متظاهر يرفع العلم العراقي قرب جسر الأحرار وسط بغداد

يقول أرسطو في كتابه "السياسة": "فبديهي إذا أن الدساتير كلها التي تقصد إلى المنفعة العامة هي صالحة.. وكل الدساتير التي تقصد المنفعة الشخصية للحاكمين وهي فاسدة القواعد، ليست إلا فسادا للدساتير الصالحة".

مناسبة هذا الاستذكار لمقولة أرسطو، هي الانتقاد الذي نسمعه لِدستور العراق على لسان السياسيين وزعماء الطبقة السياسية والنخب الأكاديمية، والذي يمتد إلى انتقاد تطبيق النظام البرلماني في العراق. ولعلّ آخر هذه الانتقادات ما ورد في تصريح لِلسيد فائق زيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، بقوله: "تجربة النظام البرلماني في العراق فاشلة بامتياز والأحداث التي ترونها في العراق دليل على ذلك... وإن الدستور وُضِع بطريقة ردود أفعال لمخاوف ما قبل 2003".

حقيقة توصيف السيد زيدان لا يجانب الصواب، ولكنه يشخّص الجزءَ الظاهر مِن المشكلة، من دون أن يتعمّق في تفاصيلها، والتي تكمن في فشل النخب الحاكمة- التي تولّت السلطةَ بعد 2003 وشكلّت منظومة الحكم- في إنتاج نظام سياسي يكون ضامنًا لعلاقة تفاعلية بين المجتمع والنظام السياسي، ويوفر بيئة قادرة على احتواء الصراعات السياسية بين الأحزاب والقوى الفاعلة في المجتمع السياسي.

المشكلة ليست في نظام الحكم، على الرغم من عجزه وضعفه عن احتواء الصراعات السياسية، وإنّما المشكلة الحقيقية في ما أسسته الطبقةُ السياسيةُ الحاكمة، ومَن ساهم بتوفير الغطاء الشرعي لها. فمنظومة الحكم تغوّلت ولم تعد تحتكر السلطةَ فحسب، لا بل تحتكر السياسة.

يرى عبد الإله بلقزيز أنَّ احتكار السياسية أكثر سوءاً من احتكار السلطة، لأنّه لا يكتفي بمصادرة السلطة واحتكار أجهزة الدولة بيد النخب الحاكمة، بل يصادر السياسةَ نفسها حين يُقصر الحقَّ فيها على زعامات سياسية محددة وأحزابها أو حاشيتها. 

كان من المفترض على الطبقة السياسية التي اتفقت على تبنّي النظام البرلماني في الدستور العراقي عام 2005 أن تراجع تجربةَ هذا النظام في العهد الملكي (1921-1958). ولكن يبدو أنها لم تكن ضليعة لا في التاريخ ولا في السياسة، وكان يسيطر عليها أفق سياسي محدود ينحصر في ضمان بقاء سيطرتها على الحكم.

فتاريخ تلك التجربة يقول إنَّ النظام البرلماني كان عاجزًا عن تحقيق الاستقرار السياسي وعن ترسيخ مبدأ المسؤولية السياسية والدستورية لِلحكومة أمام البرلمان. إذ يذكر أستاذنا الدكتور رياض عزيز هادي في كتابه "المشكلات السياسية في العالم الثالث" أنّه قد "تألَّفَ في العهد الملكي في العراق، منذ أن اجتمع أوّل مجلس لِلنوّاب في بغداد في 16 تموز 1925 إلى 14 تموز 1958، ستة عشر مجلسًا.. ومجالس النوّاب الستة عشر هذه لم تقرر مرةً واحدة حجب الثقة عن الوزارات الثلاث والخمسين التي تألَّفت في العهد الملكي، ولا عن وزير واحد من تلك الوزارات". 

تجارب النظم البرلمانية في العالَم الثالث، كانت تواجه مشكلة تعاظم دَور الحكومة على حساب البرلمان، وتتعقّد المشكلةُ أكثر في بلدان المجتمعات التقليدية التي تهيمن عليها ثقافة السلطة الأبوية لمن يصل إلى سدّة الحكم، وعندما يكون نمط اقتصادها معتمدًا بالدرجة الأساس على الريع النفطي، إذ تعمل الحكومة على تمركز السلطات بيدها وتُهمّش وظيفة البرلمان في المراقبة والمحاسبة. ولذلك فشل النظام البرلماني في العراق يعود في جزء كبير منه إلى تلك الأسباب.

النظام السياسي في العراق، هو نظام هجين، عنوانه برلمانيّ، لكنَّ الحيز التمثيلي فيه ضيّق جدّاً، وإدارة الحكم تجري عن طريق منظومة حاكمة تسيطر عليها طبقةٌ سياسيةٌ تجمع بين السلوكيات الأوليغارشية والأوتوقراطية، وتحتكر السياسةَ والسلطةَ، وتمارس نفوذَها على المجال السياسي، حتّى تتمكن من احتكار الهيمنة على الدولة ومؤسساتها. تفتقر الأنظمةُ الهجينةُ لميدان من المنافسة المفتوحة والحرّة والنزيهة، التي تتيح إخراج القوى الحاكمة من السلطة إذا لم يعد مرغوبًا فيها من غالبية الناخبين، ولذلك يكون انتصار المعارضة أمرًا غير ممكن.

النظام السياسي في العراق أصبح مغلقًا، إذ لا يمكنه الاستمرار إلا بوجود الانقسامات الطائفية والقومية التي يتغذّى عليها، وفي الوقت نفسه يعمل على إدامتها، محاولًا إيهام المجتمع أنّه الممثل السياسي لها، على الرغم من أنَّ البيئة السياسية في العراق تزدهر فيها الاصطفافات والولاءات الثانوية والتقليدية، وتنعدم ديناميات التوحيد والتجانس السياسيين.

وظيفة منظومة الحكم في العراق أصبحت تنحصر في تحقيق التخادم المصلحيّ بين القوى السياسية الفاعلة، وكبح ديناميكية المجتمع الذي تترجم فيه نفسَها سياسيًا، ومن ثمَّ ينحسر مجال اشتغال المعارضة لِلنخب الحاكمة وتعبيرها عن مطالبها الاجتماعية والسياسية في وسائل خارج دائرة التمثيل السياسي، كالإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي.

لم تنجح منظومةُ الحكم إلاّ في توفير بيئة خصبة لتفريخ قوى طفيلية على السياسة والاقتصاد، وظيفتها نهب الدولة ومواردها واقتصادها الريعي، وتساهم في إضعاف الدولة، والتمرد عليها تارةً، وتارة أخرى تعمل على أن تكون موازية لها وتصادر وظائفها الرئيسة في الأمن واحتكار العنف المنظَّم.

وما دامت المنظومةُ الحاكمةُ هي التي تسيطر على النظام السياسي في العراق، فإنَّ التفكير بأنّها يمكن أن تتبنى مشروعاً لتغيير شكل نظام الحكم مِن برلماني إلى رئاسي أو شبه رئاسي هو نوع مِن أحلام اليقظة! فالبقاء على هذا النظام البرلمانيّ العاجز عن النهوض بمهامّه ووظائفه السياسية والدستورية هو الضمان الوحيد لبقاء سيطرتها ونفوذها على الدولة واقتصادها.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.