ثار الأقباط على الخلافة العباسية بسبب الحيف الذي طالهم من ولاة الخليفة المأمون.
ثار الأقباط على الخلافة العباسية بسبب الحيف الذي طالهم من ولاة الخليفة المأمون.

من الأمور اللافتة أن المؤرخين السريان لا يسمون الدولة العباسية إلا باسم واحد، وهو "دولة الفرس"، والسبب أن جيوش هذه الدولة وقادتها على وجه الخصوص كانوا في غالبيتهم من الفرس الخراسانيين.

وكان أقباط الوجه البحري، الذين يسمون في المصادر السريانية بـ "البياميين"، وفي مصادر أخرى بـ"البشموريين"، من الشعوب التي ثارت على الفرس، كما يرد في المصادر السريانية حرفياً، والمقصود هنا الدولة العباسية.

وقد سعى الخليفة المأمون لدى بطريرك السريان ديونيسيوس التلمحري (770- 845 م) للوساطة والوقوف على أسباب الثورة، ومحاولة إيقافها، نظراً لأنه كان "خليفة مسالماً يقبل الحوار" و"يجنح إلى السلم"، كما يقول البطريرك التلمحري الذي دوَّن تفاصيل وساطته تلك.

وكان ذلك التدوين المصدر الأهم عن أخبار تلك الثورة، والتي انتهت نهاية مأساوية، يصح عليها القول إنها من سخريات التاريخ المريرة، نظراً لأن الثوار الأقباط، وبعد أن استسلموا، تم تكليفهم بالقضاء على ثورة الزط (الغجر) في جنوبي العراق، فقاموا بالمهمة خير قيام!

 

مأساة تنيس

 

في ظل حالة الفوضى التي اجتاحت سوريا ومصر إبان حرب الأخوين، الأمين والمأمون، استأثر واليا مصر السري بن الحكم وعبد العزيز الجروي بالأمر، وفرضا الجزية وجمعا أموالاً طائلة من فقراء المصريين، والسري بن الحكم أصله من بلخ من شعب الزط، وهم من يعرفون الآن باسم "الجيتان" أو الغجر. وبحسب البطريرك التلمحري، كان جنود السري بن الحكم يتكونون من 80 ألف مقاتل معظم من بلاد ميديا، في غربي إيران الحالية. 

وكان الخليفة المأمون أوفد الوزير عبد الله بن طاهر للوقوف على حال مصر ووضع حد للولاة المتسلطين. فقام بالمهمة إلى حد ما، ولكنه لم يضع حداً لمأساة الأقباط البشروطيين. وكان البطريرك التلمحري موجودا في مصر ذلك الوقت، وذلك لحل بعض القضايا العقائدية مع بابا الأقباط يعقوب، وقد طلب منه أقباط مدينة تنيس (قرب بورسعيد حاليا) أن ينقل شكواهم للأمير عبد الله بن طاهر عله يجد حلاً لمأساتهم فكتب في ذلك يقول: "كانت مقابلتنا له (الأمير عبد الله بن طاهر) ليلاً لانشغاله نهاراً بالحرب، وكان حديثنا مفيداً. وسلمت إليه رسائل أهل الجزيرة (تنيس) والغرب وشكاواهم من عماله، ورويت له مأساة مدينة تنيس المصرية المؤلمة، التي ولئن كانت تعج بالسكان والكنائس، إلا أننا لم نجد فقراً أشد من فقر سكانها".

