ستنجو قطر من شبهة عدم التزامها معايير إنسانية اصطلح الغرب على جعلها معياراً لمشاركاته في أنشطة لها طابع كوني، وعلى رأسها طبعاً المونديال! وليست "الخصوصية الثقافية" هي ما سيستعان بها لرفع منسوب التسامح مع الإمارة الخليجية، لجهة إجراءاتها "الثقافية" بحق الأقليات الجندرية والحريات الفردية خلال تنظيمها المونديال، إنما "الكرم" الذي أبدته وتبديه في سياق استضافتها الكوكب بأهله ورياضييه وإعلامييه، والذي مثل رشوة لتمرير "الارتكابات الصغرى".
والإمارة التي سبق أن انشقت عن نظيراتها في الخليج عادت والتأمت مع الأرخبيل النفطي، وكان من نتائج هذا الالتئام أن ضمنت منظومة دفاع عن "الخصوصية الثقافية" تتعدى وسائل إعلامها. وهنا علينا أن ننسى الحروب الدامية التي اشتعلت قبل سنوات بموازاة جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
لكن هذه الارتكابات ليست أكثر من تفصيل صغير في سياق انخفاض منسوب الحساسية الإنسانية حيال الفئات الضعيفة في العالم، وأيضاً حيال ما ترتكبه منظومات التعسف والاضطهاد التي يحفل بها كوكبنا. فأثناء انشغالنا بالمباريات بين المنتخبات العالمية تسرب فيديو من مكان ليس بعيد عن قطر، إلا أنه لم يعد يملك جاذبيتها، لمقاتلين من طالبان يتولون رجم رجل حتى الموت. لا نعرف ما اقترفه هذا الرجل، لكن علينا أن نستنتج من تقنية القتل رجماً أنه "أقدم على الزنا"! وقبل هذا الفيديو بأسابيع قليلة، شهدنا على عودة جلد النساء في جمهورية طالبان الثانية، الجمهورية المرعية دولياً، والتي تتولى قطر، بموازاة توليها تنظيم المونديال، رعايتها والتوسط بينها وبين العالم.
نعم مؤشرات انخفاض منسوب الحساسية العالمية حيال اضطهاد الضعفاء كثيرة، وكثيرة جداً، والمونديال ليس ذروتها، فالفظيع أكثر أن يجري تسليم أفغانستان إلى طالبان، مع ما جره هذا التسليم من مآس. والفظيع أيضاً أن يزحف العالم إلى إيران ونفطها أثناء قمعها الدموي للمتظاهرات والمتظاهرين، وأن يعتبر هذا العالم أن محمد بن سلمان مصلح ومحدث. وأخيراً أن يشعر بنيامين نتانياهو أن بإمكانه تسليم إيتمار بن غفير وزارة الأمن الداخلي، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات كارثية على الفلسطينيين.
العالم يحتاج إلى أشراره لكي يواصل النظام الدولي اشتغاله! إذا صحت هذه المعادلة، فهي تفترض العودة قرون إلى الوراء. هل هذا ممكن؟ الأرجح أنه غير ممكن. طالبان في جمهوريتها الأولى كانت ترجم "الزاني"، لكن العالم لم يكن شاهداً على هذه الواقعة. واقعة الرجم اليوم ستشطب وجوه سكان الكوكب. ثمة حاجة للأشرار، لكن في مقابلها ثمة تطلب إنساني لم يعد من الممكن تفاديه.
قد يُستجاب مثلاً لمقولة "الخصوصية الثقافية" التي أشهرتها قطر في وجه المحتجين المثليين، لكن ماذا عن مشهد حامل علم قوس قزح مقتحماً الملعب في الدوحة. هو في المقابل شهادة على أن ثمة منعاً وتعسفاً مرافقاً لفعاليات المونديال. العالم إذا ما قرر أن يغض النظر عن هذا المشهد، وهو قرر على ما يبدو، سيصطدم، وهو اصطدم بخطوات كان قطعها نحو حقوق المثليين وغيرهم من الأقليات الضعيفة. ثم أن دعوتنا لإدانة جرائم فلاديمير بوتين في أوكرانيا لا تنسجم مع إشاحة النظر التي يمارسها العالم عن جرائم ربيب بوتين، بشار الأسد في سوريا.
الجريمة واحدة، وتمرير الانتهاك يسهل على المرتكب تكرار فعلته وتحويلها قاعدة لممارساته. فالأشرار اليوم بصدد إنقاذ بوتين طالما أن خفض منسوب الحساسية حيال الانتهاكات شمل أشباهه في إيران والخليج وإسرائيل. لا بل أن صغار الأشرار عادوا واستيقظوا على حقيقة أن الملعب يتسع لصغاراتهم، طالما أنه اتسع لكبائر المرتكبين. جبران باسيل مثلاً شعر أن بمستطاعه ركوب الطائرة والتوجه لحضور المونديال والتقاط صور لنفسه هناك مع ابنه، على رغم أن اللبنانيين عاجزين عن متابعة المباراة بسبب الانهيار المالي الذي تسبب هو وشركاؤه في السلطة به. ما كان جبران ليرتكب على هذه الفعلة لولا شعوره بأن العالم يتسع لموبقاته.
بموازاة ما يمثله من مناسبة للغبطة والشغف، يبدو المونديال مرآة هائلة لما يعتري العالم من آلام. كرة القدم التي ولدت في ملاعب فقراء هذا العالم، تحولت إلى مسرح لرهانات أثريائه ولاستثماراتهم، لكن المؤلم أكثر أنها انضبطت بقيم أنظمة السوء وبحساباتها. فالمونديال لا يستقيم إلا إذا أنفقت قطر 220 مليار دولار لتنظيمه، والملاعب لا تتسع لغير جبران باسيل من اللبنانيين، وبريق نجوم المونديال يحجب مشهد الرجل الأفغاني الذي رجمته طالبان حتى الموت، ونظام الملالي في طهران نجح في فرض نشيده الوطني على منتخب إيران في المباراة الثانية له، بعد أن صمت اللاعبون في المباراة الأولى.
فهل من سبيل لتجنيب المونديال من أن يكون فرصة لإنعاش أنظمة الاضطهاد والفساد؟