"تشكل الحروب والأزمات الاقتصادية أرضا خصبة لانتشار الاتجار بالبشر".
"تشكل الحروب والأزمات الاقتصادية أرضا خصبة لانتشار الاتجار بالبشر".

مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير من هذا العام وتدفق مئات الآلاف من اللاجئين الفارين نحو المراكز الحدودية للدول المجاورة، كثيرا ما أشارت تقارير الإعلاميين إلى الانتشار المكثف للأجهزة الأمنية الأوربية والمنظمات الدولية  ومنظمات المجتمع المدني، وتنسيقهم المشترك الخاص بعمليات الإجلاء ومراقبته، خشية تسجيل اختراقات تتعلق بعمليات اتجار بالبشر قد تحدث وسط هذه الفوضى العارمة. 

وتشكل حالات الفرار الجماعي التي تفرزها الكوارث والحروب، وأيضاً الفقر كمسبب دائم، وغيرها، فرصة ذهبية وبيئة خصبة وملائمة لنشاط شبكات الاتجار بالبشر أو شبكات التهريب التي يمكن أن يتضمن نشاطها اتجاراً بالبشر أيضاً، واستهدافها بشكل خاص للإناث والأطفال، الذين يشكلون في كثير من هذه الحالات الأكثرية العددية، والفئات المستضعفة التي يسهل اصطيادها أو التحايل عليها. 

كما يمكن في بعض هذه الحالات أن تتقاطع مصالح بعض شبكات الاتجار بالبشر مع عدد من المنظمات الإرهابية، وهي أخطر الجرائم في هذا الصدد، مثل الجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش مع الأزيديات أو غيرهن من النساء والأطفال، الذين اختطفوا وعوملوا كغنائم وسبايا، وأيضاً الجرائم التي حدثت من قبل جماعة بوكو حرام في نيجيريا.  

يعتبر الاتجار بالبشر ثالث أخطر الجرائم التي يواجهها العالم اليوم بعد تجارة السلاح والمخدرات، وارتفاع معدلاته سنوياً رغم كل الجهود الدولية المبذولة للحد منه، وذلك لما تدره هذه التجارة من أرباح خيالية، يستغل فيها الضحايا في أغراض التسول أو التجنيد، أو التزويج القسري أو المزيف، أو استغلالهم في المناجم ومقالع الحجارة، أو لإنتاج المواد الإباحية، حيث يظل الاستغلال الجنسي للإناث والأطفال أبشع الممارسات الناجمة عن جرائم الاتجار بالبشر وأكثرها انتشاراً. 

في هذا العام، وتماشياً مع الخطط الحثيثة التي دأبت الحكومات والمنظمات المختصة وكافة وسائل الاعلام على التكثيف منها بغرض التوعية من مخاطر الاتجار بالبشر، شاركت السينما الأميركية من جانبها بفيلمين ملفتين يتناولان هذا الموضوع الحيوي، ويشكلان إضافة تثقيفية وإبداعية لعشرات الأفلام التي قاربتها هوليوود حول هذا الموضوع وعواقبه الوخيمة. 

يتمثل الأول في إنتاج جديد لديزني تعيد فيه اقتباس قصة (بينوكيو Pinocchio) الإيطالية الشهيرة، ومن بطولة النجم توم هانكس. إذ يتوجه فيلم الرسومات المتحركة نحو الأطفال بطبيعة الحال بوصفهم الفئة الأكثر استضعافاً في عمليات الاتجار بالبشر، ويوضح رسالته التوعوية بمعالجة ممتعة ومبهرة تقنياً، حول المخاطر الناجمة عن الوثوق بالغرباء وعصابات الشر المنتشرة في كل مكان، والتي لاتوفر استغلال دمية خشبية لأجل جني الأرباح، ومعاني فقدان الأسرة والحب والأمان.   

فيما يتخذ فيلم ( جنة الطرق السريعة Paradise Highway) الذي بدء عرضه مؤخراً، ومن بطولة جولييت بينوشيه ومورغان فريمان، منحىً درامياً واقعياً وقاسياً، وهو يضيء مباشرة على بعض الآليات العنيفة التي تلجأ إليها شبكات الاتجار بالبشر، التي لاتوفر المال أو السلاح أو الابتزاز أو شراء الضمائر الفاسدة داخل الشرطة والأجهزة الأمنية في سبيل الاستمرار بنشاطها المجزي.  

في القصة المشوقة، تتخلى النجمة جولييت بينوشيه، بدور (سالي)، عن أنوثتها وغنجها المعهودين خدمة لدور مختلف ومؤثر، تلعب فيه باحترافية ملفتة شخصية سائقة شاحنة على الطرقات السريعة. حيث تعتبر الشاحنات الضخمة أكثر الوسائل استعمالاً لتهريب الممنوعات والبشر، وتتورط لأجل إنقاذ أخيها مع إحدى الشبكات الإجرامية لنقل فتاة مراهقة مختطفة من أسرتها الفقيرة، بغرض ضمها إلى باقي الفتيات المحتجزات اللواتي سيتم استغلالهن لأجل البغاء في أقل تقدير. 

في حوار عميق يتم بين مورغان فريمان، بدور المحقق الفيدرالي الذي يتولى هذه القضية، بوصف قضايا الاتجار بالبشر كتحدي وجودي وشخصي له، يعيش ويصحو يومياً لأجل محاربتها، مع مساعده المنفصل عن الواقع. يضيء الفيلم على أسئلة جوهرية تتعلق بالتقصير الذي تبديه بعض الجهات المعنية، وفساد وتواطىء بعض أفرادها، وعن سبب عدم لجوء العديد من الفتيات المختطفات إلى الشرطة للمساعدة أو الهروب من مختطفيهم. 

لتأتي الإجابات شديدة القسوة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالفساد، وبالبدائل المتاحة المفترض توفرها من مساعدات ومأوى، والأهم مدى الاكتراث الحقيقي في التعامل مع هذه القضايا. معولاً في متاهة تساؤلاته على الضمائر الحية التي يمكنها أن تلعب دورها وتساعد من مواقعها لمواجهة هذا التحدي. 

ومن بينها ضمير السائقة (سالي) التي لن تخون ضميرها، وكذلك لن تخون أنوثتها وأمومتها المخفيتين تحت خشونة طبيعة عملها كسائقة جلفة، في فيلم تخرجه امرأة (آنّا غوتو) وينحاز بوضوح لقوة النساء في تضامنهن لأجل قضاياهن، سواء كن فاعلات في مواقعهن، مثل زميلاتها من سائقات الشاحنات، أو كضحايا. 

"قد تكون ابنتك في المرة القادمة"، عبارة يوجهها المحقق الفيدرالي بتأنيب لأحد المعنيين الرسميين، تمثل في الواقع الإيجاز القاسي والمحتمل أن تتعرض له أية فتاة تختطف من أسرتها، وتنضم في لحظة مشؤومة إلى الملايين من النساء، من ضحايا الاتجار بالبشر.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.