احتفالات بـ "يوم القدس" في البصرة العراقية عام 2019
احتفالات بـ "يوم القدس" في البصرة العراقية عام 2019

لم يفطن النظام الإسلاموي في إيران لحجم المشكلة العراقية التي يغرق فيها. اعتقدت طهران أن أي مجموعة سكانية شيعية حول العالم تشكّل أرضا خصبة لتجنيد موالين للنظام الإيراني فيصبحون شيعة ينخرطون في حروبه الاستخباراتية والإرهابية والميليشياوية، وأن العراق، ذو الغالبية الشيعية، سيتحول إلى أكبر دولة تابعة للنظام الإيراني. 

لكن حسابات طهران فشلت لأسباب متعددة لم يأخذها الايرانيون في عين الاعتبار، أولها ضخامة الكتلة الشيعية العراقية. في لبنان، مثلا، مليون ونصف شيعي، وفي البحرين مئات الآلاف، وهو ما يعني أنه يمكن للنظام الإيراني تخصيص مرتبات لغالبية شيعة لبنان والبحرين، وتمويل شبكة خدمات اجتماعية لهم ومؤسسات تربوية وصحية وترفيهية.

مقابل التقديمات الإيرانية، تتوقع طهران ولاء هؤلاء الشيعة للولي الفقيه الإيراني، علي خامنئي، فلا يبخل هؤلاء على إيران، ويتحولون إلى "جنود في جيش الولي الفقيه"، على حسب قول زعيم "حزب الله" اللبناني، حسن نصرالله، ويقاتلون حتى أبناء بلدهم خدمة لطهران.

ويقوم "جيش الولي الفقيه" بكل ما تطلبه منه إيران، من محاولة اغتيال الكاتب سلمان رشدي في الولايات المتحدة، إلى رمي صواريخ من لبنان على إسرائيل لثنيها عن تعطيل البرنامج النووي الإيراني، أو ابتزاز دول جوار إيران، خصوصا الخليجية منها. هذا في لبنان والبحرين.

لكن الوضع في العراق يختلف كليا، حيث يبلغ تعداد الشيعة أكثر من عشرين مليون نسمة، وهو ما يجعل من المتعذر على إيران تخصيص مرتبات لهم أو تأمين خدمات اجتماعية مقابل ولائهم.

ثم أن عائدات الدولة العراقية من النفط أكبر من عائدات إيران، وهو ما يدفع الزعماء العراقيين للسباق إلى الحكم واستخدام عائداته لإقامة شبكات ريعية موالية لهم ومنفصلة عن إيران، وتقوم هذه الشبكات غالبا بمنافسة إيران، كما في زمن رئاسة نوري المالكي للحكومة الذي واجه إيران ولم يعد إلى التحالف المصلحي معها إلا بعد خروجه من الحكم.

ويتفوق العراق على إيران بشيعيته، فالعراق هو مهد المذهب الشيعي، فيه قبور ستة من الأئمة الاثني عشر: علي بن أبي طالب والحسين ابنه، وموسى الكاظم، ومحمد الجواد، وعلي الهادي، والحسن العسكري. وفي دنيا الشيعة، تتصدر مكة مدن العالم من حيث قداستها، تليها المدينة المنورة، ثم النجف حيث ضريح الإمام علي، فكربلاء موقع مقتل الحسين ومرقده وأخيه العبّاس. وتحتل النجف عند الشيعة مرتبة روحية تماثل أهمية الفاتيكان لدى المسيحيين الكاثوليكيين.

أما إيران، فهي حديثة العهد بالمذهب الشيعي، الذي تبنته المجموعات الصوفية الصفوية لمنافسة السلاطين العثمانيين على زعامة العالم الإسلامي. وفي مشهد في إيران ضريح الإمام علي الرضا. أما في قم، فمقام لشخصية شيعية مغمورة متنازع حول تاريخيتها هي فاطمة أخت علي الرضا المسماة "معصومة". ومنح سيدة العصمة يتناقض وتعاليم المذهب الشيعي، لكن دخول الإيرانيين المذهب أدخل معه بدع كثيرة لا يزال الشيعة العرب يرفضون الاعتراف بغالبيتها.

