تشير إحصاءات مديرية شؤون الأيزيديين في العراق إلى هجرة أكثر من مائة ألف أيزيدي منذ عام 2014.
المدير القطري لمنظمة يزدا، جميل غانم، يقول إن هذا الرقم يمثل "تراجعا مخيفا في أعداد الأيزيديين الذين كانوا يعيشون في العراق قبل غزو داعش لمناطقهم". ويبدي تخوفه من أن يفقد العراق "ما يقارب ربع عدد الايزيدين المقدر باكثر من 500 ألف، إذا ما استمر الوضع المعيشي والأمني بالتراجع".
هجرة الأيزيديين إلى خارج العراق بهذه النسبة الكبيرة جاءت عقب الانتهاكات التي تعرضوا لها على أيدي مسلحي تنظيم داعش بدءا من الثالث من أغسطس 2014، حين شَرد التنظيم المتطرف نحو 250 ألف أيزيدي، كانوا يعيشون في القرى والبلدات التي تحيط بجبل سنجار.
قَتل داعش خلال الأيام الاولى من الهجوم، بحسب الأرقام التي وثقتها مديرية شؤون الأيزيديين في حكومة إقليم كردستان العراق، 1293 أيزيديا، معظهم من الرجال الذين لم يتمكنوا من الإفلات من مقاتلي داعش والوصول إلى سفوح جبل سنجار.
دُفن القتلى الأيزيديون في مقابر جماعية، تجاوز عددها 80 مقبرة، وتركت أجساد بعضهم في العراء، فيما تعرض أكثر من ستة آلاف من النساء والأطفال للأسر على يد داعش، ما يزال مصير نصفهم مجهولا إلى الآن.
وطن آمن دون تهجير أو فرمانات
"يسعى الكثير من الأيزيديين إلى البحث عن وطن دون فرمانات" يقول الأيزيدي المهاجر إلى أستراليا، خلف سنجاري.
مرت ثماني سنوات على هجرة خلف، لكن كوابيس الثالث من أغسطس ما زالت تلاحقه. يروي سنجاري لـ"ارفع صوتك" تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم. حينها كان يسكن في قرية دوكري شمال سنجار: "استيقظت العائلة فزعة على صوت إطلاق نار كثيف. لم يكن هناك أي قوات أمنية لحمايتنا، وجدنا أنفسنا فجأة في مواجهة مسلحي داعش". لحسن حظه تمكن من الفرار مع زوجته وأطفاله الستة باتجاه جبل سنجار.
"كانت درجات الحرارة تتجاوز الخمسين مئوية، فوق الجبل المقفر، شعرت بالعجز المطلق، ولم أتمكن من توفير شربة ماء لعائلتي". يقول سنجاري.
في ذلك اليوم، لاذت آلاف العوائل الأيزيدية إلى الجبل، بعدما شكلت وعورة الجبل وصعوبة اختراقه درعهم الوحيد ضد تنظيم داعش الذي طوق عناصره الجبل، وفرضوا حصار قاتلا على العوائل الأيزيدية لعدة أيام، مات خلالها الكثير من الأطفال وكبار السن.
بعد عدة أيام، وبمساعدة الضربات الجوية لقوات التحالف، تمكنت وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني من فتح ممر آمن لإجلاء المحاصرين عبر الحدود السورية، ومنها إلى تركيا وإقليم كردستان، حيث استقر أغلبهم في هياكل منازل غير مكتملة البناء ثم في مخيمات حول مدينة دهوك.
الهجرة بالنسبة لسنجاري "مثلت الأمان لعائلته من القتل أو الخطف، ومن فرمانات قادمة لا محالة، فالأيزيدون تعرضوا إلى أكثر من سبعين فرماناً على مدى مئات السنين الماضية". ويطلق الأيزيديون كلمة "فرمان" للتعبير عن"حملات الإبادة الجماعية" التي نفذت بحقهم، في إشارة إلى الفرمانات (القرارات) التي كانت تمهد لهذه الحملات.
ويتساءل سنجاري عن "الضمانات التي يمكن أن يوفرها المجتمع الدولي، أو المحلي، للأقليات في العراق". وهي ذات المجتمعات التي سمحت "بترحيلنا من أرضنا، ثم بتحويل مناطقنا إلى متنازع عليها"، فبعد إسقاط نظام حزب البعث في العراق 2003، تم إدراج العديد من المناطق، ضمن المادة 140 من الدستور كمناطق متنازع عليها، بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد. وتعرف هذه المادة المناطق المتنازع عليها بانها تلك المناطق التي تعرضت إلى التغيير الديموغرافي خلال الفترة من 1968 إلى 2003، وتضم مناطق من نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى.
يستقر سنجاري مع عائلته اليوم في أستراليا، حيث تمكن من الحصول على أرض حولها إلى "مزرعة للطعام الصحي، دون استخدام أي مواد كيمياوية"، بالاستفادة من خبرته الزراعية في قريته دوكري."أقوم بتزويد مطعم بالخضراوات، وهذا المطعم متخصص بالطعام الصحي، الموزع على المستشفيات ودور رعاية كبار السن".
