صورة داخل بنك في بيروت بلبنان في 16 سبتمبر 2022
صورة داخل بنك في بيروت بلبنان في 16 سبتمبر 2022

بعد عمليات اقتحام المصارف المشهودة، وما يحصل من أنواع العنف المنفلت في جهات البلد الاربع، وزوارق الموت التي ترمي الهاربين من الجحيم اللبناني في المتوسط، كثر الحديث أن لبنان أصبح بلداً غير آمن. هذا ما ورد في تقرير موسع للنهار مؤخراً؛ وقبله سرد تقرير أعدته صحيفة الراي الكويتية عينة عن ممارسات العنف التي غطت معظم جوانب الحياة وأصبحت جزءاً من يوميات اللبناني المعتادة؛ أصبح اللبناني  ينشغل في البحث عما يحفظ له بعض ثقة بإنسانيته وسويته وقدرته على  ال\رنجاز. سواء كان على الشكل المبهر الذي قدمته فرقة مياس للعالم، او الاحتفال بمنتخب لبنان لكرة السلة ونجمه وائل عرقجي او عبر العودة الى دفاتر الانجازات القديمة من مثل الصاروخ الذي أطلق في أواخر الستينيات او استذكار حسن كامل الصباح، وغيره كثر من المبدعين على المستوى العالمي. 

يقوم اللبناني بكل ذلك بحثاً عن نفسه وعن هويته الثقافيه وعن كرامته وماء وجهه، أي عن صورته التقليدية التي ترسخت في أذهان العالم. وذلك كي يثبت اختلافه وانفصاله عن الحكام الجدد من طبقة سياسية تعمّق الأزمات وتمعن في تدمير لبنان. جعلوا لبنان مضرب المثل في الفساد وسوء الإدارة المتعمدة والامتناع عن حل أي مشكلة حياتية تستلب حقوق اللبنانيين وتهدد حياتهم ومستقبلهم. ما يسمح بوضعهم في الدائرة الجرمية.  

فهل من المستغرب حينها أن يصبح لبنان مرتعاً لجميع انواع العنف!؟ 

الأزمات في لبنان ليست جديدة، لكن تراكمها يهدد بجعل الوضع خارجاً عن السيطرة.   

اعتدت منذ عدة سنوات على أسئلة بحاثة وصحافيين يستغربون تصاعد أعمال العنف غير المعتادة في لبنان. ودائماً كنت اقول: أنتظروا المزيد. لأن جميع المكونات التي تسهّل ظهور العنف موجودة منذ زمن دون اتخاذ أي تدبير يعالج المشاكل البنيوية التي تتسبب بها. وهي ستتصاعد طالما ان لا قعر للانهيار او خاتمة. 

فما هي ميكانيزمات العنف المنفلت الذي نعيشه؟ 

لا  إمكانية للفصل بين العنف النفسي والعنف السسيولوجي، فهناك دائماً أسباب سوسيولوجية للعنف تتقاطع مع العوامل النفسية. 

ويجدر التنبه الى أن العنف يكون في معظم الأحيان علامة على العذاب. لذا يمكن تعريفه على أنه عنف – مضاد، أو ارتدادي. بمعنى أنه ردة فعل على عنف مادي أو معنوي عانى منه من يمارسه. يصعب على الإنسان السعيد أن يكون عنيفاً.  

معظم الباحثين لا يقبلون فرضية وجود حالات عنف لأسباب نفسية صافية، أي تلك التي لا تتضافر فيها العوامل الاجتماعية!! كما أنه لا وجود لحالات اجتماعية صافية. 

هناك شروط وبيئات مولّدة للعنف والاجرام. 

لذا يجب ان نأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين البيئة وبين السلوك العنيف في سياق سيستيمي يربط بين العوامل ذات الصلة، مثل: العوامل الوراثية والبيولوجية، الاحباط، وعوامل التعلم المسبق لكل فرد، عاملي الطباع  والشخصية، كما العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إضافة الى السياسية.  

فائدة التوجه الذي يبحث في تشابك وتسلسل الظروف المؤدية للجرمية  والجناح او الإجرام، انها تفردن (من فرد) علاج كل حالة وتظهر أن تشابك الظروف والأسباب المؤدية للجرم، تجعل من هؤلاء الاشخاص أقل اختلافاً عنا مما كنا نعتقد بسبب عادة التفكير المطمئنة: هذا لا يحصل سوى للغير.  