ويلخص التلمحري إفادات أهل تنيس كما يلي: "سألناهم كيف تردّت أحوالهم إلى هذا الحد، فأجابونا قائلين: إن المياه تحيط بمدينتنا من كل حدب وصوب، وليس لنا زرع أو غلة أو فلاحة، ولا يمكننا اقتناء الأموال. والمياه التي نشربها تأتينا من بعيد ونشتريها بجهد جهيد كل أربع جِرار بدرهم. أما شغلنا فهو الكتان، تغزله النساء بالمغازل ونحن ننسجه بالنول بأجرة قدرها نصف درهم، نتقاضاها يومياً من التجار أصحاب الأدوات، ولا يكاد شغلنا يكفي قوت يومنا. وحينما يحين موعد الضريبة، يفرضون على كل بيت خمسة دنانير، فنعاني من ذلك ونُلقى في السجون. وفي غمرة ضيقنا نرهن لهم أحباءنا، أجل إننا نرهن لهم أبناءنا وبناتنا ليعملوا عبيدا عندهم، وقد يحدث أن امرأة أحدنا أو ابنته تلد عندهم، فيحذروننا من رفع الشكوى ضدهم، والأنكى هو أنه قبل بلوغ الأوان لفدية المرأة أو البنت، تأتي ضريبة السنة التالية، فيطالبوننا، بالإضافة إلى الرهائن، بدفع مبلغ آخر، وهكذا يظل أولادنا وبناتنا عبيداً للفرس طيلة حياتهم".

عندما سمع المأمون ذلك أمر أن ترفع المظالم عنهم فوراً وأن يدفعوا الضريبة المقررة أسوة بأهل الجزيرة، أي 48 قرشاً للكبار و24 للوسط و12 للوسط و12 للفقراء، وذلك بحسب إحصاء النفوس.

 

الثورة مجدداً

 

توقفت الثورة مؤقتاً، ولكن الولاة الفرس عادوا ليثقلوا على الأقباط الضرائب، فاشتعلت مجدداً، ولكن بشكل أكثر عنفاً هذه المرة. هنا طلب الخليفة المأمون من البطريرك التلمحري أن يرافقه إلى مصر، لكي يذهب سفيراً إلى البياميين في مصر السفلى، ويوصيهم بالعدول عن التمرد الذي بدا منهم، كما يقول، وكان ذلك عام 831م. 

ويوضح التلمحري أن السبب المباشر للثورة كان حين "أرسل المأمون قائده الأفشين، (وهو من الإثنية التركية)، إليهم لإحلال السلام. ولكن الأفشين ألزم جنوده بأن يجمعوا أرزاق الجيش من قراهم. وصادف أن رأى بعض الجنود امرأة فحاولوا اغتصابها فصرخت، وسمع الذين في الجزيرة صراخها فاندفعوا نحوها وقاتلوا، فقتل منهم وقتلوا. فتعكر بذلك صفو الأمن ثم تلاشى كلياً".

في مدينة الفرما، دار حديث بين المأمون والبطريرك لخصه لنا كما يلي: "لما دخلت عليه صافحني كالعادة وقال: لقد سمعت أيها البطريرك بتمرد المسيحيين الأقباط المعروفين باسم البياميين الذين لم يتعظوا بما جرى لهم في الحرب الأولى، ولولا أني رحيم ولا رغبة لي في القتل، لما أرسلتك إليهم، لكن اصطحب الأساقفة الذين معك وجماعة من المصريين، وسافر إلى المتمردين وأعطهم تعهداً بالأمان، وليحضروا مع قواتهم إلى المكان الذي أختاره لإقامتهم، وإن لم يذعنوا أهلكتهم بحد السيف. فاستعطفتُه أن يبقيهم في منطقتهم فرفض، مصمماً على أحد الأمرين، إما ترك بلدهم أو القتل وأمر الخليفة أن يرافقني بطريرك مصر". 

 

تجمد نهر النيل

 

ينقل البطريرك معلومة عن صقيع من النادر أن يقع في مصر، وقد أدى إلى تجمد نهر النيل. وفي ذلك يقول: "وأتت الأخبار بسقوط الثلج واشتد البرد كثيراً.. وجمدت الخمرة في الجرار. وحين وصلنا إلى النيل أخبرونا بأن النهر قد جمد أيضاً، الأمر الذي لم يُسمع من قبل. سافرنا بطريق النهر، وبعد ثمانية أيام التحق بنا البطريرك يوسف، ونزلنا إلى إقليم بشروط (وهو إقليم يقع بين فرعي دمياط والرشيد في الدلتا) حيث يقيمون، فوجدناهم مجتمعين في إحدى الجزر المحاطة بالقصب والبردي. فجاء إلينا رؤساؤهم فلمناهم على تمردهم وعلى ما ارتكبوه من أعمال القتل، فاشتكوا من الحاكم. ولما أطلعناهم على قرار مغادرتهم بلدهم اغتاظوا وطلبوا إلينا أن نستأذن الخليفة ليقابلهم فيطلعوه على ما يحتملونه من حاكمهم أبي الوزير، الذي ضاعف عليهم الجزية، وكان يسجنهم في الليل فتأتي نساؤهم لهم بالطعام، فيهجم عليهن الجند وينجسونهن. كما كان يفكر بقتل الكثيرين منهم حتى إبادتهم جميعاً لئلا يشكوه لدى الخليفة". 

