للمأساة وجه آخر لا يقل قبحاً عما أرساه "شطرنج السلاح الإيراني"
من المقال: "للمأساة وجه آخر لا يقل قبحاً عما أرساه شطرنج السلاح الإيراني"

التفسير الوحيد، ومن دون اللجوء إلى المصادر، للولادة السهلة للحكومة العراقية التي شكلتها قوى قريبة من إيران لم تفز في الانتخابات النيابية، هو أن ثمناً موازياً دفعته طهران لقاء هذه "الهدية الغربية". ومن نافل القول إننا شهدنا ولادة موازية، سهلة أيضاً، لاتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، أبدى فيها لبنان، ومن خلفه حزب الله، مرونة غير معهودة بأهل أصحاب نظرية "الصراع الأبدي".

للمرء أن لا يشيح بوجهه عن شبهة العلاقة بين الولادتين، فما انطوت عليهما الواقعتين من استتباع وارتهان، يؤشر إلى الوظيفة الفعلية للسلاح في العراق وفي لبنان. السلاح في العراق أنجب اتفاقاً حدودياً غير عادلٍ في لبنان، والسلاح في لبنان أنجب حكومة عراقية لا تشبه ما رسمته الانتخابات النيابية الأخيرة. العلاقة بين الولادتين لا تحتاج تأويلاً ولا معلومات تدعمها، على رغم تطوع مقربين من طهران، ممن أغاضهم عدم إدراج النظام السوري فيها، لضخ معلومات حولها ومن تفسير "التنازل" في لبنان و"النصر" في العراق، بوصفه دهاء محبباً لديبلوماسية الحرس الثوري.

لكن للمأساة وجه آخر لا يقل قبحاً عما أرساه "شطرنج السلاح الإيراني"، إذ كشفت هذه المبادلة قابلية غربية للمساومة على مصالح المجتمعات المشرقية لقاء تلبية حاجات مجتمعات غربية بدأت تنضب خزانات الغاز فيها. فالعراق ينتج نحو ثلاثة ملايين برميل نفط يومياً، والغرب وأوروبا تحديداً تريدهم مهما كانت طبيعة الحكومة التي ستتولى تصديرهم، ولا بأس بحكومة للفصائل الموالية لإيران تعوزها الشرعية الانتخابية تتولى تصدير النفط. أما نتائج الانتخابات، فيمكن تأجيل التعويل عليها لبينما تستقيم العلاقة مع مصدرين آخرين للنفط. كما أن الصفعة التي وُجهت لثورة تشرين عبر إيصال قتلة الناشطين إلى السلطة، فهذا يبقى حدثاً عابراً يمكن تأجيل معالجته لسنوات.

نفط العراق أهم من العراق في بازار التسوية بين طهران و"قوى التقدم والقيم الإنسانية"، فالعراق يمكن "تأجيله"، أما النفط، فالشتاء قادم ولا قدرة لأحد على تأخير وصوله! ولم يطل الأمر بالمنتظرين حتى باشروا بالتبريك لحكومة الفصائل الولائية التي أناطت التسوية بها حكم من تولت فصائلها قتل ناشطيهم في ساحات الاحتجاج. الحكومة التي ستتولى إدارة محاكمة قتلة هشام الهاشمي الذي تتهم فصائلها بقتله!

في لبنان توهم كثيرون أن السلاح تلقى صفعة عبر تنحيته جانباً في اتفاق أضعف وظيفته، وقدم عليها ترسيماً للحدود، وتحديداً واضحاً للمصالح والحقوق. هذا الافتراض يصح في العلاقة بين "سلاح المقاومة" وبين إسرائيل، أما علاقة هذا السلاح بلبنان، فلن يطرأ عليها تغيير، وسيبقى حزب الله قوة مسلحة تفرض شروطها على الداخل اللبناني، وتسقط الحكومات وتأتي بالرؤساء ولا تحترم نتائج الانتخابات. وحزب الله باشر مهمته التي لطالما أعد العدة لها. فترسيم الحدود هو انتصار جديد، على رغم ما ينطوي عليه من تنازلات عن الحقوق، تماماً مثلما احتفل بحرب تموز بوصفها نصراً على رغم المآسي التي جرتها. حرب تموز أنجبت هدنة على الحدود ما زالت إسرائيل تنعم بها، وانجبت "نصراً" لحزب الله ما زال الأخير ينعم به، فيما لبنان لم يتمكن منذ ذلك الوقت من التقاط أنفاسه، وصولاً إلى الانهيار الكبير الذي يعيشه اليوم. أطول هدنة على الحدود منذ نشوء دولة إسرائيل، وأطول استعصاء سياسي واقتصادي واجتماعي منذ ولادة الكيان اللبناني.

مأزق اللبنانيين ليس في التنازلات عن الحقوق التي قُدمت في الاتفاق، فلبنان بلد منهار ومهزوم ومرتهن ومن غير المتوقع أن يتمكن من فرض شروطه عندما تحضر مصالح الآخرين، انما المأزق في أن السلاح سيواصل اشتغاله بموازاة ضعف الحساسية الغربية حياله.  فالصفقة أثبتت أن السلاح قابل للمفاوضة ولمبادلة المصالح وللمواربة والمراوغة، وهذه الحقيقة تخاطب مزاجاً غربياً تغريه "البراغماتية". وبهذا المعنى خسر اللبنانيون جولة أخرى ليس مع السلاح، انما مع من أوهمهم بأنه قد يكون سنداً لهم في سعيهم لاستعادة بلدهم من قبضة السلاح ومن قبضة الفساد.

وأمام هذه الهزيمة التي ألحقها "العالم الحر" بطموحات عراقيين ولبنانيين توهموا أن بإمكانهم أن يطمحوا ببلاد أفضل من تلك التي فرضها عليهم السلاح والفساد، يبدو أن تصويباً لا بد منه في سياق المواجهة بين "القيم التشرينية" في البلدين وبين سلطتي الفساد والارتهان في بغداد وفي بيروت. المبادلة واضحة ولا لبس فيها. طهران دفعت في لبنان وتقاضت في مقابل ذلك في العراق. وحين جاء موعد التسوية، انخرط فيها من سبق أن عولنا عليه في الوقوف إلى جانبنا.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.