لبنان موطن لمئات الآلاف من الأكراد الذين قد يختبرون الذوبان في المزيج الوطني تارة والشعور بالظلم بصمت طورا.
يقول الناشط الكردي الشهير والمؤرخ عصمت شريف فانلي، الذي قضى حياته وهو يجهد ليقدم إستراتيجية تضع خاتمة للشتات في كتابه المخصص للأكراد في سوريا ولبنان، إن المنشورات والمعلومات حول الأكراد في المنطقة قليلة.
ويعزو ذلك لكونهم من الأقليات، حيث أن نسبتهم لا تساوي الأعداد الموجودة في تركيا أو إيران أو العراق، بالتالي هم "أقل عرضة لإشعال الانتفاضات ضد الحكومات من أجل المطالبة بحقوقهم".
ويعيش معظم الأكراد حسب فانلي (1991) في مناطق معزولة عن طرق الاتصال الرئيسة التي لا تحظى إلا بقدر ضئيل من الجاذبية للزائر الأجنبي.
فهل هذا يعني أن أكراد لبنان يقيمون في بقعة صامتة؟
وجود صارخ منذ البدايات
في رحلة عبر تاريخ هذا المجتمع الذي قسمه الشتات حول العالم، يؤكد د. حسان حلاق الباحث وأستاذ التاريخ بجامعة بيروت العربية، أن "مختلف المصادر التاريخية تشير إلى أن الأكراد شعب عاش في لبنان ومختلف الولايات العربية منذ آلاف السنين، ومنهم من تلبنن ومنهم من تمصّر (صار مصرياً)".
ويجزم: "بشكل عام، فإن الكثير منهم تعرّبوا فباتوا من نسيج هذا الشعب أو ذاك. ومما زاد في انتشارهم في العالم العربي وضمنا لبنان مشاركتهم الفعالة في الجيوش العربية والإسلامية، ما سمح لهم بالتوطن هنا وهناك".
وبما أن وجودهم في لبنان يعود إلى ما قبل إعلان الاستقلال عام 1920، حصل أغلبهم على الجنسية اللبنانية.
يقول حلاق: "لا شك بأن الكثير من الأكراد تواجدوا في البلاد قبل إعلان دولة لبنان الكبير، ومع توقيع الاتفاقيات الدولية، منحوا كسواهم الجنسية اللبنانية".
مع ذلك، لا يعني منح الجنسية أن الاندماج تحقق بالكامل اعتبارا من ذلك التاريخ. فالمشكلة حسب ما يشرح المؤرخ، تكمن لدى الأكراد الذين توطنوا لبنان في مرحلة ما بعد عام 1932، وهو العام الذي تم فيه الإحصاء السكاني.
"فالأرمن الذين كانوا قد وصلوا إلى لبنان في الحرب العالمية الأولى أو الأكراد أو سواهم باتوا لبنانيين حسب الاتفاقيات الدولية، ولكن بقيت معضلة الأكراد الذين وصلوا لبنان بعد عام 1932 وعانوا من عدم منحهم الجنسية اللبنانية طوال عهد الانتداب والاستقلال، بعكس المسيحيين في ما بعد، الذين سعت الدولة لمنحهم الجنسية بما فيهم الأقباط"، يتابع حلاق.
ويعكس هذا الوضع تجربة الأكراد الصعبة في تلك الفترة ومواجهتهم الكثير من الممارسات العنصرية والطائفية طوال سنوات.
يروي علي محمد حرفوش، وهو باحث متخصص في العلوم الاجتماعية، أن "التاريخ الكردي في لبنان يشهد على التحام الفقر بالفقر بسبب العنصرية وعدم قدرة الأكراد الذين يمتلكون الجنسية على العمل في مهن ووظائف عامة. فكانوا يلجأون للعمالة كعتالين واختاروا مناطق تكسوها ملامح الفقر الحزينة في ذلك الوقت للإقامة، مثل برج حمود، وباتت تلك المنطقة تضم أقليات مع الحفاظ على الصبغة الأرمنية الطاغية".
