حين اختارت العراقية الأيزيدية الناجية من سبي داعش، شفين حمو (اسم مستعار)، ترك طفليها المولودين من أب ينتمي للتنظيم في سوريا، كانت تظن أنها ستجد طريقة تسمح لها بالعيش معهما من جديد في سنجار، إلا أن ذلك لم يحصل.
حتى بعد مرور سنوات على تخلصها من حياة السبي، لم تتمكن من تجاوز اللحظة التي قررت فيها ترك طفليها في ملجأ بسوريا، والعودة لعائلتها على الجانب الآخر من الحدود العراقية.
أقنع أفراد التنظيم الكثير من "سباياه" المختطفات بأنهن غير مرغوب بهن من قبل عوائلهن، كما تقول شفين، فالتقاليد الأيزيدية قبل اجتياح التنظيم "لا تحبذ ارتباط الأيزيدين بأشخاص من ديانات أخرى وتنبذهم"، أما التعامل مع حالات الاغتصاب فتسبب "وصمة للفتاة وعائلتها، كعادة الحياة التقليدية في الشرق الأوسط بشكل عام"، تقول.
شفين كانت واحدة من أكثر من 3540 أيزيدية اختطفت من سنجار في الثالث من أغسطس 2014، تحرر منهن أكثر من 1200 امرأة و0105 طفلة. أما الباقي فمجهولات المصير.
ألقي القبض على شفين في سوريا رفقة عائلة داعشية، زج بها في السجن مع طفليها، ولاذت حينها بالصمت. كانت تخشى الموت قتلا على يد عائلتها. حتى لاحظتها إحدى المحققات، وبدأت باستدراجها، لتفصح عن هويتها، وشيئا فشيئا كسبت المحققة ثقتها، وطمأنتها بأنها لن تتعرض للخطر، وعرضت عليها الفتاوى الصادرة عن المجلس الروحي الأعلى للديانة الأيزيدية، لتعترف شفين بهويتها، وتعود إلى عائلتها، بعد التواصل مع البيت الأيزيدي في سوريا، أما أطفالها فتم تأمينهم في ملجأ للايتام.
"لم أقتنع في البداية بتركهم، فرغم أني أنجبتهم بالإكراه، إلا أنهم في النهاية أبنائي، ولا ذنب لهم في سلوك والدهم". لكني أعرف أنهم "في مكان آمن، ويتم العناية بهم جيدا". تقول شفين.
هذه المعضلة لا تواجه شفين لوحدها مثلها. أُجبرت بهار حمة (اسم مستعار) على ترك ابنها، ما إن تسنت لها فرصة الهرب، حين تراخت قبضة التنظيم في الموصل خلال عمليات التحرير. تقول لـ"ارفع صوتك" إن القصف" كان قويا، ولم تعد العائلة التي كنت معها تهتم بمصيري".
كانت بهار شاهدة على عمليات القتل والاختطاف والاغتصاب. "في البداية، كان أخي الأصغر معي. لاحقا أخذوه، غسلوا دماغه وتحول إلى مقاتل، ولم أسمع أي خبر منه بعدها على الإطلاق". وهي ذاتها تعرضت "للبيع والشراء لثلاث مرات، قبل أن تستقر مع هذه العائلة بسبب الحمل". وبعد أن وضعت الطفل، تحولت إلى خادمة. "لم يكن أي منهم يرغب أن يعرف الطفل أن والدته أيزيدية". وما إن حانت لها فرصة، تسللت بين العوائل الهاربة من القصف، وإبلغت القوات العراقية أنها أيزيدية مختطفة، وجرى تسليمها إلى عائلتها "لكني فقدت طفلي، وأظن أني لن أراه مرة أخرى أبدا".