وبعد أن أخبر الأفشين بجواب الثائرين الرافض لمغادرة بلادهم، قال للبطريرك: "إذن فالسلام غير وارد، فاذهبا وقولا للخليفة أن لا مكان للسلام". ويتابع البطريرك: "باشر بعد ذلك يحاربهم، فأضرم النار في القرى والكروم والبساتين والكنائس في أرجاء الإقليم كلها. أما البياميون فكانوا يطعنون الفرس ويرمونهم بالسهام والحراب من بين القصب، واستقدموا جيرانهم وحرضوهم ضدهم فقَتلوا وقُتلوا". 

 

لقاء المأمون


ينقل التلمحري وقائع لقائه بالخليفة المأمون كما يلي: "لدى مقابلتنا الخليفة أطلعته على كل الأمور، بما في ذلك الظلم الذي ألحقه أبو الوزير بالأقباط والذي سببه عدم تحقيق السلام، وكيف أن أبناء المنطقة يشتكون منه ومن اثنين آخرين. وكان يصغي إلي بارتياح، وإني لم أقع تحت تأثير غيرتي. وقد تجرأت ونصحته واستشهدت الله عليه مذكراً إياه بالحساب الذي سيقدمه لربه عن الرعية المؤتمن عليها، مستشهداً بقول النبي بالحق تكلمت أمام الملوك ولم أخجل. فقال: إن هؤلاء العمال لا يتصرفون بحسب إرادتي، وأنا لا أحبذ أن أثقل على الناس، لا بل إني أشفق على أعدائي الروم، فكيف لا أشفق على رعيتي؟ وبإذن الله سأصحح كل شيء". 

ونتيجة لتلك المقابلة؛ استدعى المأمون زعماء المتمردين، كما يقول البطريرك التلمحري، و"أمرهم بمغادرة تلك المنطقة، فأطلعوه على سوء المعاملة التي لاقوها، ويخشون، إذا غادروا، أن لا يجدوا مورداً لمعيشتهم لأنهم يعتمدون على القصب وصيد الأسماك، غير أنهم أذعنوا له أخيراً وغادروا بالسفن إلى أنطاكية ومنها إلى بغداد، وكان عددهم نحو ثلاثة آلاف وقد مات كثير منهم في الطريق، واستعبد الأسرى منهم، وعددهم نحو خمسمائة نفس، للمسلمين الذين أخذوهم إلى دمشق وباعوهم هناك، الأمر الذي لم يجر من قبل في بلاد المسلمين، أي بيع من يخضع للجزية". 

ويضيف: "غير أننا وبعون الله، شجعنا المؤمنين على افتكاكهم وبذلك تحرروا، لكنهم لم يعودوا إلى بلادهم بسبب المجاعة المنتشرة هناك، حيث هاجر الكثيرون منهم إلى سوريا ليشبعوا خبزاً. وأصدر الخليفة أمراً إلى عماله بعدم الإساءة إلى المصريين أو قتلهم، كما خفض الضرائب عنهم إلى النصف". 

