قتل صفاء السراي في بداية في نهاية أكتوبر الماضي، بعد إصابته بقنبلة غازية في رأسه/ مصدر الصورة: مواقع التواصل الاجتماعي

قبل ثلاث سنوات، وفي 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 لم يكن أحدٌ من العراقيين يتوقّع أن يكون هذا التاريخ هو البداية لِكسر حاجز الصمت ومواجهة قوى السلطة ومنظومة حكمها التي أسستها منذ 2003، والتي لم تنتج إلا الخراب والفوضى، وتحوّلت مهمّة حكوماتها إلى إدارة صفقات الفساد وتوزيع موارد الدولة على أحزاب السلطة والنفوذ، ورهن الدولة بأكملها إلى مزاجيات زعامات سياسية وحاشيتها المقربة، وكانت النتيجة تغوّل قوى اللادولة على الدولة وأجهزتها ومؤسساتها ومصادرة وظائفها. 

حتّى جاءت احتجاجات تشرين 2019 ورفعت شعار (نريد وطن)، التي يجب استذكارها بوصفها لحظة فاصلة في تاريخ العراق بعد 2003، لتعبّر عن روحية متمرّدة ضدّ الطبقة السياسية ونظام حكمها، وتكون بداية لِلانتقال من التذمّر والشكوى إلى الفعل الاحتجاجي الذي يطالب بالتغيير. لذلك كانت رمزية احتجاجات تشرين في عدّها حركةً جماهيرية كسرت صنمية زعامات تتفاخر بأنّها لوحدها تحرّك الشارع وقادرة على تحشيده لِلتظاهر.  

احتجاجات تشرين، كانت ولا تزال، كاشفة عن عمق الفجوة بين تفكير قوى السلطة وحاشيتها وزبائنها، وبين تفكير الجمهور. فقوى السلطة رغم أنّها لم تقدّم منجزًا واحدًا يستحقّ الإشادة والاحتفاء منذ تسنمها الحكم، إلا أنّها كانت، قبل هذا التاريخ، تنعم بالرضا عن نفسها في عالمها المُتخيّل وشرعيتها الموهومة على أساس معارضة الدكتاتورية أو جهادها ضدّ نظامه، ومن ثمَّ، باتت تخال نفسها ممثلةً لِلحق المطلَق، والخير المطلَق، وكلّ ما عداها شرّ مستطير! لذلك عدّت التظاهر ضدّ سطوتها على النظام السياسي خدشًا في نرجستيها السياسية، وكلّ حراك احتجاجي لا يكون بزعامتها ولا تحت قيادتها هو بمثابة إعلان تمرّد على مبدأ السمع والطاعة الذي يجب أن يقدّمه الجمهور ولا يفكّر بشيء غيره.  

الجمهور عبّر مِن خلال حضوره في ساحات الاحتجاج عن نوعية جديدة من الفاعلية السياسية، وأوصل رسالةً بأنّ الجمهور المتردد أو الجمهور الصامت هو مَن يملك القول الفصل في قبول هذه الطبقة الحاكمة أو رفضها، وليست الانتخابات التي باتت تعبيرًا عن مواسم تحشّد فيها الأحزابُ السلطوية مواردَها وزبائنَها لتجديد بقائها في الحكم.  

لم تفهم قوى السلطة احتجاجات تشرين، وبقيت تبحث في القواميس السياسية عن مفردات التخوين والعمالة لِلأجنبي، ولكنّها لم تفكر يومًا أنّها رسالة احتجاج عن سوء الإدارة والفشل والفساد، ويجب التعاطي معها من خلال إعادة النظر بالسياسات العامة وتصحيح العلاقة مع الجمهور. إنَّ الحلقة المفقودة في العلاقة بين المجتمع ومنظومة الحكم، كانت ولا تزال، هي الإجماع الوطني الذي يقوم على أساس توافق المجتمع السياسي (أي الجمهور والطبقة السياسية الحاكمة) على منظومة مبادئ وقيم ومعايير، تحكم العلاقة بينهم وتحدد أغراض المؤسسات العامة والطرق المقبولة لحلّ التعارضات والخلافات في حال نشوبها. 