عندما أنظر اليوم إلى عائلتي "أشعر أني ولدتهم من جديد، وجنبتهم القتل أو الخطف". يقول اللاجئ الأيزيدي.
مستقبل الأبناء أولاً
"وضعت مستقبل أطفالي أولا"، يقول حمد حاجي لـ"ارفع صوتك".
وصل حاجي مع موجة المهاجرين التي اجتاحت ألمانيا عام 2015. قبلها بعام، "كنت هاربا من داعش إلى جبل سنجار". ذلك الهروب "كلفني حياة أحد اطفالي، الذي كان يعاني من الأمراض قبل الهجوم. ولم يحتمل جسده النحيل، فمات بعد وصولنا إلى المخيم ببضعة أيام". حينها "قررت أنه لا مناص من الهجرة لإنقاذ من تبقى من أطفالي"، يقول حاجي.
وبحسب مكتب مفوض الأمم المتحدة السامية لحقوق الانسان، فإن 40 طفلا أيزيديا ماتوا على جبل سنجار، خلال 12 يوما من الحصار.
قرار الابتعاد عن الوطن لم يكن سهلا، كما يقول حاجي. "من جهة، كان هناك الرعب من تكرار الإبادة في الداخل. ومن جهة أخرى، الخوف من عدم تقبل المجتمعات الأخرى لنا كأقلية".
تمكن حاجي من الوصول إلى ألمانيا عبر رحلة برية بدأت من تركيا، ثم عبر البحر بالقوارب إلى اليونان، مرورا بالطريق البري المرهق لدول البلقان، وصولا إلى النمسا، وأخيرا إلى الوجهة الأخيرة للعائلة في ألمانيا. حينها، كان قد مضى شهر كامل على خروج حاجي وعائلته من العراق، قضت كثيرا من أيامها خلال الرحلة، دون ماء أو طعام، أو استحمام.

كان الخوف من عدم تقبل المجتمع الألماني للأيزيديين أكثر ما يشغل تفكير حاجي في تلك الرحلة الخطرة، إلا أنه وجد "مجتمعاً متقبلاً للمهاجرين بشكل جيد، والمساعدات كانت كبيرة، وخصوصا ما يتعلق بتعلم اللغة، وإدماج الأطفال في المجتمع، عبر فتح أبواب المدارس لاستقبالهم".
يتحدث حاجي بفخر عن ابنته الكبرى، آفين، التي تخطو نحو أعتاب عامها الثامن عشر. يقول إنها أنهت الثانوية العامة بنجاح، وتسعى إلى الالتحاق بكلية الهندسة، كما أنها بدأت بتأليف كتابها الأول باللغة الألمانية، والذي "تروي فيه قصة الإبادة الايزيدية على يد داعش من وجهة نظر طفلة عاشت كل ذلك الخوف والرعب".
أبناء حاجي الثلاثة الذين ولدوا في العراق، إضافة إلى ابنة أخرى أنجبها في ألمانيا، كانوا أكثر قدرة على الاندماج في المجتمع الجديد. خلال ثلاثة أعوام فقط، كانوا يتحدثون اللغة الالمانية بطلاقة. لكنه وزوجته واجها أوقاتا صعبة، حيث تم إسكانهم في "منطقة نائية قرب الحدود الهولندية، ولم يكن فيها جالية عربية أو أيزيديون، كنا نعاني عزلة قاتلة"، كما كان هناك "اختلاف العادات والتقاليد، وعائق اللغة، وقسوة الطبيعة، التي فرضت علينا بردا قارسا، و ثلجا لم تعتد عليه أجسادنا، في بلد مفرط الحرارة مثل العراق".
مع هذا، أن نعيش سنوات لكي نندمج في هذه المجتمعات، "أفضل بكثير من العيش وسط الخوف والقلق من إعادة المأساة والانتهاكات نفسها مرة أخرى في المستقبل، على يد نفس الجماعات المتطرفة أو على يد جماعات أخرى ستظهر يوما ما في العراق".
المهاجرون واضطراب ما بعد الصدمة
"قبل هجوم داعش على سنجار، لم أكن أفكر بالهجرة على الإطلاق"، تقول الناشطة المدنية نيام الحسين لـ"ارفع صوتك". لكن بعد الإبادة "أصبح التفكير بالهجرة أمرا لا مفر منه، مع استمرار الوضع الأمني غير المستقر في مناطقنا".
كانت نيام ضمن الفارين من داعش إلى جبل سنجار. تنقلت بين مخيمات تركيا والعراق، لتستقر أخيرا في الولايات المتحدة الأميركية. حيث قررت العودة إلى مقاعد الدراسة من باب تعلم اللغة أولا. تنوي لاحقا التخصص في مجال التنمية البشرية، ومساعدة المهاجرين على الاندماج والتعايش، في بلدان الهجرة.
التعايش مع المجتمعات الجديدة، كما ترى نيام، "ليس سهلا بالنسبة لأغلب الأيزيدين، فالإبادة التي تعرضوا لها باتت هاجسا يلاحقهم في كل مكان". حتى لو كان المكان هو "الولايات المتحدة الأميركية التي يتكون مجتمعها من خليط متعدد من الثقافات، يمكن لأي شخص من أي مكان في العالم أن يجد نفسه فيه".
