تختلف صورة الملك الغساني الحارث بن جبلة في المصادر العربية والبيزنطية عنها في المصادر السريانية. ففي حين يظهر عند الطبري واليعقوبي والمسعودي، وكذلك عند بروكوبيوس وملالاس، مقاتلاً من الطراز الرفيع ضد أعدائه المناذرة من عرب العراق، ومن يقف خلفهم من ملوك الساسانيين، نجده في المصادر السريانية مقاتلاً من مقاتلي المسيح على خطى القديس الجندي سيرجيوس، جعل هدفه خدمة كنيسته السريانية الأرثوذوكسية "ذات الإيمان القويم".
لقاء إعجازي
كان الحارث بن جبلة، شأنه شأن أبناء مملكته، من القائلين بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح (Monophysites)، والذين يفضلون أن يسموا بالأرثوذكس، أي أصحاب الطريق القويم. وترتبط سيرة مؤسس الكنيسة السريانية الفعلي القديس يعقوب البرادعي الذي تسمى هذه الكنيسة على اسمه (اليعقوبية)، بسيرة الحارث بن جبلة، إذ ترد قصة تعارفهما بطريقة إعجازية، في محاولة لتثبيت تلك الصلة الروحية بين أهم رمزين من رموز هذه الكنيسة، الحارث بوصفه الزعيم العلماني ويعقوب بوصفه الزعيم الروحي.
وبحسب سيرة القديس يعقوب المكتوبة بالسريانية، فقد انتاب مملكة الحارث بن جبلة وباء وجوع وصنوف من المحن، واعتزم الحارث زيارة البرادعي في ديره علّ الله يصرف غضبه عن قبائله بصلاته، فاستصحب بعض الأمراء والأشراف، وانطلقوا حاملين إليه مالاً وافراً. ولما اجتازوا نهر الفرات ليأتوا إلى ديره، ظهر له القديس يعقوب بزي نسكه، وقال للحارث: لِمَ شككت يا هذا في هبة الله العلي؟ فعد إلى أرضك مع أمرائك، وأطلق سراح رجل الله الراهب الطورسيني المعتقل عند أحد أفراد قبيلتك، فتنجو حالاً من شر البلايا التي إنما انتابتكم بسببه، ومنذ الساعة لم يرفع عنكم الوباء كما طلبتُ من أجلكم إلى الله. أما المال الذي حملتموه إلينا فليعد معكم، إذ لا رغبة لنا في اقتناء شيء سوى محبة الله. فذهل الحارث ومرافقوه من هذا الحدث الغريب، وعادوا تواً إلى أرضهم، ولما بلغوا قبائلهم، ولاحظوا زوال الوباء عنها، سألوا عن ساعة زواله فتأكدوا من أنها ساعة التقائهم مار يعقوب بالذات. ثم فتش الحارث عن الراهب الطورسيني حتى وجده معتقلاً لدى أحدهم، فحله وأرسله إلى ديره بإكرام جزيل. وأمر بحز رأس معتقله.
الملك المنقذ
ولكن القصة التاريخية التي تربط يعقوب بالحارث رويت في العديد من المراجع التاريخية السريانية، والمأخوذة في مجملها عن المؤرخ المعاصر له يوحنا الآسيوي الذي صاغها كما يلي: "رسم في العام 543 م في العاصمة (القسطنطينية) الأسقفان القديسين يعقوب الذي من دير فسيلتا للرها، وثيودور لجبل حرثا، بطلب من الملك الحارث بن جبلة وبهمة الملكة ثيودورة. وقد رسمهما بابا الأقباط ثاودوسيوس، في الوقت الذي كان فيه للخلقيدونيين في الرها الأسقف أمازون، وهو الـ38 الذي بنى وزين كنيستها الكبرى. أما يعقوب الفسيلتي الذي رسم للرها فكان يتجول في سائر مناطق المشرق، ويرسم أكليروساً للأرثوذكسيين".