 

تعسف طال المسلمين أيضاً


بعد مغادرة الخليفة المأمون مصر، عاد الولاة والجنود الفرس لسابق عهدهم كما يقول البطريرك، ولكنه يشير هنا إلى معلومة غاية في الأهمية، وهي أن الظلم والتعسف كان يطال إلى جانب المسيحيين، المسلمين المصريين أيضاً. يقول في ذلك: "كان الفرس يدخلون القرى ويوثقون الناس بشكل مجاميع، تضم كل مجموعة عشرة أو عشرين شخصاً ويرسلونهم إلى الفسطاط دون التأكد من ذنبهم أو براءتهم، وقُضي على الكثيرين من دون ذنب. وقد حدثت قصص غريبة إذ عرض الذين ربطوا وسيقوا للقتل، رشوة على الذين يقودونهم مقابل إطلاقهم، فقالوا لهم: لقد تم تسليمكم لنا بالعدد، فتريثوا ريثما نأسر من نصادفهم في الطريق ونطلقكم. فلاقاهم ثلاثة رجال، قسّ ومسلمان، كان أحدهما إماماً للمسجد، فقبض عليهم بدلاً عمّن دفع الرشوة، وإذ لم يفسح لهم المجال أن يتكلموا، قتلوا، وهكذا كانت جثث القتلى الأبرياء تملأ الطرق". 

 

أصل الغجر 

 

على إثر وفاة المأمون في بلاد الروم، حدثت بلبلة استمرت ثلاثة أيام، استقر بعدها الأمر للمعتصم، والذي ثار الزط ضده في أهوار العراق. وهؤلاء الزط أو الجت أو الجيتان كما عرفوا في فرنسا وإسبانيا بداية عصر النهضة، هم قبائل من الغجر تم استقدامهم إلى جنوبي العراق في فترة الفتوحات الإسلامية المبكرة على يد الأمويين بعيد فتح بلاد السند (باكستان حاليا) للعمل في منطقة البصرة والبطائح.

ثم ما لبث أن استقدم معاوية بعض الزط من منطقة البطائح في العراق إلى منطقة بلاد الشام وأنطاكية لإحداث بعض التغيرات الديمغرافية ووضعهم في مواجهة الخطوط الأمامية للروم البيزنطيين، ثم نقل الوليد بن عبد الملك إلى أنطاكية مجدداً قوما من الزط السنديين ممن حمله محمد بن القاسم إلى الحجاج، كما أشار البلاذري في فتوح البلدان. واستمر وجودهم لاحقاً في العراق حتى كثرت مشاكلهم في العصر العباسي فتم استئصال شأفتهم في عهد المعتصم، ومن ثم تهجيرهم إلى بغداد ومنها إلى ثغر عين الزربة في كيليكيا. ثم انطلقوا من هناك في تغريبة طويلة من المعاناة و الشقاء إلى الداخل التركي و إلى شرقي أوروبا ثم غربيها. 

 

ثورة الزط وتصدي الأقباط لهم 

 

بعد أن أعلن الزط ثورتهم على المعتصم أرسل الخليفة الجديد، المشهور بقسوته، قواته لمحاربة الزطيين الذين كانوا "يعيشون في وسط المياه التي يصب فيها دجلة والفرات [شط العرب]، لأنهم شعب متمرد ومصدر إزعاج للخلفاء، حيث إنهم يضربون ويقتلون ويسلبون التجار الذين يقصدون بغداد من البصرة والهند والصين"، بحسب تعبير البطريرك التلمحري. 

ويتابع قائلاً: "لم يستطع الجيش قهرهم لكونهم يقاتلون في الزوارق، فأرسل إليهم الأقباط الذين كان قد سباهم والمعتادين على الحياة في المياه، فكانوا يغطسون في الماء كالسمك دون أن يراهم أحد ويمطرون الزطيين بالنبال ويهربون، وهكذا هزم البياميون الزطيين، وقبض عليهم وعلى نسائهم وأطفالهم وزجوا في سجن بغداد ثم أعدموا".

ويقص علينا البطريرك مصير هؤلاء الأقباط المأساوي بعد أن وضعوا حداً لثورة الزط: "بعد الانتصار الذي حققه الأقباط ضد الزطيين، أحبهم الخليفة واختار منهم جماعة يعملون في خدمته وحدائقه وبساتينه، وآخرين لينسجوا أقمشة قطنية، نظراً إلى اشتهار المصريين بهذه الحرفة. وأذن للبقية بالعودة إلى وطنهم. فلما وصلوا إلى البحر وركبوا السفن ليعودوا إلى مصر، لاحقتهم العدالة هناك، فقد ثارت زوبعة أغرقتهم جميعاً في البحر".