لكنّ قوى السلطة بقيت ترفض الاعتراف أنَّ احتجاجات تشرين تعبّر عن تراكمات الانقسام بين منظومة الحكم والمجتمع، فالنظام السياسي الذي يفتقر إلى الإجماع الوطني لا يمكن إلا أن يكون فوضويًا، منعدم السمات وعديم الاستقرار. 

رغم ذلك، يمكن القول إنَّ استحضار تشرين في ذكراها الثالثة، يجب أن يكون تقويميًا أكثر من كونه احتفاليًا، وكونها حركة احتجاجية شعبية، فإنَّ مشكلتنا الآن تكمن في التنازع عليها بدلاً من التفكير في رمزيتها. ذلك أنَّ القوى التي دخلت انتخابات أكتوبر 2021 بوصفها تمثّل الحركة الاحتجاجية، لم تكن قادرةً على تجسيد مشروع القوى الاحتجاجية داخل البرلمان، وكانت عاجزة عن الانتقال من التفكير الاحتجاجي إلى العمل السياسي الذي يحمل هموم المحتجّين. وغياب المشروع الذي يوحدهم في مواجهة قوى السلطة التقليدية والمحترفة في التسويف والمماطلة، جعلهم في أضعف حالاتهم، ومن ثمَّ انعكس ذلك على ثقة الجمهور بالقوى الجديدة الصاعدة والتي يفترض أنّها تحمل همومَه وتطلعاته.  

المشكلة الأعقد التي واجهتها الحركةُ الاحتجاجية، هي النخب السلطوية الجديدة التي وصلت إلى سدّة الحكم. فحكومة الكاظمي، رغم أنّها جاءت بالتوافق بين زعامات قوى السلطة، إلا أنها وفريقها السياسي كانت تزعم تمثيلها لاحتجاجات تشرين! ما أعطى فرصةً لقوى السلطة بأن تنتقد الاحتجاجات باعتبار أنَّ مخرجاتها الإتيان بحكومةٍ ضعيفة وهزيلة. والنتيجة كانت -وكأنّها المهمّة الرئيسة لحكومة الكاظمي- هي تشويه صورة حركة تشرين الاحتجاجية، والنيل منها من خلال حكومة مُستلَبة الإرادة أمام مافيات الأحزاب والمليشيات وقوى الفساد. 

ومأزق تشرين يتجلّى أيضاً، في الصراع على زعامتها أو تمثيلها، أو حتّى استقطابها من قوى فاعلة في منظومة السلطة والنفوذ السياسي. ولعلَّ مشكلة غياب قيادة واضحة وصريحة لِلحركة الاحتجاجية، جعل الكثير مِن النخبويين، والكثير مِن الطامحين لِلحصول على مناصب عليا في الدولة يقدّمون أنفسَهم كفاعلين رئيسيين في الاحتجاجات، بالإضافة إلى أنَّ الكثير من الشخصيات التي لديها ارتباطات مع أحزاب السلطة تريد التحايل على عنوان الاحتجاجات. وبالنتيجة كانت استراتيجية الحكومة والأحزاب السلطوية التغلغل في الاحتجاجات من خلال تلك النماذج بهدف إضعاف ثقة الجمهور بمن يدّعي تمثيله لِلتظاهرات.  

ورغم تآمر قوى السلطة على احتجاجات تشرين، وتسويفها ومماطلتها في الاستجابة لمطالبها التي رفعتها في ساحات التظاهر، وتخاذل مَن يدّعي تمثيلها أمام مغريات المشاركة في السلطة، لكنّها بقيت وستبقى مِن أبرز محطّات تاريخ العراق السياسي المعاصر، ويكفيها فخرًا أنها رسّخت روحَ التمرّد لدى جيل كامل من الشباب العراقي، إذ تحوّلوا إلى كابوس يؤرق قوى السلطة والحكومات، حتّى وإن تآمرت وخوّنت تلك التظاهرات والناشطين فيها. 

وما بعد تشرين 2019، ما هو إلا تعبيرٌ عن الأعراض المرضية لِنظام الحكم الذي يحتضر ويرفض الاستسلام لِلموت، لأنَّ موته يعني موت القوى السلطوية التي تعتاش بطريقة طفيلية على موارد الدولة، وتريد أن تثبت شرعيتَها بقوّة السلاح المنفلت والتمرّد على الدولة وكلّ من يعارض سطوتها ونفوذها. 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.