الناجيات الأيزيديات..مشاكل نفسية متراكبة
لدى المعالج النفسي خضر إلياس (اسم مستعار) ثمانون حالة لناجيات أيزيديات، بعضهن أنجبن أطفالاً من أفراد التنظيم. يقول لـ"ارفع صوتك" إن جميع الحالات "تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة، مع أنواع من الغضب، واضطراب التحول، الذي يُتَرجِم فيه العقل الألم النفسي إلى جسدي، مثل حالات الإغماء المفاجئ". أما أشد أنواع الاضطراب خطورة "فهي حالات اضطرابات تفارقية، فقدت الناجية خلالها الاتصال بالواقع، وتعيش حياة أخرى مختلفة تماما داخل عقلها".
من الصعب معالجة الحالة الأخيرة، يضرب خضر إلياس المثل بحالة لإحدى الناجيات الأيزيديات، "تم اختطافها وهي بعمر 14 عاما فقط، وتعرضت للاتجار مرات متعددة، وأنجبت طفلا بعد اغتصابها"، لكن سعادتها بالتحرير، "ارتطمت بواقع قتل جميع أفراد عائلتها على يد التنظيم، لتعيش وحيدة في ظروف بائسة". أما الطفل الذي انجبته "فلا تعرف عنه شيئا". هنا، كما يقول المعالج، اجتمعت كل انواع الاضطراب في جسدها الذي لم يتجاوز العشرين عاما، "يقتلها الحنين لوالدتها ووالدها، وإخوتها، ثم إلى طفلها الذي لا تعرف مصيره".
بعد تحرير المختطفات، تم تسجيل حالات عديدة عادت فيها المختطفة إلى العوائل الداعشية في الموصل وسوريا". والسبب، كما يقول المعالج، أنهن يواجهن بعد تحريرهن" واقعا مؤلما، من حيث الوضع الصحي والنفسي، وموت أفراد عوائلهن، كما أنهن يستجدين من أجل الحصول على أساسيات الحياة"، ونتيجة لذلك "تحصل لديهن انتكاسة عاطفية تقودهن للعودة إلى أطفالهن الذين يمثلون السكينة والأمان العاطفي الوحيد، بغض النظر عن كيف جاء هذا الطفل إلى الحياة".
مع ذلك، فإن عودتهن "لا تعني بالضرورة أنهن عدن إلى التنظيم، أو أصبحن جزءاً منه، بل إنهن عدن إلى حيث الأمان العاطفي مع أبنائهن"، يقول المعالج.
أزمة واحدة لأطراف متعددة
تعتبر قضية الناجيات اللواتي اخُتطِفن من قبل أفراد تنظيم داعش، وأنجبن أبناء نتيجة اغتصابهن، من قبل مقاتلين محليين أو أجانب، واحدة من أكثر المشكلات تعقيدا في المجتمع الأيزيدي.
ويرى الباحث المتخصص بالشأن الأيزيدي محمد العبيدي إن "البداية ليست من عند الأيزيديين فقط، لا بد أن يكون هناك حل قانوني وآخر عشائري لقضية الأطفال المولودين من أم أيزيدية مختطفة وأب ينتمي إلى التنظيم المتطرف".
ويضيف الباحث أن الأيزيديين يرون أن غير المقبول أن يتم "تربية ابن جاء نتيجة اختطاف واغتصاب لفتيات أيزيديات وسط مجتمع تعرض على يد والده، وأفراد التنظيم، إلى القتل، والاختطاف، والاغتصاب، وسرقة الممتلكات". هذا الأمر لو تم "عكسه على بقية الأديان، سيتم النظر إليه بنفس الطريقة".
أضف إلى ذلك أن "قوانين الدولة لا يمكن تجاوزها، فلا يمكن نسبة الطفل إلى الأم فقط. وإذا كانت الأم من ديانة غير الإسلام يسجل الابن على ديانة الوالد حسب قانون الأحوال الشخصية"، وهو في هذه الحالة "الداعشي الذي اختطف، واغتصب والدته". وهنا نحتاج إلى التفكير بمستقبل هذا الطفل "الذي ولد في وضع معقد".
وبحسب قانون البطاقة الوطنية الموحدة لعام 2016، يتبع الأولاد القاصرون من اعتنق الدين الإسلامي من الأبوين، كما يعتبر اللقيط ومجهول النسب مسلما عراقيا، ما لم يثبت خلاف ذلك.
