أبطال فيلم "السباحتان" مع الشخصيتين الحقيقيتين سارة ويسرا مارديني
أبطال فيلم "السباحتان" مع الشخصيتين الحقيقيتين سارة ويسرا مارديني

واكبت السينما تشظيات المأساة السورية على مدى أحد عشر عاماً من عمرها، برؤيتين رئيستين ارتبطتا أو بشكل أدق اتشحتا في خلفيتيهما بموقف صنّاعهما السياسي. فخرجت أفلام رسمية أو غير رسمية لسينمائيين محترفين في الداخل السوري، والأخرى لسينمائيين محترفين أو لمواهب سينمائية جديدة يقيمون في دول اللجوء، مع حرص الجانبين بشكل أكبر التركيز على الجانب الانساني وتداعياته المستمرة. 

إلى جانب هاتين الرؤيتين، أثار الحدث السوري اهتمام سينمائيين عالميين، فخرجت في السنوات الخمس الأخيرة بعض الأفلام ذات الإنتاجات الغربية التي شاركت في مهرجات دولية هامة، استلهمت مواضيعها بطبيعة الحال من بعض القصص الإنسانية المؤثرة، جاء أحدثها عبر فيلم (السبّاحتان) الذي أطلقته NETFLIX للمشاهدة على منصتها في 11 نوفمبر الفائت، لمخرجته المصرية البريطانية سالي الحسيني، وتقاسم بطولته نجوم عرب وغربيين، مع منح صدارة البطولة للموهبتين الشابتين نتالي ومنال عيسى. 

أثار فيلم (السبّاحتان The Swimmers) ردود فعل سورية وعالمية متباينة بين مرحبة ومشجعة له للغاية، وبين متهمة له بالرؤية غير العميقة أو المنصفة للحدث السوري. رغم ذلك حقق الفيلم مشاهدات عالية منذ إطلاقه بوصفه دراما سيرة ذاتية، يحاكي القصة الحقيقية لسباحتين سوريتين محترفتين، يسرى وسارة مارديني، تمكنتا بعد اللجوء من المشاركة في أولمبياد ريو دي جينيرو 2016، وكانتا قد اضطرتا للنزوح مع أسرتهما بداية الحرب، قبل أن تخوضا تجربة الهروب عبر قوارب الموت ومسالك الخطر التي سلكها ومايزال معظم لاجئي العالم إلى أوروبا. 

قصص اللجوء التي لاتنتهي، لاتكف في طبيعتها المضنية في إثارة المشاعر والتعاطف الوجداني العالمي. وبدورها، ستثير قصة يسرى وسارة مارديني في فيلم (السبّاحتان) مثل هذه المشاعر الفائضة بل وتؤججها. وسينجح هذا الفيلم المتقن في صنعته السينمائية في خلق ثلاث وجهات نظر له متقاطعة ومتكاملة . تتمثل الأولى عبر رؤيته بعين اللاجىء السوري أو أي لاجىء عالمي  خاض تجربة البحر ذاتها وعاش أهوالها وأدق تفاصيلها بنفسه. وسيعيد فتح ذاكرته المتخمة بالصور القاسية والأصوات البشرية المستغيثة، التي يجرب أن يتناساها قدر المستطاع، ليخفف ثقلها النفسي عن نفسه، ويتمكن من المضي في مواجهة تحديات حياته الجديدة والصعبة في دول اللجوء.  

فيما تتمثل وجهة النظر الثانية عبر رؤيته بعين المجتمع الدولي وفضاءاته المتعددة بوصفه فيلماً عالمياً بامتياز. هذا العالم الذي(قد) ينتبه ويكترث أكثر لمآسي السوريين اللاجئين أو أولئك الذين يعانون من أقسى الظروف المعيشية في المخيمات أو في الداخل على حد سواء. وأيضاً لجميع لاجئي العالم الذين تتكرر قصص معاناة هروبهم لأسباب مختلفة، والتعويل على الفنون كأدوات تأثير مساندة يمكنها أن تساهم كقوة ناعمة في توضيح الرؤى والضغط، أو على الأقل التخفيف من الأسباب التي تدفع بلجوء الأفراد وتشرذمهم على مدار الساعة. 