هكذا، على عكس ضعف لبنان والبحرين أمام إيران، عدديا وماليا وروحيا، يتفوق العراق على إيران ماليا وروحيا، زد على أن بين العراق وإيران ثأرا تاريخيا طويلا يسبق الإسلام بقرون، بدأ منذ غزت حضارات الرافدين عيلام جنوب إيران، ثم غزا البارثيون بابل وملكها نبونعيد في العام 536 قبل الميلاد، تلا ذلك غزو الساسانيين في العام 274 ميلادية. لكن العرب قضوا على الساسانيين في 651 وحكموا إيران لقرابة ألف عام، إلى أن بدأ الصفويون يشكلون دولة فارس، التي توسعت وصارت إيران التي نعرفها.

لهذا السبب، كان من اليسير على صدام حسين تحريض الشيعة العرب العراقيين على الشيعة الإيرانيين، فعلى الرغم من التشابه المذهبي، إلا أن العداء والتنافس بين الحضارتين قائم منذ أكثر من ألفيتين من الزمن. 

ومنذ انهيار نظام حسين في 2003، حاولت إيران مرارا جمع القيادات الشيعية العراقية في صيغ متعددة تحت مسمى "البيت الشيعي"، ثم حاولت تكرار تجربة "حزب الله" اللبناني بدفعها رجال دين معممين للعب أدوار قيادية وإقامة أحزاب وميليشيات لا تزال قائمة اليوم واسمها "الميليشيات الولائية"، أي الموالية لخامنئي.

مع ذلك، بقيت ميليشيات إيران في العراق محدودة الشعبية، في وقت تفوقت عليها تنظيمات بدون امكانيات، مثل الميليشيات المتعاقبة التي أقامها رجل الدين مقتدى الصدر، لسبب وحيد هو أن الصدر ركب موجة الوطنية العراقية.

ويتميز الصدر عن كل القيادات العراقية الحالية أنه ووالده لم يعارضا صدام حسين من المنافي، بل عاشا في العراق قبل صدام وبعده، وهو ما عزز الانطباع عن وطنيتهما أكثر بكثير من معارضي المنفى مثل نوري المالكي وحيدر العبادي وهادي العامري وعائلة الحكيم والراحل جمال الجراح (أبو مهدي المهندس). 

اليوم، تقوم إيران بكل المناورات السياسية الممكنة، متزامنة مع إرهاب تمارسه ضد خصومها بما في ذلك اغتيال أعداد كبيرة منهم، وذلك بهدف بناء حكم بالحديد والنار يمسكه أحد مرتزقتها العراقيون. وتفضل طهران ألا يكون المالكي رجلها، لأنه يعاني من جنون العظمة ولا يسعى إلا لمصلحته الشخصية.

لم ينجح العنف الإيراني والاغتيالات في إسكات معارضي طهران العراقيين، الذين لا يفوتون فرصة بدون إحراق قنصلية إيران أو صور خامنئي في العراق أو تماثيل قاسم سليماني. ويوم الإثنين الماضي عندما اندلعت مواجهات بين معارضي إيران من جهة، خصوصا من التيار الصدري، ومؤيدي طهران، من جهة ثانية، لقّن معارضو إيران حلفاءها درسا قاسيا وتفوقوا عليهم في القتال وفي إحراق مكاتب الميليشيات الولائية وفي الفوز بتعاطف ودعم شعبي، فيما انكفأت ميليشيات إيران وراحت تقتل العراقيين خلسة وعن طريق تصفيات وإعدامات، إذا ما صدقنا بعض التقارير التي تناقلتها وسائل الإعلام العراقية.

العراق عرّى إيران وكشف أنها ليست قوة عظمى على ما تخال نفسها، بل هي عصابة إرهابية حاكمة تحاول تخويف شعوب الجوار وحكمهم بالحديد والنار. والعراق أظهر لإيران أن المذهب لا يعلو على الوطنية، وأن العراقيين لن يتراجعوا بصمت ويتحولوا إلى مرتزقة كما فعل بعض شيعة لبنان والبحرين.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.