يرجع الاهتمام بتخصص "الدراسات التاريخية" في جامعات العالم إلى بداية نشوء هذه الجامعات قبل سبعة أو ثمانية قرون. ما يعني أنه من أعرق التخصصات، وأكثرها ارتباطا باشتراطات الموضوعية العلمية الأكاديمية، فضلا عن كونه تخصّصا يضرب في أعماق التاريخ السابق لنشوء الجامعات، بل السابق لظهور الكتابة ذاتها؛ يوم كانت الأناشيد الجماعية والأساطير الغرائبية والحكايا الواقعية، تتكفل بنقل التجربة الإنسانية من جيل إل جيل.
لم تُهْدَر كُلُّ هذه الجهود المُضنية، ولم تُنْفَق كُلُّ هذه الأموال الطائلة، عبثا. عشرات الألوف من المُتَخَصِّصِين المُخْلِصين في هذا الحقل المعرفي الشائك، كانوا، وعبر كل الحضارات ـ على اختلاف مشاربها وتباين مصائرها ـ يستنزفون أعمارهم في رصد الماضي وتوثيقه وتحليله (= السرديات العلمية)، وصولا إلى أولئك المستهامين بنمذجته في الآداب والفنون (= السرديات الفنية). ما يعني أن الإنسان لم يستحضر ماضية ـ أيّاً كانت صُورُ هذا الاستحضار ـ لَعِبا، وَلهوا مجانيا وتفننا في تقطيع أوصال الوقت المُمِل. بل على العكس، كان على الدوام، وفي اختلاف التجارب وتنّوعها، يصنع ذلك لِهدَفٍ أسمى، وغايةٍ كبرى، وعائدٍ مُتَيَقَّنٍ على المدى القريب والبعيد.
لكن، ولأن أيّاً من مجالات العلم؛ مهما كانت درجة صرامتها المنهجية، لا تخلو من تَحيّز (إن لم يكن في مسارها الخاص؛ بما يخترق عِلْمِيَّتها، فعلى الأقل في دوافع الاهتمام، وفي طرائق استثمار النتائج)، فقد كانت الاهتمامات التاريخية مُتَواشِجَةً على الدوام ـ وبدرجة عالية التوتّر في كثير من الأحيان ـ مع سائر الاهتمامات المجتمعية الأخرى، بما فيها الاهتمامات ذات الطابع العملي/ الإجرائي. وهذا يعني أن "اللاّعِلمي/ اللاّحِيادي" يَنفذ ـ صراحةً أو مُراوغةً، بوعي/ بقصد أو بلا وعي/ بلا قصد ـ إلى صميم "العلمي/ الحيادي"؛ لتتحول الكتابة التاريخية بعد ذلك إلى مجرد وسيلة مُمْتَهنة لخدمة أهدافٍ لا علاقة لها بالعلم أصلا، وبالتالي، لا علاقة لها بالوعي التاريخي.
إن إشكالية كتابة التاريخ تنشأ ـ في الغالب ـ من كون "أبناء التاريخ" هم الذين يشتغلون على كتابة التاريخ/ تاريخهم. فمثلا، المتخصّصون العرب في ميدان البحث التاريخي، هم "عرب"(بكل ما لهذه الهوية من عمق تاريخي)؛ قبل أن يكونوا باحثين/ دارسين. انتماؤهم لموضوع البحث (= التاريخ العربي/ الإسلامي) وعلاقتهم به، أقدم وأوثق وأعمق من علاقتهم بأدوات الاشتغال على هذا الموضوع (= أدوات علم التاريخ).
وما يصدق هنا على البحث العلمي (أو المُفتَرض أن يكون كذلك) يصدق ـ وبدرجة أعمق وأكبر وأوضح ـ على مجال الاشتغال الأدبي والفني على موضوعات وأشخاص وقضايا التاريخ، إذ الشعراء والقُصّاص والمسرحيّون والرّسامون ومُنتجو الأفلام...إلخ، أقدر على التلاعب بحقائق التاريخ؛ ليس فقط لأن ميدانهم الأدبي/ الفني يتسع لمثل هذا التلاعب برحابة صدر، وإنما أيضا لأن هذا التلاعب غير قابل للإدانة بشروط الحياد العلمي، بل إن شروط الأدب/ الفن تستلزم ـ لتحقيق الإضافة الإبداعية ـ كثيرا من التحوير، وربما كثيرا من التزييف !
مع كل هذا، أستطيع أن أقول، وبكل ثقة: قلْ لي كيف تكتب تاريخك ـ أيّاً كان نوع الكتابة: علمية أو أدبية/ فنية ـ؛ أقلْ لك: كيف سيكون مستقبلك. صحيح أن للتاريخ حقيقة موضوعية، وصحيح أن وثائق التاريخ بتواترها وتنوّع مصادرها تُقارِب هذه الحقيقة إلى حد كبير، ولكن من الصحيح أيضا أن التاريخ لا يُكْتَب ـ في الغالب ـ لوجه الحقيقة، وأن الآداب والفنون التي تشتغل عليه لا تُكتب لوجه الأدب والفن، وإنما ثمة غاية أهم: غير علمية، غير أدبية، غير فنية، تقبع خلف كل صور الاشتغال على التاريخ. وفي هذه الغاية بالذات، تتحدّد معالم الأهداف الكبرى التي تُشَكِّل ـ ولو على نحو غير واعٍ ـ صورةَ المستقبل المنشود.
عندما تكتب تاريخَك/ تاريخَ قومك، فأنت لا تكتب عن وثائق مجرّدة، بل أنت تستخدم هذه الوثائق لصناعة "هُويّة مُتَخَيَّلة"، ترى أنها الأليق بك، وأنك الأجدر بها. وبهذا يكون تاريخُك المكتوبُ على يديك ـ بلسان العلم أو بلسان الأدب/ الفن ـ هو ما تريد أن تكون عليه حقا، هو الصورة المثلى التي تريد أن ترى نفسك بها، وأن يراك الناس أيضا بها. وهذا يُؤكِّد أن ما تكتبه عن تاريخك يبتعد عن حقائق العلم الموضوعية؛ بمقدار ما يكون هذا التاريخ قريبا منك وجدانيا؛ باعتباره ـ حينئذٍ ـ حكاية أسلافك. وبذات المقدار يكون هذا التاريخ هو مستقبلك المنشود الذي تريد أن تصوغه صورة من ماضيك القومي/ الديني، الذي تراه بالضرورة ـ ضرورةَ انتماءٍ وِجْداني مُلْتَبِس ـ ماضيا مجيدا.
ولعل مما يدعم هذا المسار اللاَّموضوعي/ اللاَّعلمي في عملية استرجاع التاريخ، أنه يُوجَد داخل السرديات الكبرى للتاريخ، سرديات صغرى كثيرة، تتميز بالتنوع، بل وبالتضاد أحيانا. وهذا يفتح الباب على مصراعيه لعملية الانتقاء الواعي وغير الواعي. وفي حالتي الأدب والفن تحديدا؛ يكون مجرد الاختيار من هذه الكثرة المتنوعة تعبيراً عن خِيَار أيديولوجي راهن، وتعبيراً عن تفضيلات أخلاقية، وتعبيراً عن "هُويّة صُغْرى مُنْتقاة" يُرَاد لها أن تكون "الهُويّة الكبرى" التي تُلغي ـ بمستويات متنوعة ـ كلَّ صور التنوع والاختلاف التي يزخر بها التاريخ.