ويضيف: "طبع هذا التاريخ المرير كل معاناة مستجدة للأكراد الذي يستعيدون في المحطات التي يشعرون فيها بالظلم، سنينا طويلة من العنصرية والوصم بالغرباء".
لكن الوضع تغير مع هبوب بعض رياح الأنصاف كما يصفها المؤرخون. بالنسبة لحلاق "لم ينصف التاريخ اللبناني الأكراد حتى عام 1958 إلا بعض الشيء، مع قيام رئيس الوزراء الرئيس سامي الصلح بتجنيس بعضهم".
ويبيّن: "ثم شعروا بنوع من الإنصاف الكامل من التمييز العنصري والطائفي والقومي، مع قيام الرئيس رفيق الحريري بحمل قضيتهم والمطالبة بتجنيسهم وبالفعل، فقد تم تجنيسهم جميعا في عهده، وبذلك شعر الأكراد للمرة الأولى بلبنانيتهم التي كانت مفقودة لعشرات السنين. وسمح هذا الواقع الجديد للأكراد بالتقدم بالتوظف والترشح للبلدية او الاختيارية أو النيابة أو أية وظيفة عامة".
ضجيج برلماني منقوص
على الرغم من محاولات الأكراد الذين تقدر أعدادهم في لبنان بين 80 ألفاً و200 ألف شخص بغياب الإحصاءات الدقيقة، لا يتوفر مقعد خاص لهذه الطائفة داخل الندوة البرلمانية التي تضم 128 نائبا ينتخبون على أساس قانون طائفي.
بالنسبة للأكراد اللبنانيين الذين أتت غالبيتهم من ماردين التركية هرباً من العنف والتنكيل، فإن التمثيل النيابي حق، خصوصا في ظل الخلط بينهم وبين الطائفة السنية.
وهذا ما يدفعهم في عدة مواضع للتركيز على أن هناك فارقاً بين السنة والأكراد خصوصاً إذا أخذنا الاختلافات الثقافية والفروقات اللغوية الواضحة بعين الاعتبار.
وحاول الأكراد الذين استهدفتهم كتل كثيرة في الانتخابات باعتبارهم أصحاب أصوات وازنة خصوصا في بيروت، خوض الانتخابات في دورتها الأخيرة في منتصف مايو 2022، فتقدم المرشحان محمد عميرات الآتي من أكبر العائلات البيروتية ود. خالد عثمان، مؤسس الجمعية الكردية اللبنانية الخيرية، (ولكن هذا لا يعني أن الترشيح يختصر التمثيل الكردي بل برز ضمن السباق للظفر بالمقعد السني مثلا في دائرة بيروت الثانية).
وكان سبق أن تقدمت رئيسة "رابطة نوروز" حنان عثمان، للانتخابات في الدورة التي سبقت، بصفتها أول سيدة تترشح عن الطائفة الكردية.
ومع ذلك، اصطدمت الطموحات الانتخابية بالتهميش نتيجة القانون الطائفي. ولكن هذا لا يعني الغياب التام عن التمثيل خصوصا لجهة المشاركة الفعالة في البلديات والمخاتير.
تعليقا على ذلك، يحذر حرفوش من تداعيات الشعور بالغبن والحرمان من التمثيل، مردفاً "للهوية الكردية طابعها الخاص الذي يمنحها الحق تماما كالطائفة الأرمنية بضمان تمثيلها في البرلمان، وهي لا تقل لبنانية عن أي طائفة أخرى".
وعن غياب التمثيل، تقول الشابة الكردية المتخصصة في الإعلام، أفين إسماعيل، في فيلمها "حق بلا حدود" (جامعة بيروت العربية- 2014): "كل المقابلات التي قمنا بها التي شددت على الوجود الكردي الأصيل في لبنان، قادتنا للتساؤل حول غياب التمثيل البرلماني لطائفة كبيرة تواجدت في فترة متقاربة مع التواجد الأرمني".
وتؤكد "لطالما كان الوجود الكردي لافتا، وفي رحلة البحث عن تاريخ الأكراد، اكتشفنا أن من رفع العلم اللبناني لأول مرة بعد إعلان نهاية الانتداب الفرنسي كان شابا من جذور كردية. وللأكراد تضحياتهم في لبنان ولهم مقابر تشهد على الثمن الذي دفعوه من أجل الوطن مثلا خلال الاجتياح الإسرائيلي".