وفي الوقت ذاته، قد تساهم مثل هذه النوعية من الأفلام، في الدفع أكثر لإشاعة بعض الطمأنينة والدعم للاجئين العالميين، الذين يعاملون في بعض الدول بعنصرية وفوقية، وهم أفراد يحملون معهم قهرهم وأحلامهم وتنوعهم وثقافاتهم، وأيضا مقدراتهم الذاتية ومواهبهم التي يمكن أن تفضي إلى قصص نجاح مبهر ومزدوج ينعكس على اللاجىء بذاته، وأيضاً على الدولة المضيفة له، كما في قصة الأختين مارديني بوصفها قصة نجاح ملهمة للغاية. 

أما الرؤية الأخيرة، وهي في الواقع الأشد قسوة، وتتمثل برؤية مثل هذه القصص بعين سوري  اختار البقاء في الداخل لقناعات خاصة تتعلق بالوطن أو لأسباب عائلية أو غيرها، أو لم يتمكن من تأمين المال الكافي للنجاة نحو حياة أكثر استقراراً. وأخمن أن الكثير من الأفكار ستجول في خاطره حال مشاهدته للفيلم، من مثل :"هل تجربة خطر مماثل والمجازفة بالروح كانت متاحة ومشروعة وأجدى من بقائي في مثل هذه الظروف المعيشية القاسية؟؟". أم أن :"كل مرارات الأوطان ولامررات الغربة والحياة تحت مسمى لاجىء طوال العمر؟". 

لكن، وأياً تكن العين التي تراه، لاشك أنه فيلم نجح في إعادة تسليط الضوء (ولو كان ضوءاً سينمائياً) على واحدة من أبرز القضايا الانسانية المعقدة والملحة، وعلى أهمية استمرار الأمل في النفس البشرية والسعي نحو الحلم والنجاح أياً تكن التحديات. وتمكن من تقديم وإدارة إخراجية ملفتة لموهبتي الشابتين اللبنانيتين الواعدتين منال ونتالي عيسى، اللتان خاضتا تجربة التمثيل للمرة الأولى وأبليتا بلاء طيباً في تقمصهما حياة الأختين مارديني. 

وأيضاً في تألق حريتهما الذاتية والجسدية الملفتة، التي أفضت إلى حالة من الإقناع والمصداقية تحتاجهما طبيعة الفيلم القائمة على السباحة والظهور(بالمايوه) بدون عقد أو تحفظات. كما كسر الصورة النمطية السائدة في الخارج بشكل عام عن المجتمع السوري وإبراز تنوع أطيافه، ونسائه بشكل خاص، دون أن يقاس مفهوم التحرر "بالفلتان" الذي يشيعه المتشددون، أو أن تعني الاستقلالية وخوض غمار الحياة بشجاعة، تخلياً عن سلوكيات تربوية وأخلاقية وقيم عائلية راسخة.  

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

الرئيس السوري بشار الأسد زار حلب إحدى أكبر المدن التي تضررت بالزلزال
الأسد خلال حديثه لوسائل الإعلام أثناء زيارته لحلب بعد الزلزال (سانا)

فور حدوث الزلزال الكارثي الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا وقضى على عشرات الآلاف من الضحايا وحّول مناطق شاسعة في البلدين إلى أهرامات من الركام، سارع الرئيس السوري، بشار الأسد، دون خجل إلى تسيس هذه المأساة واستغلالها لخدمة مصالحه الضيقة، ولطمس جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد شعبه في العقد الماضي، وللتخلص من العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على نظامه ولإعادة بعض الشرعية لنظامه الدموي الفاسد. 