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق قدر أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص
المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق قدر أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص

يسابق الفريق الأممي المسؤول عن توثيق عمليات الإبادة الجماعية التي طالت الإيزيديين في العراق، الزمن من أجل استخراج رفات الضحايا من المقابر الجماعية التي لم تخضع للفحص حتى الآن، بعد قرار الحكومة العراقية القاضي بضرورة مغادرة الفريق منتصف الشهر الجاري.

منحت الحكومة العراقية فريق بعثة التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن الجرائم المرتكبة من قبل داعش في العراق "يونيتاد" حتى الـ17 من سبتمبر لإنهاء التحقيق، وفقا لصحيفة "نيويورك تايمز".

وتضيف الصحيفة أن هذه القرار سيحد من تنظيم قضايا جنائية ضد عناصر داعش، على اعتبار أن هناك عشرات المقابر الجماعية التي لم يتم الانتهاء من فحصها وتحتوي على أدلة حاسمة ضد عناصر التنظيم المتورطين.

ويسعى العراق جاهدا لطي صفحة الفترة المروعة التي سيطر فيها تنظيم داعش على مساحات واسعة من أراضيه، حيث يتجه بسرعة نحو إغلاق المخيمات التي تأوي الإيزيديين النازحين وتنفيذ أحكام الإعدام بحق مرتكبي جرائم داعش وإنهاء مهمة "يونيتاد".

لكن بالنسبة لعائلات ما يقرب من 2700 إيزيدي مفقود، فإن هذا القرار مفجع، لإن أي عظم يكتشف يمكن أن يساعد في حل لغز مصير أحبائهم الذين اختفوا خلال سيطرة تنظيم داعش على أجزاء واسعة من العراق في عام 2014.

تقول شيرين خُديدة، وهي امرأة إيزيدية أُسرت هي وعائلتها على يد داعش في عام 2014: "أنتظر بقايا عائلتي، وأعتقد أنهم هناك".

كشف تحرير المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش في عام 2017 عن فظائع لم تكن معروفة من قبل.

وبعد فترة وجيزة، وبطلب من الحكومة العراقية، انشأت الأمم المتحدة فريقا من المحققين لتوثيق وجمع الأدلة المتعلقة بتلك الجرائم حتى تتمكن المحاكم حول العالم من محاكمة المتورطين.

لكن، في سبتمبر 2023، أبلغت السلطات العراقية محققي الأمم المتحدة أن أمامهم عاما واحدا فقط لإنهاء المهمة.

وتعد حفرة "علو عنتر" قرب تلعفر شمالي العراق، حيث ألقى داعش مئات الجثث، واحدة من 68 مقبرة جماعية ساعد فريق "يونيتاد" في التنقيب عنها، وربما يكون الأخير،، بحسب الصحيفة.

اعتبارا من يوليو، حددت السلطات العراقية 93 مقبرة جماعية يعتقد أنها تحتوي على رفات ضحايا إيزيديين، لا تزال 32 منها لم تفتح بعد في منطقتي سنجار والبعاج.

ومن بين آلاف الإيزيديين الذين لم يتم العثور عليهم، تم استخراج رفات أقل من 700 شخص، ولكن تم تحديد هوية 243 جثة فقط وإعادتها إلى عائلاتهم.

يقول رئيس وحدة العلوم الجنائية في يونيتاد آلان روبنسون إن "العمل في علو عنتر صعبا ومعقدا، لكن النتائج التي توصلنا إليها كانت مهمة".

ويضيف روبنسون أن بعض الرفات تم دفنها في أكياس للجثث، وكانت الجثث داخلها مرتدية بدلات برتقالية شوهدت في مقاطع فيديو دعائية لداعش".

كذلك وجدت رفات أخرى وبجانبها فرش الأسنان وأدوية لعلاج ضغط الدم يعتقد أن الضحايا أخذوها معهم أثناء هروبهم.

وتشير الصحيفة إلى أن العديد من الضحايا كانت أيديهم مقيدة خلف ظهورهم، والبعض الآخر كان معصوب العينين، فيما أظهرت النتائج الأولية أن البعض تعرض لإطلاق نار، بينما يبدو أن آخرين ماتوا بعد دفعهم في الحفرة.

