في معجم المعاني، تعود تسمية تشرين إلى اللغة السريانية، فتشرين الأول والثاني هما: "تشري قديم" و"تشري حراي" أي السابق واللاحق، ومعناه بالعربية "البدء"، وسمي كذلك لأن تشرين الأول يعتبر الإيذان ببداية موسم الزراعة.
زراعة لم يعرفها إلا العراق ولبنان، رويت بدماء ودموع، بحزن شديد على أعتاب الفرح، وباب فرج بعد خيبة مؤقتة، وانكسار مؤقت، وأمل ممكن، وبالرغم من تأخره ، إلا أنه سيعود، وكما يقول المثل: "كلما هلّ تشرين بترجع بنت عشرين".
في تشرين كان الهتاف متلاصقا من بغداد إلى بيروت، في التشرين ذاته كانت المنطقة الخضراء في بغداد محاصرة وساحة التحرير أكثر حرية، كانت ساحة النجمة في بيروت معزولة وساحة الشهداء أكثر إصرارا.
كسر التشرينيون خوفهم، لم ترهبهم حواجز الملثمين ولا تهديدات القناصين، حركت عزيمتهم بيوت سياسية تصدعت، ومنظومة حاكمة تهالكت، شبان وشابات أطلقوا صافرة النهاية، فأطلقت على صدورهم رصاصات الغدر، رفعوا شعارات الحرية والعدالة والمساواة، فألصقت بهم تهم الخيانة والعمالة، ووصفوا زورا (بالجوكرية) وأتباع السفارات، لكنهم أيقنوا أن طريق الحق موحش لقلة سالكيه، ومضوا لا يبالون إن وقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم.
منذ نشأة العراق ولبنان، ككيانين مستقلين، تقاطعت بينهما الأحداث وترابطت بشكل كسر ثوابت الجغرافيا السياسية التي تفصل بينهما، وباتا يخضعان لتحولات سياسية اقتصادية واجتماعية وثقافية، جعلتهما، أي لبنان والعراق، أشبه بدولتين محاذيتين يتأثران مباشرة بالأحداث الداخلية والخارجية التي يتعرضان لها.
لذلك عند الحديث عن تاريخ البلدين لا يمكن الفصل ما بين إعلان دولة لبنان الكبير، سنة 1920، وثورة العشرين في العراق، 1920، التي أسست أحداثها لقيام جمهورية العراق، سنة 1921، حيث لعبت الكنيسة المارونية دورا فاعلا في الوصول إلى إنشاء الكيان اللبناني، يقابله موقف للمرجعية الدينية الشيعية التي كانت رافعة للثورة ومسهلة لقيام الدولة.
كما شهدت مرحلة الخمسينيات ذروة التقارب اللبناني (الرئيس شمعون) والعراقي (الباشا نوري السعيد)، فالمعروف عن الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون تمسكه بمعادلة سياسية تجاوزت منطق الجغرافيا وقامت على فكرة "عراق قوي، لبنان مستقر" وهي المعادلة التي أثبتت صحتها بعدما أثرت أحداث عام 1958 في لبنان والعراق على العلاقة بينهما وعلى استقرارهما السياسي وموقعهما في خريطة التحالفات الإقليمية والعربية.
وفي سنة 2003 في العراق و2005 في لبنان بدأت مرحلة جديدة في البلدين، فقد مهد سقوط بعث العراق إلى خروج الاحتلال البعثي السوري من لبنان، لكن أحلام التغيير جوبهت بفتنة طائفية وحروب أهلية وانقسامات مجتمعية واستيلاء على الثروات.
لذلك كان تشرين ذروة الرد على الفعل القاتل فتحول شباب تشرين إلى فاعل أعاد الاعتبار للفضاء الوطني العام، نجح في تفكيك خطاب المنظمة الحاكمة ورسم حدثا يتشابه بين لبنان والعراق يرفض وصاية الوكلاء ويريد إنتاج الأصلاء، فباتت السلطة في بغداد في مواجهة أغلبية وطنية مدعومة من مرجعية تؤمن بالمشروطية، وفي لبنان تواجه المنظومة أغلبية شعبية انتفضت على الصيغة الطائفية التي كان يحاول أصحاب المشاريع الجيوعقائدية إعادة إنتاجها وفقا لشروطهم السياسية.
فمنذ انتفاضة تشرين 2019 وإلى الآن ، لم تعد الهيمنة على المجتمع ومصادرة الدولة واحتجاز الشباب داخل الطوائف واختزال الطوائف بأمرائها سهلة، فبين أمراء الطوائف وأمراء الحرب حبل سرة يمتد خارج الحدود يغذي دعاة اللادولة بدم مسموم، يستخدم العنف وسيلة لبقائه والحفاظ على غنائمه من شط العرب حتى ساحل المتوسط.