مع ذلك، تقول نيام، إن الانسان الذي يغادر أرضه مرغما "تبقى روحه معلقة في بلده، ويبقى كجسد في مواطن الاغتراب".
المعاناة النفسية للمهاجرين الأيزيديين بعد الإبادة كانت موضوع دراسة لخالد رشكا، باحث مساعد وطبيب عراقي أيزيدي، في ولاية نبراسكا بالولايات المتحدة حيث يقيم منذ عام 2018.

سابقا، كما يقول رشكا، كنا نعتقد أن النساء أكثر تعرضا لحالات الاضطراب ما بعد الصدمة، نظرا لما تعرضن له من اختطاف واغتصاب وفقدان عوائلهن. لكن الدراسة توصلت إلى أن "هناك نسبة متساوية للصدمة بين النساء والرجال المهاجرين". فكثير من الرجال "لديهم مخاوف، من عدم قدرتهم على حماية عائلاتهم، حال تعرضهم إلى إبادة جديدة". هذا الشعور عرضهم إلى "المعاناة من الاضطراب، مع كوابيس متكررة". والمشكلة مع الرجال، "أنهم لا يفصحون في العادة عن مخاوفهم"، يقول الطبيب العراقي.
أما الاطفال الذين شملتهم الدراسة فكانوا، "أكثر قدرة على الاندماج ومتابعة حياتهم، خصوصا إذا ما توفرت البنية التحيتة اللازمة لذلك".
رشكا نفسه تعرض لأزمة نفسية حادة. فقبل هجوم داعش، كانت عائلته تمتلك "مزرعة للخضراوات والفواكه، ومنزلا واسعا"، لكن فجأة "خسرنا كل شيء وتحولنا إلى مشردين". لم يحتمل والده كل ذلك القهر، ليفقد حياته نتيجة جلطة دماغية بعد شهر واحد على الإبادة.
عندها قررت العائلة التفكير جديا في الهجرة، "ما دمنا تركنا أرضنا، فلماذا لا ننتقل إلى مكان أفضل". لتصل العائلة بعدها بأربع سنوات إلى ولاية نبراسكا في الولايات المتحدة الأميركية.
الهجرة الأيزيدية بدأت قبل داعش!
موجات المهاجرين الأيزيديين لم تبدأ في الحقيقة فقط مع العام 2014، بل قبل ذلك. فمع بدايات تكوين تنظيم القاعدة في مناطق نينوى، بدأ بعض الأيزيديين في الهجرة، كما يقول شيفار مجدل لـ"ارفع صوتك" الذي هاجر هو نفسه عام 2007 من العراق، نتيجة لمضايقات المتشددين في الموصل، حيث كان يدرس الطب البيطري آنذاك.
في تلك الفترة، "ازدادت وتيرة الاعتداءات وحالات القتل الفردية التي طالت العديد من الأيزيديين، بعد أن انتشر تنظيم القاعدة، وبدأت الحرب الطائفية في العراق بشكل عام".
يتحدث مجدل هنا، عن الحرب الأهلية التي شهدها في العراق بين سنتي 2006 و2008، بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء في فبراير 2006 على يد تنظيم القاعدة.
اتخذ مجدل الطريق التقليدي لخط المهاجرين، أولا بالطائرة إلى تركيا، ثم بالتهريب إلى اليونان، ليصل الى ألمانيا، ثم بالباخرة إلى السويد، حيث يشغل اليوم منصب مدير الثروة الحيوانية بإحدى مقاطعات جنوب السويد.
يتذكر مجدل أنه في أول مخيم للاجئين بالسويد، وجد عددا آخر من الأيزيديين الفارين من مضايقات المتشددين. لاحقا، "بدأت أعداد المهاجرين من كل العراق بالتزايد شيئا فشيئا، مع تزايد حدة الحرب الأهلية".
فعل المهندس داسن إيزدي الشيء نفسه، فهاجر عام 2010 مع عائلته إلى ألمانيا. يقول لـ"ارفع صوتك" إن "الانهيار كان قادما لا محالة. كنا نشعر به، العلاقات كانت متوترة، والتعايش كان صعبا".
يخصص إيزدي كثيرا من وقته لتحقيق حلمه في"بناء نصب تذكاري للإبادة الأيزيدية، حتى يعرف العالم بأكمله، حجم الظلم الذي تعرض له أبناء الديانة الأيزيدية على يد داعش".
هذا النصب من تصميم ولده، الذي نال الماجستير في الهندسة المعمارية في ألمانيا. وكان النصب هو الجانب العملي لمشروع تخرجه، ونال بسببه الامتياز".
ويبقى الحنين إلى سنجار الرابط الأساس الذي يجمع الأيزيديين المنتشرين في كل بقاع الأرض. هذا الحنين يقودهم، كما يقول إيزدي، إلى "زيارة سنجار كلما توفرت الفرصة، لرؤية الأرض التي تحتل قلوبنا، وكنا مرغمين على تركها".