ومن المعلومات السابقة نستشف أن الحارث بن جبلة، الذي كان في ذلك الوقت يزور العاصمة، سعى لدى الإمبراطورة ثيودورة، التي تعتبرها المراجع الكنسية السريانية قديسة من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، ونجحا معاً في رسم أسقفين بسبب وجود البطريرك ثاودوسيوس معتكفاً في أحد أبراج القصر الإمبراطوري في القسطنطينية، شبه معتقل، بعد أن تم تعيين بطريرك خلقيدني للإسكندرية بدلاً منه. وكاد رؤساء الكهنة الأرثوذكسيين (القائلين بالطبيعة الواحدة) أن ينقرضوا بسبب الاضطهاد، ووفاة القسم الأكبر منهم، وعدم تجديد الدماء في الجسم الكهنوتي الخاص بهم، والذي شاخ، فكان سعي الحارث بن جبلة لرسم الأسقفين يعقوب وثيودور بمثابة إعادة الحياة لكنيسة كانت في طريقها إلى الزوال.
محاورة لاهوتية
ويروي ميخائيل الكبير محاورة بين الحارث بن جبلة وبين البطريرك أفرام الآمدي الأنطاكي (526 - 545م) بالسريانية أو اليونانية في طبيعة المسيح، وفي مذهبه القائل بوجود طبيعة واحدة فيه. تقول القصة إن "البطريرك أفرام الأنطاكي كان أوفد من قبل الملك جستنيان قبل وفاته إلى الحارث بن جبلة ملك العرب المسيحيين ومعارفهم. فقال للحارث: لماذا تشكون فينا وفي الكنيسة؟ أجاب: نحن لا نشك في كنيسة الله، لكننا نتهرب من الشر الذي أدخلتموه إلى الإيمان، حيث أنكم علّمتم بالرابوع بدل الثالوث، وتكرهون الناس ليتنكروا للإيمان الحق. فقال أفرام: أتعتقد أيها الملك أن مجمع الـ630 كان فاسداً ويستوجب حرمهم؟ لنعتبرهم جميعاً أساقفة، فهل من اللائق نبذهم وقبول الأقلية وهم هراطقة؟ فأجاب الحارث قائلاً: أنا رجل عسكري ولا أتعامل بالكتب، لكني أقدم لك برهاناً، فعندما آمر عبيدي أن يهيئوا طعاماً للجيش، فيملأوا القدور بلحم الغنم والثيران ليطبخوا، ويصادف أن توجد في القدور فارة نجسة. فأستحلفك بحياتك أيها البطريرك: هل يتنجس ذلك اللحم النظيف أم لا؟ فقال: نعم. فقال الحارث فإذا كان لحم كثير يتنجس بفأرة صغيرة نجسة، فكيف لا يتنجس المجتمعون الذين قبلوا البدعة النجسة، حيث وقعوا على طوموس لاون، الفأرة النجسة".
والمقصود بطوموس لاون هو ذلك الخطاب الذي أرسله ليون الأول بابا روما إلى فلافيان بطريرك القسطنطينية في 13 يونيو سنة 449 م. وفيه فرَّق تفريقًا صارخًا بين الطبيعتين الناسوتية والإلهية في شخص المسيح، وهو ما تبنّاه مجمع خلقيدونية سنة 451 م.
ويتابع تاريخ ميخائيل الكبير: "ولما لم يستطع أفرام أن يجيب حاول خداعه عله يتناول قربانه، فقال له الحارث: أنت اليوم مدعو معنا للغداء، ثم قال لخدمه بالعربية أن لا يقدموا سوى لحم الجمل، فلما أعد الطعام طلب الحارث من أفرام أن يبارك المائدة، فارتبك ولم يفعل، أما الحارث فأكل. فقال أفرام: لقد نجستم المائدة بإحضاركم لحم الجمل، فقال الحارث: لماذا إذن تضطرني إلى أن أتناول قربانك وأنت تتنجس من طعامي. اعلم أن قربانك محرم علينا أكثر من كرهك للحم الجمل الذي نأكله، لأن الكفر كامن فيه، وأنت خال من الإيمان القويم. فغضب أفرام وغادر دون أن يتمكن من إغواء الحارث".
سعي لرسم بطريرك
وتخبرنا رسالة بعث بها الحارث بن جبلة إلى يعقوب البرادعي حوالي عام 550م من القسطنطينية بأنه قصد العاصمة لبحث بعض القضايا الكنسية المتعلقة بأبناء كنيسته الأرثوذكسية (السريانية)، وانتخاب بطريرك لأنطاكية من أتباع هذه الكنيسة وهو الأب بولس رئيس الدير الذي اندلعت حوله مشكلة داخل الكنيسة.