ويلفت روبنسون إلى أن الظروف البيئية المعقدة في العراق جعلت بعض الجثث تكون أشبه بالمحنطة بدلا من أن تتحلل مما تسبب بانبعاث روائح كريهة للغاية منها.

ويتابع روبنسون: "بعد مرور ما بين سبع وعشر سنوات على وفاتهم، الرائحة لا تزال قوية، لذا يمكنك أن تتخيل كيف كانت الرائحة بعد وقت قريب من حصول الوفاة".

وفقا للصحيفة فإن قرار الحكومة العراقية بإنهاء مهمة "يونيتاد" يعد جزءا مساعيها لتأكيد سيادتها الوطنية في وقت لا تزال فيه القوات الأميركية متمركزة في البلاد والعديد من السياسيين العراقيين متحالفين بشكل وثيق مع إيران، وهي خصم للولايات المتحدة.

وتنقل الصحيفة عن الباحثة العراقية في منظمة هيومن رايتس ووتش سارة صنبر القول إن إنهاء اعتماد العراق على مؤسسات الأمم المتحدة قد يكون جزءا من محاولات البلاد لتغيير صورتها.

في مايو، دعت بغداد إلى إنهاء بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، التي أُنشئت بعد الغزو الأميركي في عام 2003 للمساعدة في تطوير مؤسسات الحكومة وإجراء الانتخابات وحماية حقوق الإنسان. ومن المقرر أن تنتهي هذه المهمة بحلول ديسمبر 2025.

وتضيف صنبر أن "العراق يريد أن يصور نفسه كدولة ذات سيادة ما بعد الصراع"، وبعض الفصائل الداخلية ترى في وجود الأمم المتحدة "تدخلا دوليا غير مبرر في الشؤون العراقية."

وتشير صنبر إلى أن تحفظات الحكومة العراقية على عمل يونيتاد يتعلق بالأساس في أن المؤسسة الأممية رفضت تسليم الأدلة التي جمعتها إلى السلطات العراقية، رغم أنها كانت تشاركها مع دول أخرى تحاكم مقاتلي داعش.

وتفضل الأمم المتحدة، التي تعارض عقوبة الإعدام، أن يجري محاكمة عناصر داعش المتورطين دون احتمال فرض عقوبة الإعدام، لكن العراق قد حكم بالإعدام بالفعل على أعضاء داعش المدانين.

وفي رد على سؤال بشأن الخلاف المتعلق بمشاركة الأدلة وعقوبة الإعدام، قال مسؤولو يونيتاد في بيان أرسل للصحيفة إن المنظمة شاركت بعض الأدلة مع السلطات العراقية.

وأضاف مسؤولو يونيتاد أن السلطات العراقية أعربت عن استعدادها لمواصلة التنقيب عن المقابر الجماعية بعد مغادرة الفريق، رغم أنه لم يكن واضحا على الفور ما إذا كانت ستتمكن من توفير الموارد اللازمة للقيام بذلك.

وعزا محما خليل، وهو إيزيدي وعضو في البرلمان العراقي، قرار الحكومة بإنهاء تفويض يونيتاد إلى "التوتر في العلاقة بين العراق والأمم المتحدة وأيضا إلى وجود ضغوط خارجية" من دول أخرى على رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني.

رفض خليل الإفصاح عن الدول التي يعتقد أنها تمارس تلك الضغوط، لكن الحكومة العراقية لها علاقات سياسية وعسكرية مع إيران، وفقا للصحيفة.

وتعتبر قضية المقابر الجماعية في العراق من أبرز الملفات الشائكة التي عملت الحكومات العراقية على معالجتها بالتعاون مع الأمم المتحدة.

وقدر "المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق" أن المقابر الجماعية في البلاد تضم رفات 400 ألف شخص. ووفق منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن لدى العراق واحدا من أكبر أعداد المفقودين في العالم، ويقدر عددهم بين 250 ألف ومليون شخص، يُعتقد أن الكثير منهم دُفن في مقابر جماعية.