وتأسف إسماعيل لأن "قضية تمثيل الأكراد ضحية النظام الطائفي الذي يخشى ربما ضم الأصوات الكردية السنية بشكل قد يؤثر على التوازن الطائفي بغض النظر عن اللبنانية الحقة للأكراد".
تراث من جيل لجيل
هذه "اللبنانية" تظهر جليا لا بل تتأصل في جذور الوجود الكردي اللبناني حد الذوبان، كما يقرأ الباحث الاجتماعي محمد حرفوش.
وتتقاطع قراءته مع قراءة كثير من الأكراد الذين ولدوا في لبنان أو حطوا رحالهم فيه قادمين من سوريا وحاملين معهم إرثا في القلب ومن كل مكان.
يقول مصمم الأزياء خليل سيدو، إن أعماله تنقسم بين الموضة الحديثة والتراث الكردي، ليشارك تجربة لبنانية سورية بنكهة كردية أصيلة.
"الزي الكردي الجميل الذي شكل في يوم من الأيام اللباس المعتاد، لا يزال يحتفظ يهيبته وبقيمته العميقة التي تتخطى مجرد الإطلالة، لتتزاوج مع مشروع البنية الثقافية والهوية. ويحضر هذا الزي بقوة في المناسبات مثل الأعياد والأفراح الأكثر رمزية كالزواج، لكنه يغيب عن دوره كلباس عملي يومي لصالح الاندماج المجتمعي في مكان بات بدوره جزءا من الهوية"، يشرح سيدو.
ويتابع: "الأثواب النسائية الكردية المصنوعة من القماش الفاخر والزخرفات المعبرة والمحاكاة بتأن وبجهد كبيرين، إن لم تُلبس تجد لها مكانا في صدر البيت أو في المقتنيات المتوارثة بين الأجيال لتذكر بالقومية وبقيمة الأشخاص. لعل ذلك ما يمزجها بعقد وحزام الذهب، الذي تتزين عادة به العروس أو تحتفظ به كإرث للأجيال القادمة، والذي يلمع بألف لون إلى جانب (الشروال) الرجالي في أهم المناسبات مثل عيد النوروز".
ويؤكد أنه "ليس من الصعب الاندماج في المجتمع اللبناني، فالكردي في لبنان يتزوج من غير الأكراد ويتكلم العربية بطلاقة بالتوازي مع الكردية، ويتمسك على الرغم من كل شيء بالأمل. ولذلك يتمسك بأحجية تاريخه الجميل ويمزجه بواقعه مهما كان مريرا.. هذا الإصرار يكمن في قلب النوروز".
ويتأصل الأحتفال بعيد النوروز الذي يصادف في 21 مارس من كل عام، في ممارسات كل كردي في لبنان كما في دول العالم الأخرى. يقول سيدو: "حتى ولو كلفنا الأمر الفصل من الوظيفة.. إنه عيد الحياة! إنه عيدنا!".
وفي هذه المناسبة، يجتمع لبنانيون من أطياف متنوعة، هم الذين ينحدرون من 18 طائفة، للاحتفاء بمناسبة فرحة تضاف إلى قائمة طويلة من الأفراح التي فرضها التنوع الديني والطائفي.
ولهذا العيد في لبنان احتفالاته التي ترعاها من الناحية الثقافية جهات عدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر "رابطة نوروز" التي تأسست عام 2014 في بيروت، وتنظم ضمن نشاطات أخرى دورات باللغات العربية والكردية ونشاطات عن التاريخ الكردي.
وليس من المفاجئ الاهتمام باللغة الكردية كونها "عماد الثقافة وحافظة التاريخ الذي لا يتجزأ من التاريخ اللبناني". حسب د. حسان حلاق، مردفاً "الكردي اللبناني لا يقل وطنية وإخلاصا للبنان عن أي لبناني أصيل. فهنيئا للبنان بالشعب الكردي اللبناني الذي شارك في بناء لبنان الحديث والمعاصر منذ مئات السنين".