في ضوء الغارات الإسرائيلية المتكررة والمتواصلة والصامتة على مواقع في سوريا، يبدو أن سوريا عالقة بين مهمتين، إسرائيلية من جهة، وإيرانية من جهة أخرى. القصف من جهة، واستقباله وهضمه من جهة أخرى يرسمان الواقع السوري، ويسعيان لتثبيت المشهد على ما هو عليه اليوم. نستيقظ في الصباح على خبر الغارات، وفي المساء على محاولات استيعاب ما أحدثته من خسائر.
والحال أن المهمة الإسرائيلية في سوريا لا تزيد عن ذلك. إسرائيل حريصة على عدم توجيه ضربات قاصمة للنظام في سوريا، إلا أنها ستواظب على منع إيران من بناء منظومة هجومية فيها. أما طهران، فبدورها ستواصل حماية النظام، وستحاول تعزيز خطوط المواجهة مع إسرائيل في سوريا، من دون أن يعني ذلك أن حرباً وشيكة مع إسرائيل ستقع.
اذاً النظام في سوريا خارج دائرة الاستهداف، ومصالح كل من طهران وإسرائيل تقتضي عدم الذهاب بالمواجهة إلى حرب تقليدية. الأهداف التي تصيبها الغارات لا يبدو أنها تفوق منسوب التوتر الذي تفترضه حرب شاملة. لكن هذا الستاتيكو يفترض لكي يواصل اشتغاله أن تبقى سوريا على ما هي اليوم. نظام ضعيف ومتهالك وفاسد يتولى إدارة مشهد الانتهاكات اليومية، ويعوض عما تخلفه الغارات من ضيم بالذهاب بالقسوة والاستبداد إلى مستويات جديدة.
إنها سوريا "الجديدة"، سوريا الساحة، لكن أيضاً سوريا الاستبداد ومواصلة المجازر. لكن إلى متى يمكن لهذه المأساة أن تستمر؟ فالغارات الإسرائيلية غطى دخانها مجزرة حي التضامن، والنظام جعل يوظفها في توازن موازٍ بين النفوذين الروسي والإيراني، وهي وان أصابت جنوده ومواقعه إلا أنها تعزز الحاجة إليه بوصفه نقطة تجاذب بين موسكو وطهران.
وبهذا المعنى تبدو إسرائيل جزءاً من توازنات الحرب السورية، وإذا كانت موسكو راعية لمهمتها في دمشق، فإن النظام يستقبل زيارات طائراتها الحربية بسعة صدر، مفصحاً بذلك عن هراء الخطاب الأجوف الذي لطالما تصدر إداءه حيال "ضرورات الصراع". فعبارة "الرد في الزمان والمكان المناسبين" لطالما سيقت كنكتة، لكنها تساق اليوم بوصفها مأساة الممانعة وجرحها النرجسي.
لم يعد بالإمكان التغاضي عن الدور الروسي في رعاية المهمة الإسرائيلية في سوريا، وهذا ما دفع أحد مسؤولي حزب الله إلى المجاهرة في انتقاد موسكو على "صمتها عن الغارات على مطار حلب". لكن في نفس الوقت سيكون على موسكو إذا ما لعبت دوراً رادعاً للغارات، القبول بدور إيراني أكبر في سوريا، وهو ما سيخل بالتوازن الذي يعطي موسكو تفوقاً على طهران في خيارات النظام.
أي تبديل في هذا التوازن لن تكون نتائجه مضمونة لكل الأطراف. إسرائيل ستواصل غاراتها وموسكو ستسهل لها المهمة وطهران لن توقف شحنات الأسلحة إلى سوريا وعبر سوريا. لقد مضى على هذه المعادلة سنوات طويلة من دون أن تتغير، والجميع يضرب صمتاً حولها يشي بأن المعادلة لا تزعجه لكي يسعى إلى تغييرها. قد يختل التوازن قليلاً إذا ما كانت الغارة موجعة أكثر مما يجب، فيصدر تصعيد محدود في الخطاب، على ما جرى بعد الغارات الأخيرة على مطار حلب، لكنه لا يرقى إلى حدود الاخلال بهذا التوازن.
وهنا تبدو مقولة نجاة النظام واستعادته عافيته بعد الثورة وبعد الحرب نكتة تضاف إلى نكتة "الرد في المكان والزمان المناسبين". فأي "نجاة" يمكن أن تكون محفوفة بهذا القدر من انعدام السيادة، ومشروطة بغارات يومية وبنزاع بين احتلالين.
لكن يبقى السؤال طبعاً عن مستقبل النظام في ظل هذا المشهد. هل نكون حيال تجربة موازية لتجربة نظام صدام حسين حين بعد هزيمته في الكويت؟ وهو ما يعني أن عمر النظام لن يطول. الجواب على هذا السؤال ليس بديهياً، وشروط السقوط منعدمة في الوقت الحالي، لا سيما في ظل عدم تبلور بديل لدى كل اللاعبين. وهنا يعود بشار الأسد الضعيف والمنتهك خياراً لجميع اللاعبين في سوريا. "نجاة النظام" مشروطة بالضعف والتفكك، لكن المأساة أنها مترافقة مع صمت على ارتكاباته وعلى مجازره.
السوريون لوحدهم من سيدفع أثمان هذه اللعبة غير الأخلاقية التي اقتضت أن يواصل بشار الأسد حكم ما تبقى من سوريا. الغارات الإسرائيلية ضرورة لبقائه، مثلما هي شحنات الأسلحة من إيران، وكذلك القواعد العسكرية الروسية. وطبعاً ضرورية أيضاً معامل الكبتاغون الممتدة على طول "سوريا المفيدة".