وفي فترة لاحقة، نجد أن الحارث بن جبلة كان طرفاً في الخلاف الناشب بين البطريركين المونوفيسيين بولس الأسود، الذي كان مع البابا ثادوسيوس وتقبل الرسامة لكرسي أنطاكية من يعقوب وأوجين، وطمع في كرسي الإسكندرية، وبين أثناسيوس حفيد الملكة ثيودورة، الذي أراده الإسكندريون. وفيما وقف الإمبراطور جوستنيان مع حفيد زوجته أثناسيوس، وقف الحارث بن جبلة مع بولس وأمر أن ينادى باسمه في كنائس السريان، بعد أن لجأ إليه بولس بوصفه خياره الأخير، كون الحارث كان الرئيس العلماني الحامي لطائفة اليعاقبة.
ومن هذا النص يمكن أن نلمس المكانة التي كان يتمتع بها الحارث بن جبلة بين رجال الإكليروس الأرثوذكسيين (غير الخلقيدونيين) ليس في المناطق العربية وسوريا فقط، بل في مصر أيضاً بوصفه الرئيس العلماني لهذه الكنيسة.
طرف في الخلافات الكنسية
وقف الحارث بن جبلة مع يعقوب البرادعي وزميله ثيودور في الخلاف الذي عصف بالكنيسة الأرثوذكسية (المونوفيسية) بعد العام 566م، عندما قال قونون (مطران طرسوس قيليقية)، وأوجين (مطران سلوقية إيصورية) بوجود طبائع وذوات متعددة، أي تبنوا عقيدة تثليث الآلهة، وقد حاول تحقيق المصالحة بين الجانبين، يعقوب والمشارقة من جهة، وقونون وأوجين من جهة أخرى.
وبحسب رواية ميخائيل الكبير، فقد "توجه الحارث ملك العرب إلى الملك (الإمبراطور البيزنطي) ومعه رسائل من يعقوب والمشارقة التي وقعها البطريرك بولس ومعه سبعة أساقفة، جاء فيها: إن الثالوث هو إله واحد وطبيعة واحدة وذات واحدة، وليحرم من لا يوقع على هذا الاعتراف. وعندما عرض الرسائل على قونون وأوجين قالا: نحن لا نوقع بل نناقش الرسالة، فقال الحارث: الآن عرفت أنكم هراطقة، أما نحن وقواتنا فنسلم بهذا ونقبل يعقوب والمشارقة".
وقد ذكر في نص الرسالة نفسها أن البطريق الحارث ومن يرافقه من الرجال المحترمين دعوا الأساقفة في العربية وتوسطوا في هذا الموضوع مرات عدة، لكنهم لم ينجحوا. ومن أجل حسم الموضوع والانتهاء منه كتب يعقوب البرادعي إلى المؤمنين في العربية يعلمهم أنه طلب من الحارث البطريق أن يقوم بعمل جاد لإنهاء هذا الموضوع.
ويظن بعض الباحثين أن الحارث هو الذي أمر ببناء كنيسة الرصافة الكبرى لا الملك جستنيان، ذلك لأن المؤرخ بروكوبيوس لم يشر في أثناء كلامه عن هذا القيصر إلى أي أثر له في هذه المدينة، في حين أشار إلى تسوير الحارث لها، وإلى احترامه العظيم للقديس سرجيوس المدفون فيها، وهو قديس له منزلة كبرى في نفوس مسيحيي عرب الشام.
وثمة مجموعة من النقوش عثر عليها في دير القديس سيرجيوس في موقع حليوروم قرب تدمر، وهو الدير الذي أمر ببنائه الحارث بن جبلة في العام 559م، والذي تحول أيام الأمويين إلى قصر يدعى الآن قصر الحير الغربي. وهذه النقوش محفوظة في المتحف الوطني في دمشق، وقد تمت دراساتها من قبل أكثر من عالم آثار منهم الفرنسي شلومبرجيه.
وعند وفاته في العام 570 م كان الحارث الشخصية الألمع في الشرق، فقد أنقذ الكنيسة السريانية من الاندثار، وحقق انتصارات باهرة على الفرس في أكثر من موقعه، وأصبح الشخصية العسكرية الأقوى في الامبراطورية البيزنطية.