نجح المسلمون في السيطرة على مساحات واسعة من الشرق الأدنى القديم (أساسا بلاد مصر والعراق والشام) في القرن السابع الهجري. وجد "الفاتحون" المنتصرون أنفسهم وجهًا لوجه مع طوائف وجماعات شتى. كان لكل طائفة مجموعة من المعتقدات التي تختلف إلى حد بعيد مع الأصول العقائدية الإسلامية.
اعترف القرآن ببعض تلك الطوائف، ممهدًا الطريق للمسلمين للتعامل معها بأريحية. كان الصابئة من ضمن تلك الطوائف. في هذا المقال نسلط الضوء على الصابئة المندائيين في العراق. لنرى كيف نظر المسلمون لهم. ولنتعرف على أهم العقائد التي آمنت بها تلك الأقلية الدينية التي تعيش في بلاد الرافدين منذ آلاف السنين.
المنظور الإسلامي للصابئة
ورد مصطلح الصابئة ثلاث مرات في القرآن. ظهر للمرة الأولى في سورة البقرة: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ". وللمرة الثانية في سورة المائدة: "إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون". أما الظهور الثالث للمصطلح، فوقع في سورة الحج: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ".
وقع المسلمون في حيرة بالغة عند تناولهم لمصطلح الصابئة. لم يفهم المفسرون والفقهاء المعنى المحدد المقصود من المصطلح. ظهر ذلك واضحًا في كتابات العلماء المسلمين عبر القرون. على سبيل المثال، جاء في تفسير ابن جرير الطبري المتوفى 310ه أن "كل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب صابئًا... واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم". تماشى هذا التفسير مع العديد من الروايات التاريخية التي تؤكد أن قريش كانت تتهم المسلمين الأوائل بأنهم صبأوا، بمعنى أنهم تركوا دين آبائهم وأجدادهم.
طرح فخر الدين الرازي المتوفى 606ه في تفسيره "مفاتيح الغيب" تفسيرًا مختلفًا للصابئة، فوصفهم بأنهم "قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الكَواكِبَ، ثُمَّ لَهم قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ خالِقَ العالَمِ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، إلّا أنَّهُ سُبْحانَهُ أمَرَ بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الكَواكِبِ واتِّخاذِها قِبْلَةً لِلصَّلاةِ والدُّعاءِ والتَّعْظِيمِ. والثّانِي: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ خَلَقَ الأفْلاكَ والكَواكِبَ، ثُمَّ إنَّ الكَواكِبَ هي المُدَبِّرَةُ لِما في هَذا العالَمِ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ والصِّحَّةِ والمَرَضِ، والخالِقَةُ لَها، فَيَجِبُ عَلى البَشَرِ تَعْظِيمُها لِأنَّها هي الآلِهَةُ المُدَبِّرَةُ لِهَذا العالَمِ ثُمَّ إنَّها تَعْبُدُ اللَّهَ سُبْحانَهُ".
يظهر التشوش الواضح في أفكار علماء الإسلام عن الصابئة فيما ذكره ابن القيم الجوزية المتوفى 751ه في كتابه "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان". يعرض ابن القيم العديد من الآراء المختلفة حول مصطلح الصابئة دون أن يرجح أحدها، فيقول: "الصابئة فرَق، فصابئة حنفاء، وصابئة مشركون، وصابئة فلاسفة، وصابئة يأخذون بمحاسن ما عليه أهل الملل والنحل من غير تقيد بملة ولا نحلة، ثم منهم من يقر بالنبوات جملة ويتوقف في التفصيل، ومنهم من يقر بها جملة وتفصيلاً، ومنهم من ينكرها جملة وتفصيلاً".
هكذا إذن يتبين بشكل واضح أن العلماء المسلمين لم يستطيعوا بشكل دقيق تحديد مفهوم واضح لمصطلح الصابئة، ولم يستطيعوا تمييز الفرقة المقصودة به بالذات.
العلاقة بين الصابئة والمندائيين
تسبب غياب مفهوم واضح لمصطلح الصابئة في نتائج مهمة، إلى حد بعيد، في التاريخ الإسلامي. تذكر المصادر التاريخية أن العديد من الأقليات والفرق الدينية في الشرق الأدنى أعلنت أنها هي المقصودة به. والسبب في ذلك أن اعتراف القرآن بالصابئة يمهد مبدئيا لقبول التعامل معهم والسماح لهم بالوجود كفرقة كتابية تؤدي الجزية وتمارس شعائرها وطقوسها بقدر من الحرية. وهو حاولت بعض الفرق استغلاله.