الأسد رحّب بالاتصالات الهاتفية التي أجراها معه بعض القادة العرب، مثل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وبأولى شحنات المساعدات التي وصلت إلى سوريا من دولة الإمارات وقطر والسعودية والأردن. 

هذه الدول تسعى منذ سنوات إلى إعادة سوريا إلى "حظيرة" جامعة الدول العربية، سوف تتعاون مع دمشق في سياق إغاثة ضحايا الزلزال إلى إعادة تأهيل النظام السوري واعتماد سرديته الواهية التي تدعي أن إغاثة الضحايا السوريين يجب أن تمر عبر دمشق.

حتى الحكومة اللبنانية المستقيلة، التي بالكاد تقوم بمهام تصريف الأعمال، أرسلت وفدا حكوميا رسميا إلى دمشق لبحث تداعيات الزلزال المدمر "والإمكانات اللبنانية المتاحة للمساعدة في مجالات الإغاثة".

لبنان، الذي وصفه أحد الأصدقاء الظرفاء، "أجمل دولة فاشلة في العالم"، هذه الدولة التي تركت للبنانيين مشاهدة ركام أهرامات القمح في المرفأ بعد أن دمرها جزئيا أكبر انفجار غير نووي في العالم لتذكرهم بفشلها وفسادها ورعونتها، دفعتها المروءة المسرحية لمد يد المساعدة لنظام أذلّ اللبنانيين لعقود.

السوريون، الذين قهرهم أولا نظامهم الوحشي، وتخلى الله عنهم لاحقا، إلى أن أتت الطبيعة لتزيد من يبابهم يبابا، يستحقون كل مساعدة وكل إغاثة ممكنة لأنهم ضحايا بامتياز وعلى مدى سنوات طويلة.

ولكن الخبث اللبناني الرسمي ينضح من ادعاءات توفير الإمكانات اللبنانية لمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا، (الهدف الأول من الزيارة هو تطبيع العلاقات) بينما يتم تجاهل ضحايا الزلازل السياسية اللبنانية، ومن بينهم ضحايا انفجار مرفأ بيروت الذي ترفض الحكومة اللبنانية والقوى التي تقف وراءها مثل حزب الله حتى الاعتراف بمأساتهم والتعويض عليها، ومحاسبة المسؤولين عن الانفجار.

وخلال زيارته الأولى للمناطق المنكوبة في حلب (بعد خمسة أيام من حدوث الزلزال) ألقى الأسد باللوم على الغرب لتأخر وصول المساعدات الإنسانية مدعيا أن أولويات الغرب سياسية وليست إنسانية، مضيفا أنه من الطبيعي أن يسيسوا الوضع، لأن اعتبارات الغرب غير إنسانية لا اليوم ولا في السابق.

واستغل الأسد وأقطاب نظامه الزلزال للمطالبة بإلغاء العقوبات الاقتصادية الدولية، في الوقت الذي واصلوا فيه إصرارهم على ضرورة وصول المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة في البلاد عبر الحكومة السورية فقط، بما في ذلك المساعدات إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وهو أمر ترفضه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بسبب سجل الأسد خلال العقد الماضي في استغلال المساعدات الانسانية وتوزيعها على أنصاره أو سرقتها وبيعها في السوق السوداء.

وفي الأسبوع الماضي، جددت واشنطن إصرارها على رفض التعامل المباشر مع نظام الأسد أو رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة ضده، مع التأكيد على أن العقوبات تستثني المساعدات الانسانية والأغذية والأدوية.

وقال الناطق باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، للصحفيين: "من المثير جدا للسخرية، إن لم يأت بنتائج عكسية، أن نتواصل مع حكومة عاملت شعبها بوحشية على مدى أكثر من عشر سنوات حتى الآن عن طريق إطلاق قنابل الغاز عليهم وذبحهم، لتتحمل المسؤولية عن الكثير من المعاناة التي يعيشها الشعب".