"من جهة أخرى فإن الايزيدين، جزء من مجتمع متعدد، ويعيش وسط مجتمع إسلامي"، يقول العبيدي. ويتساءل إذا ما كان هذا المجتمع "يتقبل تربية طفل مسلم، في مجتمع من ديانة أخرى". هذا الامر هو الآخر "يمكن أن يتسبب بمشاكل، إذا لم يتم أخذ رأي المناطق المسلمة المحيطة بالأيزيدين، لأنه موضوع مشترك".
ديانة مغلقة .. وفتوى نوعية
تعتبر الأيزيدية من الديانات المغلقة غير التبشيرية، ولا يمكن اعتبار الشخص أيزيديا إلا إذ ولد لأبوين أيزيديين.
ويتبع الأيزيديون قرارات وفتاوى المجلس الروحاني الأعلى، الذي أصدر في شباط 2015 قراراً بقبول الناجيات وأطفالهن الأيزيدين، وإعادة تعميد جميع أتباع الديانة من الناجين رجالا ونساء وأطفالا. هذا القرار تم إلحاقه بفتوى قبول جميع الناجيات وأولادهن، في نيسان 2019، واعتبار ما تعرضوا له خارج إرادتهم. وقال المجلس حينها، إنه يتعامل بكل فخر واعتزاز وإنسانية وشفافية مع الناجين.
طرح الفتوى بهذه الصيغة، واجه انتقادات واسعة من المجتمع الأيزيدي، ومظاهرات احتجاج، بعد ورود عبارة "النسوة الناجيات وأولادهن"، ما دفع المجلس إلى إصدار توضيح بعد ثلاثة أيام، نفى خلاله التطرق إلى استقبال "أطفال داعش" في فتواه، وقال إن قرار قبول الناجيات وأطفالهن، لم يكن يعني بتاتا الأطفال الذين ولدوا نتيجة الاغتصاب، بل المعنيين هم الأطفال المولودون من أبوين أيزيديين، وتم اختطافهم إبان غزو داعش لسنجار.
ويقول جميل غام المدير القطري لمنظمة يزدا في العراق إنه لا توجد إحصائية بعدد الأطفال المولودين نتيجة عمليات الاختطاف والاغتصاب التي تعرضت لها الأيزيديات، "لكنهم موجودون ومتوزعون في مناطق نفوذ داعش السابقة في العراق، وفي مخيم الهول السوري، الذي نعتقد بوجود مابين 100 و150 امرأة أيزيدية مع أبنائهن فيه".
ويعتبر جميل أن الحل الذي نحتاج إلى تبنيه "يجب أن يكون إنسانيا بالدرجة الأساس، ويراعي واقع الحال، الذي وُضعنا فيه مضطرين". وبالنظر لهذه الاعتبارات، "قدمت المنظمة مقترحاً إلى الجهات الأممية والحكومية، يتكون من ثلاثة مراحل".
المرحلة الأولى: "تشكيل لجنة هدفها التوجه إلى مخيم الهول، والبحث عن الفتيات الأيزيديات، ممن بقين مع مختطفيهم لحماية أطفالهن، وإنقاذهن، بدل البقاء في الوضع البائس للمخيم مع عوائل التنظيم المتشددة، التي تتمكن من السيطرة عليهن كلما طالت فترة بقائهن"، وبالنتيجة يتم "غسل دماغهن، ويصبحن جزءا من التنظيم ذاته، وهذا ما لا يرغب به أحد".
أما المرحلة الثانية فهي: "إعادتهن مع أطفالهن إلى العراق، وتوفير ملاذات آمنة، وتوفير العلاج النفسي، وتأهيلهن، وتوفير سبل العيش الكريم". وتكون المرحلة الثالثة والأخيرة "السماح لهن بتقرير المصير دون تدخل من أي جهة، دينية أو حكومية، وتحقيق رغبتهن سواء في البقاء داخل البلد، أو اللجوء إلى دولة توطين، تعيش فيها مع أطفالها، بكامل حريتها بعد سنوات من الأسر".