يحكي ابن النديم المتوفى 384ه في كتابه "الفهرست" أنه أثناء مرور الجيش العباسي بقيادة الخليفة عبد الله المأمون على مدينة حران الواقعة جنوب تركيا الحالية، خرج أهل المدينة الذين كانوا يعتنقون عبادة الكواكب والنجوم لاستقبال الخليفة. وكانوا يلبسون سترات سوداء، وقد أطالوا شعرهم وجعلوه على هيئة خصل. تعجب المأمون من هيئتهم، وسألهم عن دينهم، وإذا ما كانوا يهودًا أم نصارى؟ وهددهم بالقتل أو النفي إن خرجت إجابتهم عن الديانات الكتابية التي وردت في القرآن، وأمهلهم بعض الوقت للإجابة على هذا السؤال. بعد أيام، أتفق أهل حران على إجابة السؤال. قالوا إنهم من الصابئة، واعتمدوا على الغموض المحيط بهذا المصطلح عند المسلمين.
لكن، بشكل عام، ارتبط اسم الصابئة بطائفة المندائيين الذين سكنوا جنوب العراق منذ قرون. يذكر الباحث عزيز سباهي في كتابه "أصول الصابئة المندائيين ومعتقداتهم الدينية" أن بعض الكتب المندائية تحدثت عن اللقاء الأول بين المسلمين والمندائيين. ذكرت تلك الكتب أنه عند الفتح الإسلامي للعراق. توجه واحد من كبار الزعماء الدينيين للمندائيين، وهو "أنش بر دنقا"، إلى القائد العسكري المسلم. وعرض عليه كتاب جنزا ربا، وشرح له أصول الديانة المندائية. وأخبره أن طائفته هي المذكورة في القرآن تحت اسم الصابئة. تؤكد المصادر المندائية أن القائد المسلم صدق محدثه. فقبل منه الجزية، وسمح للمندائيين بالبقاء في القرى والمدن التي عاشوا فيها من قبل.
من هنا، وقع الارتباط التاريخي بين المصطلح القرآني "الصابئة"، وطائفة المندائيين. وعمل الكثيرون على إيجاد تفسير لتسمية تلك الطائفة بهذا المصطلح. قال البعض إنه من الممكن أن تكون كلمة الصابئة مشتقة من الفعل الأرامي صبا الذي يشير إلى التعميد أو الاغتسال بالماء. يتوافق ذلك الرأي مع ما اشتهر به المندائيون من التزامهم بممارسة طقوس الاغتسال على ضفاف الأنهار.
ويتحدث عزيز سباهي عن مشاركة المندائيين في ازدهار الحضارة الإسلامية في العصر العباسي، فيقول: "لعب الصابئة، رغم كونهم طائفة دينية صغيرة، دورًا ملحوظًا في تطور الحياة الروحية والفكرية في بلاد ما بين النهرين خلال ظهور المسيحية وانتشارها أو بعد ظهور الإسلام، ولا سيما بعد ازدهار الحضارة العربية- الإسلامية أيام العباسيين، ولمعت من بينهم شخصيات علمية أسهمت بقسط وافر في إعلاء شأن الحضارة العربية- الإسلامية".
عقائد الصابئة المندائيين
يوضح سباهي الاختلاف حول الأصول المبكرة للطائفة المندائية. فيذكر أن هناك رأيين مختلفين في المسألة. يذهب أصحاب الرأي الأول إلى أن المندائيين ظهروا في جنوب العراق، وأنهم تأثروا بالثقافات البابلية والسومرية المحيطة بهم، في حين يذهب أصحاب الرأي الثاني إلى أن المندائيين الأوائل ظهروا في فلسطين. وأنهم اضطروا إلى الهجرة إلى العراق بعد صراعات مع اليهود.
يوضح الريشما -وهي أعلى رتبة دينية عند الصابئة المندائيين- ستار جبار حلو الزهيري، رئيس ديانة الصابئة المندائيين في العراق والعالم، أهم العقائد التي يؤمن بها المندائيون. يقول: المندائيون يعتقدون بأن ديانتهم هي أول الديانات التوحيدية على الإطلاق. ويؤمنون بأدم أبي البشر، الذي كان أول من اصطبغ/ تم تعميده على يد الملائكة في عالم الأنوار. يعتقد المندائيون بمجموعة من الشخصيات المقدسة التي تحظى بمكانة رفيعة. ويُعدّ كل من آدم، وشيث، ونوح، وسام بن نوح، وإدريس/ دنانوخت، أهم هؤلاء الشخصيات. ويعتقد المندائيون بأن يحيى بن زكريا هو آخر الأنبياء.