في هذا السياق من الصعب تصديق ادعاءات وزير الخارجية السوري، فيصل مقداد، أن حكومته مستعدة لأن تسمح بدخول المساعدات الدولية إلى جميع المناطق السورية "طالما لم تصل إلى التنظيمات الإرهابية المسلحة" كما قال في مقابلة تلفزيونية وهذا يعني عمليا استثناء محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام الإسلامية.

وادعى مقداد أن العقوبات تزيد من صعوبة الكارثة. هذا الموقف ينسجم مع الموقف التقليدي لنظام الأسد خلال العقد الماضي حين كانت السلطات السورية تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى السوريين الذين كانوا يعانون من المجاعة في المناطق المحاذية للعاصمة، دمشق، كما حدث خلال سنتي 2012 و2014. ويجب ألا نتوقع غير ذلك الآن.

نصف المناطق المنكوبة في سوريا واقعة تحت سيطرة الحكومة السورية والنصف الآخر واقع تحت سيطرة المعارضة المسلحة.

ويخشى السوريون في المناطق الواقعة خارج السيطرة الحكومية في شمال غرب سوريا وكذلك منظمات الإغاثة الدولية من أن نظام الأسد سوف يعطل إيصال المساعدات إليهم او الاستيلاء عليها، وأن الوسيلة الوحيدة لإيصال هذه المساعدات بسرعة الى المتضررين هي عبر الأراضي التركية وعبر معبر باب الهوى، وهو المعبر الوحيد المفتوح بين تركيا وسوريا.

وتقوم روسيا، بطلب من الحكومة السورية باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي لمنع فتح المعابر الاخرى بين تركيا وسوريا.

ولذلك، فإن مفتاح الإسراع بإيصال مساعدات الإغاثة الدولية إلى تلك المناطق السورية هي عبر فتح المعابر الدولية، بدلا من الحديث العبثي عن إلغاء العقوبات الاقتصادية وهي مسألة صعبة قانونيا وسياسيا، وسوف تؤدي إلى تعزيز وترسيخ نظام ارتكب جرائم حرب ضد شعبه. ووصلت صفاقة النظام السوري إلى درجة أنه قصف مناطق المعارضة المنكوبة حتى بعد حدوث الزلزال.

وفي خطوة لافتة أرادت من خلالها واشنطن أن تفند الاتهامات الباطلة بأنها لا تقوم بما فيه الكفاية لإيصال المساعدات الى المناطق السورية المنكوبة، أصدرت وزارة الخزانة الأميركية استثناء مؤقتا من العقوبات يتعلق بالمعاملات المالية للأغراض الإنسانية لمدة ستة أشهر.

وأكد مساعد وزير الخزانة الأميركية، والي أدييمو، أن "برامج العقوبات الأميركية تحتوي بالفعل على إعفاءات قوية للجهود الإنسانية ومع ذلك أصدرت وزارة الخزانة اليوم ترخيصا عاما شاملا لتفويض جهود الإغاثة من الزلزال حتى يتمكن أولئك الذين يقدمون المساعدة من التركيز على ما هو مطلوب أكثر: إنقاذ الأرواح وإعادة البناء".

ولكن هذا التعديل المؤقت لا يشمل السماح بالتعامل المالي مع أي جهة رسمية تابعة لنظام الأسد ولا التعامل مع الأفراد المدرجين على قوائم العقوبات، كما لا يستثني الحظر المستمر على النفط السوري.

من المتوقع أن يؤدي الزلزال إلى تعجيل وتيرة تطبيع العلاقات بين معظم الدول العربية بمن فيها أصدقاء الولايات المتحدة والنظام السوري، على الرغم من استمرار العلاقات الوثيقة بين دمشق وطهران.

كما من المتوقع أن تبقى العقوبات الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على النظام السوري، طالما بقي الأسد متربعا على كرسيه الرئاسي فوق الركام السوري.