفال حق الاستمتاع بالفضاء العام بحرية كبيرة.

كما تمنحها حق الجلوس في حديقة بمفردها دون أن تكون منزعجة. حق المشي في النهار أو الليل دون أن تسمع عشرات التعليقات حول جسدها واستداراتها وملابسها وشعرها. حق اختيار ملابسها بحرية (باستثناء الإكراهات المهنية أو الشروط المتعلقة بزيارة أماكن التعبد، وهي مفروضة على الرجال والنساء على حد سواء).

من المؤكد أنه، في الغرب أيضا، هناك حالات تحرش واغتصاب وحالات سرقة. لكن الموضوعية تقتضي الاعتراف أن هناك نسبة أكبر من الأمان يحس بها من تتاح لهم فرص السفر للبلدان الأوروبية أو كندا أو الولايات المتحدة الأميركية، مقارنة مع بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

أما عن حالات الاغتصاب والتحرش، فهي، أولا، تبقى قليلة مقارنة مع ما يحدث في معظم بلداننا (حيث المجتمعات "متدينة" و"تحترم مكارم الأخلاق")؛ والدليل واضح للعيان من خلال تأمل علاقة النساء هناك بأجسادهن وبالفضاء العام والمقاهي والمطاعم المفتوحة على الشارع والحدائق، وهي فضاءات يتمتع بها الجميع دون تمييز في الجنس. 

ثم، ثانيا، هناك، في حالات العنف والاغتصاب والتحرش، لا يسأل أحد عن ملابس الضحية أو مكان تواجدها أو أخلاقها أو حجابها أو سمعتها (إلا في حالات شاذة نادرة)؛ ولا يستعمل أحد عبارات من قبيل كونها "كانت قد وعدته واستغلته فـ 'اضطر' لقتلها"، والتي تحول القاتل والمتحرش والمعنف لضحية وتجعل النساء ضحايا التحرش والعنف والقتل في واجهة الاتهام.

فمتى، يا وطني، يكون لي الحق في الاستمتاع فيك بحريتي في الفضاء العام؟ متى أكون فيه مواطنة لا تخاف من أبسط الأشياء: المشي؟  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.