يقول المندائيون إن يحيى توفي على حافة النهر حيث كان يقوم بطقوس التعميد. ويعارض هذا ما تواتر في المصادر الدينية المسيحية والإسلامية، والتي تذكر أن يحيى قُتل وقُطعت رأسه بأمر من الملك هيرودوت أنتيباس.
يذكر ستار جبار حلو الزهيري أن المندائيين الأوائل اعتمدوا اللغة الآرامية الشرقية لكتابة نصوصهم المقدسة. ويُعد كتاب جنزا ربا -والذي يعني الكنز العظيم- أهم كتبهم المقدسة على الإطلاق. يعرف المندائيون يوم الأحد على كونه اليوم الأقدس في الأسبوع. ويحتفلون بعدد من الأعياد، من أهمها عيد رأس السنة المندائية. ويمكث فيه المندائيون في بيوتهم لمدة ست وثلاثين ساعة متواصلة. وهناك أيضا، وعيد البرونايا أو عيد الخليقة، وعيد الازدهار الذي يحتفلون فيه بذكرى تيبس الأرض وجريان الأنهار وتفتح الزهور، إيذانًا بنزول آدم إلى الأرض. فضلًا عن عيد التعميد الذهبي، الذي يحتفلون فيه بذكرى تعميد آدم وذكرى تعميد يحيى.
توجد خمسة أركان رئيسية في الديانة المندائية. أولها الإيمان بإله واحد خالق لكل شيء. ورد في كتبهم المقدسة "باسم الحي العظيم، هو الملك منذ الأزل، ثابت عرشه، عظيم ملكوته، لا أب له ولا ولد، ولا يشاركه ملكه أحد، مبارك هو في كل زمان، مُسبح هو في كل زمان، موجود منذ القدم، باق إلى الأبد، ما كان لأنه ما كان، ولا يكون لأنه لا يكون، خالد فوق كل الأكوان".
يعرف المندائيون البراخا/ الصلاة بوصفها ثاني أركان الدين. كانت في الأصل تُقام خمس مرات كل يوم، قبل أن يقللها يحيى إلى ثلاث مرات - الصبح، والظهر، والعصر- فحسب. ويسبقها الوضوء والاغتسال. لا توجد في المندائية قبلة أرضية كما هو الحال في الإسلام. يتوجه المندائي عند الصلاة إلى الشمال، وهي الجهة التي يقع فيها العالم العلوي بحسب الاعتقاد المندائي التقليدي.
تأتي الصباغة/ التعميد كثالث الأركان التي يقوم عليها الدين المندائي. يقوم المندائيون بتعميد الطفل في اليوم الثلاثين لولادته. ويعتقدون أنه بعد إتمام عملية الصباغة يُسجل الشخص المندائي في سجلات النور العليا. يؤمن المندائيون أن الملاك جبريل عمد آدم وحواء عند نهر الفرات ونصب لهم الدرفش/ الراية المباركة -وهي شعار المندائية- عند النزول للأرض. يقوم المندائي بالتعميد في أوقات أخرى. فعلى سبيل المثال يتعمد الزوجان قبل الزواج. ويتم التعميد أيضًا قبل أن يموت الشخص، ومن المحرم أن يلمس الماء جثمان الميت.
الصدقة هي الركن الرابع في الدين المندائي، وتُعطى للفقراء والمحتاجين. أما الصوم فهو الركن الخامس، وينقسم لنوعين. النوع الأول وهو الصوم الكبير الذي يعني عدم الإتيان بأي شيء حرام مثل الشرك بالله والزنا والكذب. والنوع الثاني وهو الصوم الصغير ويتمثل في الامتناع عن تناول اللحوم وإقامة مراسم الزواج لثلاثة وثلاثين يومًا موزعين على مدار السنة.
هاجر الآلاف من الصابئة المندائيين العراق بعد اجتياح تنظيم داعش لمناطق واسعة في البلاد عام 2014م، حيث تم استهداف المندائيين من قِبل عناصر التنظيم وتكفيرهم. يعيش من بقي من المندائيين الآن في مدن بغداد، وميسان، والناصرية، والديوانية. يوضح الريشما ستار جبار حلو الزهيري أن عددهم قليل لكون الديانة المندائية ديانة غير تبشيرية. ويشتكون من غيابهم عن أي منصب مهم في الدولة العراقية. الأمر الذي يتسبب في شعورهم بالاضطهاد الديني في الكثير من الأوقات.