 فيما عدا ذلك تمكن "علم الجريمة العام" من استخلاص القوانين العامة التي تساعد على الجرمية. سأشير هنا الى الأكثر صلة مع وضعنا الراهن: 

تزداد نسبة الجرائم بازدياد عدد السكان حتى نسبة معينة وتتوقف عند بلوغها كثافة معينة. وفي الحالة اللبنانية شكّل عامل النزوح السوري نتيجة الأوضاع في سورياً، عبئاً إضافياً على اللبنانيين. يرتبط بالكثافة السكانية ارتفاع الجرمية غير القصدية والمرتبطة بالحوادث، لازدياد حركة السيارات، فكيف اذا ارتبطت بفوضى اجتماعية وانهيار اقتصادي ومؤسساتي وانداد سياسي؟  

في المدن على ما يبدو مناطق تعاني من نسبة جرمية أكبر من غيرها، وهي تلك المناطق التي تحيط بقلب المراكز التجارية والادارية. فالجرمية مرتبطة بوجود تمركز للمساكن الفقيرة أو ما يعرف بأحزمة الفقر.  

هناك من يربط الجرمية بازدياد عروض السلع بشكل عام وخاصة في المخازن الكبرى؛ لكن في الحالة اللبنانية ما يدعو الى ذلك انهيار العملة وسرقة أموال اللبنانيين وإفقارهم السيستيمي، مع استعراض فاجر للغنى عند طبقة الحكام والتجار. فالبطالة، التي تعممت تقريباً وغياب الأفق أمام الشبيبة وصل الى درجات قياسية، تتسبب بما نعاينه من هجومات وسرقات وجرائم مختلفة. 

فلقد وقع معظم اللبنانيين ضحية وضعيات صعبة من دون مخرج. فأي حل يقدم له كي لا يجوع؟ هذا ما يساعد على القيام بأعمال عنف. أضف الى ذلك التفاوت الكبير بين ما يسمعونه من المسؤولين وبين ما يعانون منه يومياً من مشاكل وهموم لا تجد حلاً لها. 

فما حصل في لبنان انقلاب اجتماعي كبير، قضى على الطبقة الوسطى وأفقر 90% من اللبنانيين. ناهيك عن أثر الكحول والمخدرات والنقص في الأدوية العصبية، وكلها منتجة للعنف.  

كما ان اضطراب عمل المؤسسات الرعائية وإقفال الكثير منها يتسبب بالطبع بأعمال عنف لمن حرم من الرعاية، ويصبح معرضاً للعنف أو ضحية له. 

الخلل الحاصل على مستوى الدورة التعليمية، واضطرار أعداد متزايدة من الأطفال لترك المدارس والذهاب لسوق العمل تسهّل أعمال العنف. كما تزيد حالات الجناح لمن صاروا يعتبرون آباءهم ضعيفي الشخصية او غير مؤهلين. 

تترافق هذه الأوضاع حكماً بالانحطاط الأخلاقي وتراجع القيم الذي ينتج عنه تراخي الضوابط الأخلاقية واضطراب دور التربية والتعليم الأسريين.  

لوسائط الإعلام دورها عندما تضخ استعراض أعمال العنف والجرائم بشكل تفصيلي، ما يجعله نموذجاً شائعاً قد يثير أكثر الغرائز انحطاطاً ويجعل الرأي العام متآلفاً مع هذه الحوادث ومعتاداً عليها.    

من المعروف أن العنف أكثر انتشاراً في البيئات المسببة للسترس. وربما لبنان في طليعة البيئات المنتجة للسترس على المستوى العالمي، بدليل أنه من أكثر البلدان تعاسة بحسب مؤشر السعادة. 

باختصار، معظم أشكال العنف الممارسة مؤخراً في لبنان، هي من نوع العنف الارتدادي، أي العنف المستخدم للدفاع عن النفس، عن الحرية، عن الكرامة أو عن الممتلكات الشخصية؛ وهو أيضاً المستخدم لنجدة أشخاص مهددين بالخطر. يجد هذا الشكل من أشكال العنف جذوره في الخوف من المستقبل أو على الحياة. ربما هو لذلك أحد أشكال العنف الأكثر شيوعاً والذي ليس هدفه الهدم بل البقاء. 

 كل هذا يوقع اللبناني في الإحباط ، وهو أحد مسببات العنف الارتدادي الأساسية. إنه لواقع أن الحيوانات والبشر، الأطفال والبالغين، يتبنون سلوكاً عدوانياً عندما تحبط إحدى رغباتهم أو حاجاتهم. ويشكل هذا النمط محاولة لبلوغ الهدف الذي تمت معارضته بواسطة العنف.  

أليس هذا هو العنف الذي نغرق فيه الآن في لبنان؟ 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.